زيلينسكي يرى أن عضوية الناتو ستُنهي المرحلة الساخنة من الحرب    التعاون يتغلّب على الرائد بهدف " في ديربي القصيم    أسباب آلام البطن عند الرجال    الدموع    هدنة لبنان يهددها إطلاق النار الإسرائيلي المتقطع    ضبط (5) يمنيين في جازان لتهريبهم (100) كيلوجرام من نبات القات المخدر    تحركات دبلوماسية تركية روسية إيرانية لاحتواء الأحداث السورية    شخصيات دينية إسلامية تثمن جهود المملكة    "الجوهرة وأسيل" في المركز الأول عربيًا والتاسع عالميًا في الأولمبياد العالمي للروبوت WRO 2024    معرض المخطوطات السعودي يروي حكاية التراث ويكشف نفائس فريدة    دوري روشن: سافيتش يقود الهلال للفوز على الشباب وتضييق الخناق على صدارة الاتحاد    حلول مستدامة لتطوير قطاعي التمور والزيتون    استقلالية "تخصصي العيون".. دعم للبحث والابتكار    مهرجان للحنيذ بمحايل    دورة للإسعافات الأولية    الاتحاد «حاد»    الكويت: صدور مرسوم بسحب الجنسية من الفنان داود حسين والمطربة نوال الكويتية    تركي بن محمد بن فهد يستقبل سفير قطر    ميداليتان عالميتان لأخضر الباراتايكوندو    المركز الإعلامي في حلبة كورنيش جدة.. مجهر العالم لسباق سال جدة جي تي 2024    الأمير تركي بن محمد بن فهد يستقبل سفير قطر لدى المملكة    دوري روشن: ديربي القصيم يبتسم للتعاون بهدف دون رد امام الرائد    قطار الرياض.. 85 محطة منها 4 رئسية تعزز كفاءة التنقل داخل العاصمة    الجمارك تحبط تهريب أكثر من 480 ألف حبة كبتاجون إلى المملكة    مطارات الدمام تشارك في المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير    «سلمان للإغاثة» يدشن المشروع الطبي التطوعي لجراحة العظام في بورتسودان    جامعة الملك عبد العزيز تكمل استعداداتها لإطلاق مهرجان الأفلام السينمائية الطلابية    "الشؤون الإسلامية" تودع أولى طلائع الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين إلى بلدانهم    مجلس الشؤون الاقتصادية يتابع خطوات استقرار أسعار السلع    هل ترى هدنة غزة النور قبل 20 يناير؟    الذهب يرتفع مع تراجع الدولار    "ميسترو".. يوصي بالذكاء الاصطناعي لتحسين العلاج الإشعاعي    قرية القصار التراثية.. مَعْلَم تاريخي وحضاري في جزر فرسان    «الداخلية»: ضبط 19024 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    الكشافة السعودية تستعرض تجربتها في مكافحة التصحر بمؤتمر COP16    "التعاون الإسلامي" تشارك في اجتماع التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين في بروكسيل    "بلاغات الأدوية" تتجاوز 32 ألفًا في شهر واحد    ختام نهائيات الموسم الافتتاحي لدوري المقاتلين المحترفين في الرياض    «فيفا» يعلن حصول ملف استضافة السعودية لكأس العالم 2034 على أعلى تقييم في التاريخ    أستراليا تحظر «السوشال ميديا» على الأطفال    «الإيدز» يبعد 100 مقيم ووافد من الكويت    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    انطلاق فعاليات معرض وزارة الداخلية التوعوي لتعزيز السلامة المرورية    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    بالله نحسدك على ايش؟!    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة صعود المافيا وهبوطها . كوزانوسترا الجريمة المنظمة من ايطاليا الى اميركا 1
نشر في الحياة يوم 30 - 04 - 2001

منذ عقود وكلمة "مافيا" في التداول العام لبلدان الارض، بشعوبها كلها وبلغاتها من دون استثناء. لكن المدهش ان كلمة "مافيا" نفسها، كما اوضح احد زعمائها توماس بوسكيتا في اعترافه امام المحكمة عام 1984، ليست سوى "ابداع ادبي". فالاسم الفعلي للمنظمة، في صقلية الايطالية ولكن خصوصاً في الولايات المتحدة، هو: كوزا نوسترا"، ومعناها: شيئنا، او قضيتنا.
الكلمة والاصل
والأدعى للاندهاش ان كلمة "مافيا"، على ما يرجح نورمن لويس في كتابه "الرابطة الشريفة"، ذات اصل عربي ومعناها، بحسب لويس، "هناك امان". وأغلب الظن، اذا صح هذا التقدير، ان يكون الاصل العربي المقصود "ما في"، بمعنى استبعاد الخطر او الشر، وهو ما نقل الى الايطالية "مافيا". على انه، وفي منتصف القرن التاسع عشر، وفرت القواميس الايطالية الصادرة في صقلية معاني مختلفة للمصطلح. فأحدها، وهو صادر في 1868، ينص على ان المافيا تعبر عن "الشجاعة المتهورة والكرامة، ويقال: يا له من حصان مافيوي". الا ان قاموساً آخر صدر في 1876 عادل المافيا "العصابة".
وربما عكست هذه التعريفات المعاني المختلفة، انما المتصلة، للكلمة تبعاً لموقع المتحدث وموقفه، او لتحولات طفيفة في الازمنة. ولم يفت لويجو بارزيني، بدوره، في كتابه "الايطاليون" الصادر عام 1964، ملاحظة ان الميم اللاتينية في المافيا ينبغي ان تكتب صغيرة حين يكون المقصود الشجاعة والكرامة، وكبيرة حين تدل على المنظمة السيئة الصيت.
ومع الزمن، وبسبب تعدد وظائفها صار يقال "مافيا التعمير" و "مافيا التهريب" و "مافيا الاشغال العامة" و "مافيا توزيع الخضار والفاكهة بالجملة". لكن ربط الاسم بالأجزاء لم يحل دون ربطها بالكل، وكان ذلك في الولايات المتحدة. فهناك عمت التسمية، اوائل الثلاثينات، رمزاً الى منظمة بعينها ونشاط بذاته، ومن دون ان يختفي تعبير كوزا نوسترا من التداول، استخدمت لها ردائف ك "النقابة" و "المنظمة" و "الرعاع" او "الحثالة".
والحق ان هذه الرابطة الصقلية الاصل ولدت في مجتمع فلاحي بالغ الفقر والتخلف، عشائري تعصف به الثارات الدموية، فيما يحكمه ملاك ارض مستبدون وكاثوليكية متأخرة لم تتعرض لرياح الاصلاح الديني، ومن قبله النهضة والتنوير اللذين اعتز بهما شمال ايطاليا ووسطها. وقد سادت هذه الجماعة الجنوبية علاقات وجاهية بين أقارب وجيران وخصوم بعيداً عن تجريد العلاقة بالدولة والقانون، خصوصاً ان الدولة الوحدة الايطالية الحديثة العهد ظلت مكروهة من عموم الجنوبيين بوصفها دولة "الاحتلال الشمالي". لكن دولة الوحدة، بدورها، لم تحاول جدياً دمج الجنوب، اقتصادياً وادارياً، في دورة حياة جامعة، فوفر المافياويون الأوائل "قانوناً ونظاماً" لم ينجح الموظفون الرسميون في توفيره. هكذا، مثلاً، جبوا الضرائب في مقابل توفير الحماية من العصابات. وكانت الدولة تشجعهم، هي الفاترة الحماس لدمج الجنوب، كي ينوبوا عنها، حافظة لهم حصتهم. ولما كانوا من عائلات قرابية لحمتها الدم والعصبية، غدوا ضرورة انتخابية لقادة الاحزاب في الشمال يطلبون رضاها ويخطبون ودّها.
تحولات و "قيم"
وهذا لا يلغي ظهور تغيرات تفرض نفسها على العلاقة بين المافيا والسلطة السياسية. فقد وقف رجال المافيا الاوائل مع غاريبالدي ووحدته الايطالية مشاركين في تنظيم الاستفتاء المؤيد لها في الجنوب نكاية بكبار الاقطاعيين والارستقراطيين الصقليين ممن عارضوها. لكنهم لاحقاً ابدوا مخاوفهم من كل محاولة تبذلها الدولة لأن تكون دولة فعلاً، ما يؤدي الى فرض سلطتها على الجنوب وادماجه فيها. وبلغ الخوف هذا ذروته مع موسوليني الذي رفع عبادة الدولة ووحدتها الى ابعد الحدود، فعارضوا الموظفين الذين ارسلهم والمحاكم التي اقامها هناك. هكذا شن الزعيم الفاشي بعيد وصوله الى السلطة حملة عليهم انتهت بعد ثلاث سنوات، في 1927، مؤدية الى سجن قادتهم بمن فيهم زعيمهم الابرز دون كالو وتبديد تنظيماتهم. يومها انضم بعض المافياويين الى الحزب الشيوعي وهرب بعضهم الآخر فلم يعد الى ايطاليا الا وقد انتهت الحرب العالمية الثانية.
وفي هذه الغضون لم تكف المجموعات القرابية والدموية عن تعديل تنظيماتها واشكال عملها، مستجيبة للتغيرات الطارئة على صقلية التي اضحت اشد تصنيعاً وتمديناً. ففي مطالع القرن العشرين، مثلاً، صار لكل جماعة رئيس وطقوس في تنسيب "رجال الشرف"، وهي التسمية التي يطلقها اهل كوزا نوسترا على انفسهم. الا ان الحدود كانت تزداد امحاء بين جمع الضريبة وفرض الخوة، وبين المحافظة على الأمن نيابة عن الدولة وارتكاب الجريمة.
وباتت المافيا تعرف بسجل متكامل من "القيم" والمواقف. فقيل ان المافيوي العائلي والمؤمن، على طريقته في الايمان، يمكن ان يقبّل يد أمه ويطلب رضاها ثم يغادر البيت ليقتل اول من يلتقيه في الشارع. وبعدما كان "الثأر للضعفاء" والثأر من القيم الوثيقة الارتباط بعلاقات الدم من شيمهم، تحولوا بعد الحرب العالمية الثانية تحولاً نوعياً. فقد اتسع نشاطهم، ايطاليا وأميركيا، كما تعاظمت ثرواتهم، فصاروا اقرب الى كبار الاقطاعيين الذين كانوا في البداية "يثأرون" منهم للضعفاء. وكان ما يحفز تغيرهم الذي حملهم على قمع تمردات فلاحية في صقلية، واغتيال قادتهم احياناً، ان بعض رموزهم انتموا الى الحزب المسيحي الديموقراطي الذي حكم ايطاليا منذ انتهاء الحرب الثانية حتى انتهاء الحرب الباردة. والى خوفهم من نمو الحزب الشيوعي ونفوذه، لم يكتم المافياويون حاجتهم الى عطف الدولة لأسباب عدة منها التنفيعات ومشاريع الالتزام، ومنها المناخ الآمن لترميم شبكتهم بعد الضربات الموجعة التي انزلها بهم موسوليني.
التنظيم والقسم
ويبدو من دلائل كثيرة تجمعت في ايطاليا كما في الولايات المتحدة، ان المافيا منظمة رفيعة التنظيم والهيكلة، ذات قواعد محددة واجراءات انتساب وهرمية تراتبية واضحة المعالم.
وحتى وقت قصير كان تنسيب الاعضاء اليها يتم بموجب طقوس موسعة لا تختلف الا في التفاصيل الصغيرة بين جماعة وأخرى. فالمنتسب يطلب منه ان يخز اصبعه ويذرف دمه على صورة ورقية لأحد القديسين الكاثوليك او للعذراء مريم، ثم يحمل الصورة نفسها بين يديه فيما يحرقها الآخرون من قدامى التنظيم كي يتحمل بنفسه ألم احتراقها. وبعد ذاك فقط يبدأ تمريرها من يد الى اخرى الى ان تحترق كلها وتزول كلياً. وفي هذه الغضون يوالي الجميع اشهار قسمهم القائل: "ليحترق لحمي كما يحترق هذا القديس اذا ما اخللت بتعهدي".
وترجع الاشارة المكتوبة الاولى الى وجود مثل هذا القسم الى 1877 والى صقلية بالذات. كما تؤكد استمرار العمل به حتى 1990 على الاقل، وثيقة تعود الى هذا التاريخ حصل عليها الأف. بي. اي. في نيو انغلند بالولايات المتحدة. وأهمية القسم، على اي حال، مزدوجة. فبسببه يتوافر لأعضاء الجماعة، او "رجال الشرف"، على ما يميزهم عن سائر المجرمين والقتلة، بمن فيهم اولئك الذين تستخدمهم كوزا نوسترا استخداماً عابراً ومياوماً. كذلك توضح طقوس القسم ان العضوية على مدى الحياة، لا تقبل الاستقالة منها ولا الانسحاب او التخلي.
وهذا ما يناقض نظريات عدة ارتكزت عليها افلام سينمائية لا حصر لها، مصورة المافيا كهيئة لزجة وعلاقات فورية ومفتوحة. ففي ايطاليا ينتسب كل واحد من "رجال الشرف" الى "عائلة" من العائلات تكون لها سلطة فرض "قانونها" على تلك البلدة الجنوبية او ذاك الحي في مدينة باليرمو عاصمة صقلية. وكلمة "عائلة" ربما كانت ذات مصدر اميركي حديث نسبياً، اذ سبقتها في الاستخدام كلمة "كوسكا" التي شاعت في ايطاليا القرن التاسع عشر. وكوسكا تعني حرفياً ثمرة الارضي شوكي لأنها وان تفرعت عنها اوراق كثيرة، صلبة وكثيفة، تبقى ذات قاعدة مكينة واحدة.
لجنة باليرمو
وتنقسم العائلات الى مجموعات تضم واحدتها عشرة أفراد، فيما يشارك الاعضاء جميعاً في انتخاب رئيسها، علماً ان المعدل الوسطي للعائلة خمسون فرداً. وفي باليرمو، وهي قلب كوزا نوسترا النابض، ينشط ما بين ثلاثين وخمسين عائلة تتوزع في ما بينها عشر مناطق نفوذ او أزيد قليلاً، كل منها تنتخب عضواً في "اللجنة" التي تملك سلطة وصلاحيات على المنطقة كلها. ويبدو ان هذه العائلات زاد عددها في الثمانينات، حين بلغ نفوذ المافيا ذروته، فوصل في صقلية الى 105 عائلات منها 46 في باليرمو، و36 في اغريغنتو، و14 في تراباني.
وعلى عكس صقلية فالأقاليم الاخرى ليست لديها روابط تنظيمية توحد "عائلاتها"، ومن غير الواضح ما اذا كانت هذه العائلات ممثلة في "لجنة" او خاضعة لرئيس. لكن يبقى ان البنية الاجمالية وعدد التنظيمات يدلان على هيمنة باليرمو على سائر صقلية، من دون ان يوحي ذلك بأي ضعف ينتاب نشاط المافيا في باقي الاقليم.
ولجنة باليرمو السيئة الصيت والمعروفة ب "كوبولا" اختراع حديث، الا ان سابقاتها وجدت في اواخر القرن التاسع عشر. وغالباً ما يربط دارسو المافيا الشكل الجديد للجنة بالمؤتمر الداخلي الذي انعقد في 1957 في "فندق دي بالم" في باليرمو نفسها، والذي سنعود اليه لاحقاً. فلأن المافيا الاميركية كانت يومها في عز مجدها ونجاحاتها، اتجهت الانظار الى تعديل اللجنة كي تصبح على غرار ما هو معمول به في الولايات المتحدة.
والحال ان اللجنة لم تتمتع على الاطلاق بصلاحيات حكومة فعلية. لقد كانت اقرب الى برلمان من الاقطاعيين الذين يحتفظ كل واحد منهم "حقه" في اللجوء الى القوة ان لم يأخذ البرلمان مصالحه في الاعتبار. اما بمصطلحات اقتصادية، فهي اقرب الى الكارتيل منها الى الشركة الخاضعة لمجلس ادارة بعينه. لهذا غالباً ما اصطدمت قدرتها على التنسيق بين نشاطات المافيا بصراعات القادة، فيما عجزت، للسبب نفسه، عن اسباغ الاستمرارية على عملها.
فهي انهارت ابان "الحرب الاولى" التي شهدتها عائلات المافيا في صقلية والتي امتدت من عام 1957 الى عام 1963. وفي عام 1969 انتقلت السلطة العليا الى مجلس ثلاثي ضم سلفاتوري توتو ريئينا وستيفانو بونتاتي وغايتانو بادالامينتي. وكان ريئينا الزعيم والموجه للوتشيانو ليجيو الذي عرف بشراسته في بلدته كورليوني الواقعة في الامتداد الداخلي البري لباليرمو. لكن حين تمكنت السلطات من اعتقال ليجيو ضعف موقع سيده رينينا حيال زميله في المجلس، فاضطر ببراعته القصوى ودمويته غير المحدودة ان يعدل توازن القوى المستجد، متخلصاً من سائر قادة المافيا الذين نافسوه او هددوا سلطته. وبقيت العلاقة بين باليرمو وباقي المراكز في صقلية غامضة. ورغم ان زعماء المافيا اسسوا في عام 1975 لجنة مناطقية لعموم صقلية، ظلت لجنة باليرمو التي اعيد انشاؤها في عام 1973 مصدر السلطة الفعلي حيث تتخذ القرارات الاهم والاخطر. ذاك ان التقاء الزعماء على نطاق الاقليم كله لم يكن من الامور السهلة امنياً التي يمكن تكرارها. وفي المقابل يبدو ان ريئينا انشأ تحالفات مع الزعماء خارج باليرمو لتعزيز سلطته داخلها واستخدام لجنتها، من ثم، بما يلائم مصالحه.
بين الاميركان والطليان
ويخطئ من يظن ان كوزا نوسترا الايطالية وكوزا نوسترا الاميركية شيء واحد. ذاك ان العلاقة بينهما لا تتعدى الروابط الشخصية لرجالات الطرفين، وأحياناً الاستعانة العابرة لواحدهما بالآخر. واذا كان الاصل الايطالي يجمع بينهما، ويقول كل من الطرفين انه عزيز عليه، فهذا لا يلغي احتدام التنافس والنزاع بين وقت وآخر.
والقصة، في مطلق الحالات، طويلة. ففي مطالع القرن العشرين هاجر عشرات آلاف الصقليين والايطاليين الجنوبيين الى المدن الكبرى في شرق الولايات المتحدة، حيث اقاموا في احياء متجاورة، على ما اعتادوه في بلدهم الاصلي. وهناك لم يفعل الحاح الاقليات الكثيرة الوافدة حديثاً على الاندماج، وميول الصد لدى الجماعة البروتستانتية الاصلية، غير اضافة سبب آخر الى اسباب الجريمة المدينية. وفعلاً ففي اواخر العشرينات، وفيما الازمة الاقتصادية في ذروتها، ارتسمت صورة الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة على شكل "حروب عصابات صغرى". وفي النزاعات هذه راحت كل مجموعة مهاجرة ومتجاورة السكن تبحث عن حمايتها لدى "ابنائها" المسلحين. وبدورهم انشأ مسلحو المهاجرين الايطاليين، لا سيما الصقليين منهم، تحالفاً في ما بينهم لمواجهة عصابات الجماعات الاثنية الاخرى.
بعد ذاك، وخلال عامي 1930 و1931 كادت العصابات الايطالية المؤتلفة تفني واحدتها الاخرى في حروب مريرة بينها، فاستقر الامر على تسوية انهت المواجهات لكنها اسست لاستفحال الجريمة المنظمة على نطاق وطني. وقد قضت "معاهدة السلام" العائدة الى 1931 بتقسيم الولايات المتحدة قرابة ثلاثين منطقة نفوذ كل واحدة منها يتولاها زعيم صغير كابو بالايطالية يحظى فيها بدرجة بعيدة من الاستقلال. هكذا عملت المعاهدة هذه، التي استمر العمل طويلاً بها، على خلق ما يشبه كونفدرالية للاجرام تتغذى من السيطرة على مجمل نشاطات القمار غير المشروع. وراح الافراد الاكثر طموحاً من المافياويين يستوردون المخدرات ويوزعونها في "البنية التحتية للقمار" اي كازينوات المنظمة وعلبها الليلية.
ومن خلال التواطؤ مع قطاعات فاسدة ومراتب نافذة في الشرطة الاميركية، فضلاً عن اختراق بعض النقابات العمالية وفي عدادها قادة تاريخيون كجيمس هوفا للنقل البري، اتسعت وظائف كوزا نوسترا الاميركية وتضاربت احياناً. فمرة كان ناشطوها يبتزون رب عمل لمصلحة العمال بعد ان يقتطعوا حصتهم من العائد الذي يحصلونه، ومرات كانوا يهددون العمال ويكسرون اضراباتهم لمصلحة ارباب العمل، مستفيدين من اجواء المكارثية خصوصاً، والحرب الباردة والعداء الاميركي للشيوعية عموماً.
وهذا من دون ان يلغي حضور المافيا، عبر واجهات من الاسماء "المحترمة"، في عدد من النشاطات المشروعة: كتملك حصص في آلات بيع السجائر او آلات الاسطوانات juke boxes فضلاً عن امتلاك اعداد من دكاكين التجزئة والمطاعم والبارات والفنادق وشركات النقل البري والمواد الغذائية وتجهيزات البيوت وجمع النفايات وبعض المعامل الصغرى.
ولئن تدفق على الولايات المتحدة بين 1951 و1961 ما يعادل 10 في المئة من مجموع السكان الصقليين، معظمهم شبان، شكل هؤلاء جسراً بين التنظيمين الاميركي والايطالي. غير ان الجسر ما لبث ان انقطع بفعل الفرز المتسارع الذي كان يستحيل اجتنابه: فأعضاء المافيا الصقلية لم يكن من المستساغ قبولهم في كوزا نوسترا الاميركية قبل انقضاء فترة انتظار طويلة تتخللها المراقبة وجمع المعلومات. كما كان من غير المسموح لهم ان يتحدثوا علناً في الامور التي تخص "عائلاتهم" الاصلية، كي لا تنتقل العدوى والعداوات الايطالية الى العصابة الاميركية.
ومن الغني بالدلالة ان المافيوي الاميركي الشهير لاكي لوتشيانو الذي تم ترحيله الى ايطاليا وصوّره فيلم لعب فيه رود شتايغر دور البطولة، لم يتمتع بأي موقع او حظوة لدى المافيا الصقلية. وهو، بعد نفيه، ركز عمله في مدينة نابولي كي لا يتقاطع نشاطه ونشاط تلك المافيا. والانفصال انما ترتبت عليه نتائج مهمة ومفارقة: فعلى نحو مفاجئ جداً كشفت تحقيقات الاف. بي. اي. في "عملية البيتزا" اوائل الثمانينات، ان ابرز وجوه تجارة الهيرويين في الولايات المتحدة اعضاء في كوزا نوسترا الصقلية، مع انهم حصلوا على "الترخيص" لعملهم هذا من المنظمة الاميركية، وكانوا يستخدمون، بين وقت وآخر، بنيتها التحتية. ويبدو ان التفاهم هذا هو ما تم التوصل اليه في قمة 1957 في "فندق دي بالم": يومها كان البوليس الاميركي يحاصر المافيا الاميركية، ما ادى الى حصر تورطها، وتورط افرادها، في تجارة المخدرات وتسليم الراية، تالياً، الى الايطاليين.
على انه ما ان ازفت اواخر السبعينات حتى ابدى الاميركان بعض الندم على تقديم ذاك التنازل، علماً باستحالة نقضه وقد مر اكثر من عقدين على العمل به. ذاك ان كوزا نوسترا الاميركية بدأت تواجه صعوبات حادة في تنسيب شبان جدد من اوساط الايطاليين - الاميركان المندمجين والصاعدين في الحياة الاميركية، وهو ما لم يتعرض له الصقليون اصلاً. ف "القريب" الصقلي، او العضو الجديد، كان لا يزال شاباً عنيفاً مستعداً للعمل السري وحريصاً على الروابط الدموية وطاقتها التعبوية، حتى انه اثار الهلع لدى ابن عمه الاميركي. ويتذكر من شاهد فيلم "العراب" لماريو بوزو، بأجزائه الثلاثة، كيف ان المافيا الاميركية استعانت غير مرة بعناصر من صقلية لأداء المهمات الصعبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.