بيروت - "الحياة" قبل اكثر من عقد من السنين، حين أطل ابن السادسة والعشرين على عالم السينما من خلال مهرجان "كان" كما من خلال فيلمه الروائي الطويل الأول "جنس، أكاذيب وفيديو"، قال كثيرون ان ذلك الشاب، واسمه ستيفن سودربرغ، حقق فيلماً استثنائياً، لكنه من نوعية الأفلام التي تظل فريدة في مسار صاحبها. وعلى رغم فوزه بالسعفة الذهب في ذلك المهرجان، توقع كثيرون لسودربرغ، ان يظل هامشياً، محققاً أفلامه ضمن نطاق "السينما المستقلة". اليوم، وقد جاوز سودربرغ الثلاثين من عمره، يبدو واضحاً انه خالف كل تلك التوقعات. فهو لم يكتف بأن يخرج من نطاق السينما المستقلة العنيف، ويحقق أفلاماً تنتشر على نطاق عريض، ولم يكتف بالتعامل في أفلامه مع كبار النجوم، ويحقق فيلماً إثر فيلم في حركة لا تهدأ، بل تجاوز ذلك ليضرب رقماً قياسياً هوليوودياً لم يسبقه اليه أحد منذ العام 1939: كان له فيلمان رشحا الى جوائز عدة في مسابقات الأوسكار الأخيرة. والفيلمان كان الفوز من نصيبهما، وفي شكل متفاوت: "التهريب" نال اربع جوائز أساسية، منها جائزة أفضل مخرج وجائزة أفضل سيناريو مقتبس، ولكن خصوصاً جائزة أفضل ممثل مساعد. هذه الجائزة التي نالها بينيشيو ديل تورو، عن دوره المتميز كضابط شرطة مكسيكي في "التهريب"، أتت الى جانب جائزة أفضل ممثلة التي نالتها، كما نعرف، جوليا روبرتس عن دورها في "ايرين بروكوفيتش"، ثاني أفلام سودربرغ في ترشيحات الاوسكار، لتقول شيئاً أساسياً، وهو ان سودربرغ مخرج ادارة ممثلين من الدرجة الأولى. صحيح ان مزاياه لا تتوقف عند هذا الحد، فتقنية الاخراج نفسها في "التهريب" متميزة، اضافة الى ان سودربرغ صور الفيلم بنفسه وضبط اضاءته، ولكن اللافت حقاً ان يتميز شاب في الثلاثين بهذا النوع من ادارة الممثلين، في وقت يبدو في معظم أفلام النجوم ان هؤلاء يديرون أنفسهم بأنفسهم. وحسبنا هنا ان نذكر بأن "ايرين بروكوفيتش" حقق، اداءً، لجوليا روبرتس ما عجزت كل أفلامها السابقة عن تأكيده، كونها ممثلة جيدة، لا نجمة فقط، وأن نتذكر ما قاله مايكل دوغلاس عن تعامل سودربرغ معه، حتى ندرك كم ان هذا الأخير يعيد الى الاذهان بعض كبار محركي الممثلين في هوليوود الماضي... من ايليا كازان وفكتور فليمنغ الى جون هسنون وريتشارد بروكس. اذاً، على مدى أقل من دزينة من السنوات، تمكن ستيفن سودربرغ من أن يتحول هوليوودياً حقيقياً، وبامتياز، ولكن من دون ان يتخلى في الوقت نفسه عن تجريبيته. فلئن كان "ايرين بروكوفيتش" فيلماً كلاسيكياً في أسلوبه، صيغ كله من حول الرغبة في توفير دور متميز لنجمة، فإن "التهريب" فيلم تجريب واخراج أيضاً. وحسبنا لادراك هذا ان نشاهد الفيلم، وكيف تمكن السيناريو على الورق والاخراج على الشاشة من ربط حكاياته الثلاث في شبكة علاقات أتت أشبه بلعبة تحدٍ في وجه المخرج. وهو ما سبق ان حكينا عنه في مقال سابق في "الحياة" الأحد 18/3/2001. المهم هنا ان فوز سودربرغ بجائزة أفضل مخرج عن هذا الفيلم، متفوقاً في ذلك على ردلي سكوت، الذي يزيده عمراً بضعفين ويعتبر احد كبار مخرجي السينما في زمننا الراهن، يعد تجديداً في هوليوود التي لم تتوقف عن التجديد منذ زمن. والتجديد هو في مجال الاعتراف بالتجريب كأسلوب سينمائي. فلئن كان في الامكان تقسيم أفلام ستيفن سودربرغ بين قسم تجريبي وقسم كلاسيكي، من الواضح ان الفرصة سنحت له في "التهريب" لكي يمزج القسمين معاً في بوتقة واحدة: ادار ممثليه في شكل كلاسيكي وقدم موضوعاً كلاسيكياً عن تهريب المخدرات مع نهاية ترضي الذوق الأميركي المحافظ من دون ان يفوته ان يكون واقعياً فيعلن أن المعركة ضد المخدرات خاسرة... الآن على الأقل، وهو في الوقت نفسه جرب على صعيد اللغة السينمائية: كاميرا محمولة، بعيدة من الممثلين تتيح لهم حرية حركة قصوى: تلوين يميز كل حكاية عن الأخرى، أو ان الحكايات متداخلة على طول سياق الفيلم... الخ. ومن المؤكد ان هذه البراعة لم تكن متوقعة من سودربرغ لسنوات قليلة خلت. فهذا الشاب الذي كان بدأ اخراج الافلام القصيرة في الثالثة عشرة، ولد في باتون روج في ولاية لويزيانا، وحط في لوس انجليس وهو في الثامنة عشرة. وفي العام 1989 حقق "جنس، أكاذيب وفيديو" الذي حقق له شهرة عالمية. وبعد ذلك بسنتين حقق "كافكا" وهو فيلم تجريب استقبل في شكل سيئ وعزز من مقولة أولئك الذين قالوا انه مخرج بلا غد. في العام 1997 حقق سودربرغ "ملك التل"، وهو فيلم عرض في كان، وتدور احداثه في اميركا الثلاثينات، أيام القحط والافلاس. وفي أواسط العقد المنصرم حقق سودربرغ أعمالاً ابقته في خانة التجريب مثل "سكيزوبوليس" و"تشريح غراي"... وبدا مع هذين الفيلمين انه انتهى حقاً. الا ان المفاجأة كانت في العام 1998، حين عرض فيلمه الجديد آنذاك "بعيداً من النظر" فإذا به يقدم عملاً مغايراً متماسكاً، وتجارياً في وقت واحد، من بطولة جورج كلوني. بدا كأن ثمة مخرجاً ولد من جديد، وقرر خوض اللعبة الهوليوودية حتى الثمالة، بمواضيعها وأنواعها ونجومها. وهو اتبع ذلك الفيلم في العام نفسه بفيلم "الانكليزي" الذي اعاد فيه الى الواجهة ممثلاً انكليزياً كان نسي منذ زمن بعيد: ترنس ستامب. وفي الحالين حقق نجاحاً كبيراً، على صعيد الاقبال الجماهيري، ومنذ ذلك الحين لم يهدأ، خصوصاً ان فيلمه التالي "ايرين بروكوفيتش" حقق مئات ملايين الدولارات، وأعطى حياة جديدة لمسار جوليا روبرتس المهني. ومع هذه الأفلام صار كبار النجوم يتدافعون للعمل مع ستيفن سودربرغ.