كانت المعركة حامية جداً. وكان أهل المهنة وملايين المهتمين يتوقعون مفاجآت وأرقاماً قياسية. وكان الفرنسيون ينتظرون بصبر. وحدهما ستيفن سودربرغ وجوليا روبرتس كانا مطمئنين. جوليا كانت تعرف تماماً أنها ستفوز بجائزة أفضل ممثلة. وسودربرغ، الذي ينافس نفسه على جائزة أفضل فيلم، كما على جائزة أفضل مخرج، كان لسان حاله يقول، كما فعل هارون الرشيد يوماً حين خاطب سحابة في يوم جاف: "دوري دوري سوف تصببن في نهاية الأمر عندي". وعلى رغم انه لم يفز إلا بأربع جوائز عن فيلمه "التهريب"، وهو أحد أفضل ما جاء في هوليوود في الشهور الأخيرة، وبجائزة واحدة لفيلمه الآخر "ايرين بروكوفتش" كان له ان يبدي عظيم الرضا، لأنه فاز بكل ما كان رشح للفوز به، باستثناء جائزة افضل فيلم التي ذهبت الى "المصارع" من إخراج ردلي سكوت. سودربرغ الذي يلقب الآن بطفل هوليوود المعجزة، فاز بجائزة افضل مخرج وفيلمه "التهريب" فاز بجائزة أفضل سيناريو مقتبس، كما ان سودربرغ مكن جوليا روبرتس من الفوز بجائزة أفضل ممثلة بعد انتظارها الطويل لذلك، ومكن بنيتشيو ديل تورو، من ان يسجل نقطة هامة في مسيرته الصاعدة، إذ فاز عن دوره المتميز في فيلم "التهريب" بجائزة أفضل ممثل مساعد. هذا كله فيه ما يرضي ستيفن سودربرغ، غير أن هذا لا يعني انه حقق اول انتصار كبير له يمكنه ان يعتبره منعطفاً في حياته وعمله. المنعطف كان قبل سنوات طويلاً، وتحديداً حين كان لا يزال في الرابعة والعشرين وحقق فيلمه الأول "جنس وفيديو وأكاذيب" ليفوز به بالسعفة الذهبية في مهرجان "كان". فيلمان لمخرج واحد غير ان اللافت، هو ان يشارك سودربرغ وفي عام اوسكاري واحد بفيلمين له، يرشحان لنيل جوائز رئيسية، بمعنى أنه نافس نفسه بنفسه بين آخرين. وهو أمر لم تعرفه الأوسكار منذ العام 1939. وهذا الأمر يعتبر في حد ذاته قفزة نوعية لشاب طموح، لا يعتبر نفسه صاحب ثورة ولا صاحب مدرسة. ويبدو، هو، أكثر الناس استغراباً لفوزه. في هذا المعنى، ربما يمكن اعتبار ستيفن سودربرغ، أسعد الفائزين في الدورة الثالثة والسبعين لتوزيع جوائز الأكاديمية الأوسكار في لوس انجليس، بداية الأسبوع الفائت. فلئن كان فات "التهريب" ان يفوز بالجائزة الكبرى: جائزة افضل فيلم، فإن الفائز بها "المصارع" اعتبر، على رغم فوزه، خاسراً بشكل نسبي: كان مخرجه ريدلي سكوت يتطلع الى أن يحطم الرقم القياسي الذي يملكه "تايتانيك" من ناحية عدد الجوائز التي فاز بها 11 جائزة. "المصارع" رشح ل12 جائزة. فاز منها بخمس، لعل أهمها ومن أكثرها توقعاً جائزة افضل ممثل التي ذهبت الى راسل كراو. ومهم هنا ان نذكر ان راسل كراو كان شبه ضامن لهذه الجائزة منذ الصيف الفائت، ولكن حدث بعد ذلك ان عرض فيلم "على حدة" من بطولة توم هانكس، ولفت أداء هذا الأخير فيه الأنظار، فصار منافساً جدياً لكراو، مثله في هذا مثل اد هاريس عن دوره في فيلم "بولوك" عن حياة الرسام التجريدي الأميركي الشهير جاكسون بولوك. وفي الأسابيع الأخيرة بدا وكأن كراو قد نُسي تماماً وألقيت الترجيحات على هانكس، الذي سبق ان فاز بالجائزة نفسها مرتين، وقيل إنه سوف يحقق معجزة صغيرة ويفوز للمرة الثالثة، واصلاً الى رقم قياسي كان من سابقيه إليه جاك نيكلسون. ولكن سرعان ما استبعد هانكس ليفوز كراو. وطلع "على حدة" من المولد من دون حمص. كذلك كان حال الفرنسيين، فهؤلاء ملأوا الكون صخباً خلال الشهور الأخيرة مؤكدين ان الجائزتين اللتين ارتبطتا باسم فرنسا جائزة افضل فيلم اجنبي ل"مذاق الآخرين" لآينيس جاوي، ووجود جولييت بينوش على لائحة مرشحات افضل ممثلة عن دورها في "شوكولا" للاسي هلستروم"، مضمونتان. ولكن منذ البداية كان واضحاً أن لا احد يصدق هذا، غير الفرنسيين، حتى ولو كانت بينوش قد سبق ان فازت بأوسكار عن دورها الثانوي في "المريض الانكليزي". معجزة صينية إذاً، لم تتحقق "معجزة" توم هانكس ولا "معجزة" فرنسا... ولكن في المقابل، تحققت معجزة صينية وإن لم يكن بالشكل الشامل الذي كان كثيرون يتوقعونه. المعجزة الصينية هنا اسمها "النمر الرابض والتنين المختبئ". مخرجه هو آنغ لي، صيني يعمل منذ سنوات في السينما الأميركية، لكنه في فيلمه الأخير آثر العودة الى الصين، مكاناً وموضوعاً وأجواءً فحقق واحداً من أجمل الأفلام السينمائية التي حققت في الآونة الأخيرة وأكثرها متعة. هذا الفيلم أخرج السينما الصينية، ولاسيما سينما المغامرات الصينية، من أقبية النخبة والهواة، ومن جدران المهرجانات الخانقة، الى عالم الجمهور العريض. إذ ها هو الفيلم يحقق حينما يعرض عشرات ملايين الدولارات، ويعتبر درساً حقيقياً في السينما، يستفيد من إمكاناتها التقنية ويعززها برؤاه الساحرة. يغرف من عوالم تشبه ألف ليلة وليلة ويحول المبارزات الى رقص على ايقاع موسيقي يأخذ الألباب. هذا الفيلم الساحر، فاز حتى الآن بعشرات الجوائز. وحتى منتصف ليلة الأحد/ الاثنين الماضي كان يعتبر المنافس الأول ل"المصارع" في حلبة الأوسكار. ولو فعل وفاز بالجوائز الرئيسية التي رشح إليها، لكان حقق سبقاً بكونه اول فيلم غير ناطق بالإنكليزية يفوز، في تاريخ الفن السابع الأميركي، بالجوائز الكبرى. لكن اهل المهنة الأميركيين تراجعوا في الآونة الأخيرة. لم يشاءوا ان يخطوا تلك الخطوة "الجبارة" التي تبعد عنهم شبح تهمة الانعزال. فاكتفوا بمنح "النمر الرابض والتنين المختبئ" جائزة أفضل فيلم أجنبي وهذا طبيعي إضافة الى جائزتين تقنيتين: الديكور والتصوير، وجائزة أفضل موسيقى. كثيرون رأوا في هذا ظلماً، لكن آنغ لي أبدى رضاه وذكّر في تعليقه بكم أسبغ عليه الأميركيون من جوائز، كان اهمها - في رأيه - تدفق اكثر من عشرين مليون متفرج لمشاهدة الفيلم. الى مقر جديد إذاً، من أصل 23 جائزة هي مجموع جوائز الأوسكار، حصلت ثلاثة أفلام رئيسية على 13 جائزة: "المصارع" 5 جوائز، "التهريب" 4 جوائز، و"النمر الرابض والتنين المختبئ" 4 جوائز، أما الجوائز العشر الباقية فتوزعت كما يلي إضافة الى جائزة افضل ممثلة التي نالتها جوليا روبرتس عن "ايرين بروكوفتش"، نالت مارسيا غاي هاردن جائزة افضل ممثلة مساعدة عن دورها في "بولوك"، وكاميرون كرو عن السيناريو الذي كتبه لفيلم "مشهورون تقريباً" الذي أخرجه بنفسه وفيه لمحات من سيرته الذاتية، كمحرر في السبعينات لواحدة من أشهر مجلات الروك. ونال فيلم "يو - 571" جائزة أفضل توليف صوت. أما جائزة افضل أغنية وضعت لفيلم فنالها بوب ديلون عن اغنيته الرائعة "أمور تغيرت" التي كانت اجمل ما في فيلم "صبيان مدهشون" الذي مثله مايكل دوغلاس. في المقابل توزعت الجوائز المكرسة للأفلام التسجيلية على الأفلام التالية "بين أذرع الغرباء" و"بيغ ماما" و"أب وابنة" و"أريد أن أكون"... وهكذا، من دون مفاجآت تقريباً، انتهت هذه الدورة من "أوسكارات" السينما الأميركية. انتهت اميركية الى حد كبير، هي التي بدأت كوزموبوليتيه. وانتهت ضمن حدود المتوقع، هي التي كان يتوقع لها ان تخرج عما هو متوقع. وإلى اللقاء في العام المقبل... ولكن ليس في القاعة الحالية في لوس انجليس، بل في قاعة جديدة بنيت خصيصاً لذلك، وسوف يقام فيها حفل العام المقبل. ومن الآن وحتى ذلك الحين سيمكن جوليا روبرتس ان تستمتع بجائزتها ما طاب لها الهوى، هي التي قالت مبتسمة: "إنها المرة الأولى وأرجو ألا تكون الأخيرة"