"يخطئ من يعتقد ان المافيا الايطالية، خصوصاً عصابات كوزا نوسترا الصقلية في حال تشرذم او بدأت تتخبط بعد اعتقال زعيميها التاريخيين توتو ريينا ونيتوسانتا بارلا، وعلى رغم ان "كوزا نوسترا" لم تتمكن بعد من اختيار زعامة جديدة لها، وان ريينا زعيمها بلا منازع معتقل في سجن انفرادي بدأت محاكمته في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي فان التطور الذي شهدته المافيا في الثمانينات جعلها مؤسسة او بالاحرى امبراطورية مالية متشابكة المصالح ليس في ايطاليا فحسب بل في اوروبا والولاياتالمتحدة واميركا اللاتينية ايضاً"... هذه العبارات قالها ل "الوسط" القاضي انطونينو كابونيتا الذي ادار لسنين طويلة النيابة العامة لميلانو ويعتبر "الأب الروحي" و"المعلم" لكثيرين من قضاة باليرمو الايطالية، ومن بينهم جوفاني فالكوني وباولو بورسيللينو اللذان اغتالتهما المافيا في حادثي تفجير مروعين في ايار مايو وتموز يوليو العام الماضي. كابونيتا لا يبدو على رغم سنواته الثمانين، محارباً قديماً، فهو لم يعلق جبة القضاء على الجدار، ويقول: "ما دامت ساقاي قادرتين على حملي، وهذا الخيط الواهي من الصوت يسعفني، سأجول على المدن والقرى الايطالية لأؤكد للناس ضرورة عدم التراخي مع المافيا، فالنجاحات التي حققتها الدولة، بعد اعترافات النادمين كبيرة، لكنها ليست كافية لتوجيه ضربة قاضية الى المافيا ومصالحها". ولكن الا يعقل ان تكون الدولة عاجزة عن هذه الضربة؟ يجيب كابونيتا: "المافيا، وكوزا نوسترا بالذات، انتقلت في العقد الاخير الى مرحلة جديدة تميزت باعادة استثمار الاموال الهائلة التي كومتها من خلال تجارة المخدرات وتهريب السجائر وفرض الاتاوات. وهي اموال تعجز الارقام حتى الآن عن تحديد حجمها. وشعرت كوزا نوسترا بضرورة استثمارها مجدداً لتحقيق هدفين، اولهما اعادة تنظيف الاموال القذرة والثاني تحريك الاموال لزيادة ارباحها وفوائدها المصرفية". وليس توتو ريينا، الفلاح القصير القامة حامل الشهادة الابتدائية من يدير هذه الاستثمارات، بل ان الثروة الهائلة التي تمتلكها المافيا وسطوتها في فرض ما تريد سحبتا الى شباكها عدداً كبيراً من رجال الاعمال والمستشارين واصحاب الخبرة في المضاربات المالية واستثمار الاموال. هؤلاء، سواء تحت الضغط والخوف من انتقام المافيا او باقتناع وبدافع اتفاق المصالح، ما زالوا يديرون تلك الثروة غير آبهين بالنتائج، فالمافيا في رأيهم قادرة على حماية من ينصاع اليها والى مصالحها من دون اي اعتراض او انتقاد. ولأن ثروتها واستثماراتها بلغت مبلغاً ضخماً وللتخلص من مراقبة "العيون الحذرة"، وسعت "كوزا نوسترا" علاقاتها مع المصارف الاوروبية، وبديهي ان سويسرا "الجنة الضرائبية" كانت المحطة الاولى، تلتها لوكسمبورغ فالنمسا. وتشير احصاءات الى ان عدد الحسابات المصرفية السرية الموجودة في النمسا يعادل اضعاف عدد سكان هذا البلد. ويعتقد ان قسماً كبيراً من هذه الحسابات يعود الى ايطاليين، سواء كانوا من المافيا ام من الذين كوموا ثرواتهم من خلال الرشاوى وابتزاز مؤسسات ايطالية. وربما تقاطع بعض هذه الحسابات مع نشاطات المافيا. وكان القاضي جوفاني فالكوني امسك برأس خيط مهم في هذه الشبكة، من خلال التعاون مع كارلا ديل بونتي التي ترأس النيابة العامة في محافظة لوغانو عاصمة الكانتون الايطالي في سويسرا. ولا يستبعد ان تكون مافيا "كوزا نوسترا" هي التي اغتالت فالكوني بأسلوب "استعراضي" رهيب لأنه اوشك على كشف تفاصيل مهمة كان من شأنها ان تؤدي الى نتائج ايجابية في حرب الدولة الايطالية ضد المافيا. والدليل على ذلك التصريحات التي أدلت بها القاضية كارلا ديل بونتي بعد يومين على اغتيال فالكوني، اذ قالت: "كنا على موعد في لوغانو ... ومنذ حزيران يونيو 1989، بعد فشل المحاولة الاولى لاغتياله حدثني عن الاخطار التي تحيق بحياته من قبل عصابة مادونيا، احدى عائلات "كوزا نوسترا" الاكثر قسوة وعنفاً". ويقول المحامي باولو بيرناسكوني الذي تعاون فترة طويلة مع القاضي فالكوني في اطار التحقيقات المصرفية السويسرية: "مطلع الثمانينات وبينما كان يحقق في عملية بيتزا كونكشن التي نفذت مع مكتب التحقيقات الفيديرالي الاميركي وادت الى اعتقال عدد كبير من رؤوس المافيا الايطالية والاميركية توصل فالكوني الى اقتناع مفاده انه اذا اراد الوصول الى نتائج مهمة في مكافحة المافيا، عليه فتح ملف الاموال غير القانونية التي تتشكل منها ثروة المافيا، فتعاون مع قضاة الدول الاخرى، وكان قادراً على استيعاب مبادئ القوانين السائدة في هذه الدول وفلسفتها، خصوصاً الولاياتالمتحدةوسويسرا اللتين تعاونتا تعاوناً جيداً لانجاح عملية بيتزا كونكشن". ويتابع بيرناسكوني: "فالكوني كان يصطدم دائماً بالعوائق التي وضعها امامه موظفون كبار في الدولة، كانوا يحصلون على اموال طائلة في شكل اسهم في مؤسسات مالية في مقابل منح المافيا الاولوية في المناقصات الخاصة بمشاريع البناء الكبيرة". وعلى رغم المعارضة والتردد اللذين ابدتهما في البداية دول مثل سويسراوالنمسا ولوكسمبورغ ازاء التعاون مع ايطاليا لكشف اسرار العمليات المصرفية والمالية التي تمكن المافيا الصقلية من "غسل اموالها القذرة"، يبدو ان هذه الدول ايقنت تعذر بقائها "جنات ضرائبية" من دون ان تتأثر، على الاقل في المستقبل المنظور، بوجود المافيا كقوة مالية هائلة. لذلك بدأت تفتح ابوابها بحياء امام عمليات التحري والاستقصاء التي يجريها القضاء الايطالي. وربما كان هذا هو السبب الذي دفع المافيا في السنين الاخيرة الى التفكير في نقل مراكز نشاطها المالي الى اماكن اخرى، واوروبا الشرقية بالتحديد. ف "عصابات الاجرام المنظم" حسب القاضي انطونينو كابونيتو "كانت تشعر بحاجة كبيرة لاستثمار هذه الاموال الطائلة وتحريكها، فتوجهت الى اوروبا الشرقية". ويعتقد عالم الاجتماع بينو آرلاكي الذي درس ظاهرة المافيا لسنين ان "هذا الزحف نحو الشرق الاوروبي بدأ على مراحل، قبل انهيار جدار برلين بسنوات وبالتحديد من بلغاريا والاتحاد السوفياتي، وهما البلدان اللذان اتاحا شيئاً من المرونة ازاء العملة الصعبة، وكانا بمثابة "جنة ضرائبية" ساعدت المستثمرين والمضاربين الاجانب، وسمحت لكثيرين بايداع الاموال في المصارف بالعملة الصعبة، وضمنت لهم السرية الكاملة". ويشير آرلاكي الى ان "المرحلة الاولى كانت خالية من الاستثمارات الحقيقية، بسبب القيود التي فرضتها تشريعات البلدان الشرقية، على رغم ضمانها السرية التامة لأصحاب الحسابات المصرفية". وعن تسبب اختيار المافيا بلغاريا والاتحاد السوفياتي السابق محطتين رئيسيتين، يقول آرلاكي: "بلغاريا تقع على طريق الخط البلقاني لمرور المخدرات، واختيار الاتحاد السوفياتي مرده ان موسكو عرفت بكونها المكان الذي يمكن ان تجري فيه عملية تنظيف الاموال القذرة، ابان تطبيق الاتحاد سياسة التوسع منذ بداية الستينات". ويرى ان "غياب سياسة غربية واضحة المعالم لمصلحة انماء الاقتصاد في بلدان اوروبا الشرقية، اضافة الى فشل سياسات الكثير من حكومات هذه الدول سيؤديان الى ازدياد دور منظمات الاجرام المنظم، ففي الاتحاد السوفياتي السابق مافيا شبيهة بالمافيا الايطالية، تعتمد في بناء ثروتها على الاتاوات والاتجار بالعملة في السوق السوداء". صواريخ ارض - جو ومعروف ان المافيا تسعى دائماً الى "تثبيت" الاوضاع لتتمكن من انجاز استثماراتها وتنفيذ سياساتها، فهل اخطأت في حساباتها عندما ركزت اهتمامها على بلدان المعسكر الشرقي السابق، والتي تجتاز مرحلة قلقة لا تبدو فيها آفاق الاستقرار في المدى القريب؟ يقول القاضي كابونيتو ان "المافيا كانت في حاجة ملحة الى تحريك ثرواتها، واشترت احياء كاملة في وارسو وبراغ وفي بلاد مثل بلغاريا وروسيا والمانيا، واشترت فنادق ومطاعم وواضح ان ليس لديها حتى الآن مخطط واضح المعالم. لكن هذه مرحلة جديدة من مراحل توسع الاخطبوط المافياوي قد يتصل بمصالح شبكات تجارة السلاح، والبلدان الشرقية مخزن مفتوح ونعلم ان المافيا اشترت من المانياالشرقية سابقاً 4 آلاف رشاش كلاشينكوف وصواريخ ارض - جو". ولكن بماذا تفيد هذه الصواريخ المافيا الصقلية؟ يجيب كابونيتو: "المشروع الاجرامي للمافيا واسع، وعلمنا انها كانت تحاول الاستفادة من بعض هذه الصواريخ لاسقاط طائرة الهليكوبتر التي يستخدمها رئيس النيابة الحالي جان كارلو كازيللي في باليرمو بعدما تعرفت الى مسار تنقلاته". وهل تعني هذه النقلة النوعية ان المافيا تفكر في تركيز اهتمامها على تجارة السلاح، وربما تغذية الحروب الاقليمية، والتخلي عن تجارة المخدرات التي مثلت لسنين طويلة المصدر الاساسي لثروتها؟ يستبعد كابونيتو ان تفكر "كوزا نوسترا" في الاقلاع عن تجارة المخدرات "لانها تجارة مربحة ولا تفكر في المزاح الثقيل مع عصابة ميديلين الكولومبية التي قتل زعيمها بابلو ايسكوبار قبل ايام، ولأن ايطاليا تمثل معبراً مهماً في حركة المخدرات، فان اقلاع المافيا الصقلية عن هذه التجارة سيلحق اضراراً جسيمة بالعصابات الكولومبية التي لن تغفر هذا الموقف". ومع ذلك، فان ثمة تطابقاً في المصالح بين مافيا كوزا نوسترا والمافيات الشرقية لتوسيع تجارة الاسلحة، ومثلما تحتاج تجارة المخدرات دائماً الى توسيع سوق الاستهلاك وزيادة عدد المدمنين، فان سوق السلاح تحتاج الى حروب جديدة وطويلة كالحرب الدائرة في يوغوسلافيا السابقة. وضبطت الشرطة الايطالية اكثر من مرة كميات من الاسلحة الخفيفة والذخائر كانت تتحرك عبر الحدود مع "يوغوسلافيا". لكن القاضي كابونيتو لا يرى ان للمافيا الايطالية دوراً اساسياً في استمرار الحرب في البوسنة ويقول: "هذه الحرب نتاج لصراعات قديمة لم تحل ادت الى هذا الانفجار العنيف، لكن هذا لا يعني ان المافيا لن تستفيد من الوضع وتحاول التسلل لممارسة دورها القذر". ولا يستبعد كابونيتو ان تتمكن المافيا يوماً من تحديد شكل الحكومات في عدد من الدول الشرقية، مثلما تمكنت من حمل رئيس وزراء في احدى جزر البحر الكاريبي الى سدة الحكم.