عندما يغادر وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر مكتبه في شارع بارك افنيو في نيويورك متجهاً نحو سيارته، يسارع أحد حراسه إلى فتح باب السيارة ليصعد إليها الوزير السابق الذي يحتفل في شهر أيار مايو المقبل بعيد ميلاده الثامن والسبعين. وبعدما يغلق الحارس باب السيارة يجلس إلى جوار السائق الذي ينطلق بالسيارة بسرعة الريح. كل شيء يتم بسرعة رهيبة، وخلال ثوانٍ معدودات. ومع أن الدولة تؤمن فريقاً من الحراس الشخصيين لكل رئيس أميركي سابق ولأفراد أسرته على نفقتها مدى الحياة، فإن كيسنجر هو الوزير الأميركي السابق الوحيد الذي يوظف على حسابه ثمانية من الحراس الذين يتناوبون على حمايته آناء الليل والنهار. لماذا؟ لأن كيسنجر يتلقى تهديدات مستمرة عبر الهاتف والبريد. حتى ان بعض الجنود الأميركيين السابقين الذين حاربوا في فيتنام لا يتورعون عن توجيه الشتائم إليه علانية كلما شاهدوه حين يدخل إلى مكتبه أو يغادره. كما أن رحلاته داخل الولاياتالمتحدة قليلة ومحدودة حرصاً على سلامته. وفي الآونة الأخيرة أنذره محاموه بعدم السفر إلى الخارج خوفاً من اعتقاله ومحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في عدد كبير من الدول. إذ يمكن، على سبيل المثال، اعتقاله في بريطانيا أو سويسرا إذا ما طلب أحد القضاة في فيتنام أو كمبوديا من سلطات الدولتين تسليمه، مثلما حدث حين منعت السلطات البريطانية في العام الماضي الجنرال بينوشيه رئيس تشيلي السابق من مغادرة بريطانيا ريثما ينتهي التحقيق في التهم الموجهة إليه بطلب من أحد القضاة في اسبانيا. ولما كان كيسنجر لا يتمتع الآن بأي حصانة خلافاً لرؤساء الدول والحكومات السابقين، فإن توقيفه واعتقاله لن يكون صعباً. وقائمة الدول التي ربما توجه إليه تهمة "التسبب في مقتل الآلاف بسبب سياسته" طويلة. ومن بينها انغولا وبنغلاديش وتشيلي وتيمور الشرقية وإيران وفيتنام ولاوس وكمبوديا وجنوب افريقيا. ففي تشيلي، وخلافاً لنصيحة السفير الأميركي في سانتياغو إدوارد كوري، قرر كيسنجر العام 1968، أي في عهد الرئيس نيكسون، بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي. اي. ايه تمويل الجماعات الفاشية التي دبرت الانقلاب الدموي ضد الرئيس المنتخب سلفادور الليندي ونصبت مكانه الجنرال بينوشيه، مما أدى إلى مقتل ألوف الأشخاص واختفاء ألوف آخرين. وكان بين القتلى الليندي نفسه وقائد الجيش الجنرال رينيه شنايدار واثنان من مشاهير الصحافيين الأميركيين. حتى وزير الخارجية السابق أورالندو ليتلييه الذي كان في واشنطن اغتيل مع سكرتيرته في وسط العاصمة الأميركية عام 1976. كذلك أدت سياسة كيسنجر إلى انهيار محادثات السلام الفيتنامية الأولى في باريس، مما أطال مدى الحرب ست سنوات أخرى أودت بحياة 180 ألفاً من الفيتناميين، و20 ألفاً من الجنود الأميركيين. وفي قبرص ساعد كيسنجر و"سي. آي. ايه" العام 1974 نيكولاس سامبسون على تنفيذ انقلابه ضد الرئيس الشرعي الاسقف مكاريوس وإعلان ضم الجزيرة إلى اليونان، مما أجبر تركيا آنذاك على غزو قبرص لحماية القبارصة الأتراك. واليوم، يبدو أن أهم عملاء "مكتب كيسنجر وشركاه" هي الصين. ولهذا ليس من المستغرب أن يتصدى المكتب للدفاع عنها ضد تهمة انتهاك حقوق الإنسان، ويسعى إلى منحها شرف استضافة دورة الألعاب الأولمبية لعام 2008. أما عملاؤه الأميركيون الذين في الخارج فهم كثيرون، ومن بينهم بنك "تشيس مانهاتن" ومؤسسات "شيرسون" و"ليمان" و"هاتون" و"هاينز" لبيع وشراء الأسهم والسندات، وشركة الاتصالات العالمية "آي. تي. تي" وشركة طائرات "لوكهيد" وشركة صناعة العطور "ريفلون" وشركة "كوكاكولا" وشركة "أميركان اكسبريس" وعشرات غيرها. وقبل التحذير الذي وجهه إليه محاموه بعدم السفر إلى الخارج، كان كيسنجر يقوم برحلات منتظمة في طائرته الخاصة لخدمة عملائه في عشرات الدول مثل أندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والأرجنتين والمكسيك وايطاليا فيات وبريطانيا بنك ميدلاندز وباناما وكولومبيا وسويسرا واليونان وكوريا الجنوبية وبورما.