عندما أعلن في واشنطن الاسبوع الماضي ان الرئىس بوش عين هنري كيسنجر رئيساً للجنة تحقيق في ارهاب 11 ايلول سبتمبر من العام 2001 جمعت ما عندي من معلومات عن وزير الخارجية الاميركية الاسبق وكتبت حوالى صفحة من مقال عنه ثم توقفت. فقد وجدت نفسي مرة اخرى اكتب معترضاً على قرار سياسي أميركي، وقد مللت الاعتراض، وربما اتعبت القارئ معي. أعود الى الموضوع اليوم بعد ان وجدت ان للصحافة الاميركية من نيويورك الى لوس انجليس موقفاً ضد كيسنجر اقوى كثيراً مما كنت سأكتب. وهكذا، فإذا كان لي رأي مسبق بالرجل الذي لا نزال نعاني في الشرق الاوسط من اثار سياسته الخبيثة، فإن رأي الصحافة الاميركية لا بد ان يكون موضوعياً ومجرداً من اهواء صحافي عربي. "نيويورك تايمز" قالت في مقال افتتاحي ان ماضي كيسنجر لا يشجع على توقع استقلاليته في العمل، وتعيينه ربما كان مناورة غير ذكية من البيت الابيض لاحتواء تحقيق عارضه طويلاً. وأضافت الجريدة ان كيسنجر لن يتحدى اجهزة السلطة ولن يعرّض صداقاته ومصالحه للخطر، مع ان المفروض ان تبحث لجنته في اسباب اهمال البيت الابيض ووكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيق الفيديرالي، ما ادى الى ترك البلاد عرضة لهجوم ارهابي. ولاحظت الصحيفة ان كيسنجر اشتهر بالمراوغة في ولاية ريتشارد نيكسون، وبمجاملة اجهزة الدولة والتستر عليها. "لوس انجليس تايمز" على الجانب الآخر للمحيط الاطلسي كانت اكثر حدة، ففي تعليق اساسي كتبه روبرت شير الذي تنشر مقالاته صحف كثيرة، قالت الفقرة الاولى "من الواضح ان الرئىس لا يريد معرفة الحقيقة عن 11 ايلول، والا لما كان عين هنري كيسنجر ليترأس التحقيق في ما قد يعتبر انجح عمل ارهابي في التاريخ. ان المعروف عن كيسنجر انه داعية لا يخجل لكتم الحقيقة او تشويهها بحجة الأمن القومي، وهو آخر رجل يمكن ان يسأل الحكومة ماذا تعرف ومتى عرفت ذلك". والكاتب يسجل بعد ذلك بعضاً من "مآثر" كيسنجر، ويذكر القراء بدوره في محاولة تدمير دانيال ايلسبرغ الذي سرب "اوراق فيتنام"، وتوسيع حرب فيتنام سراً الى كمبوديا، ومحاربة منع نشر اخبار السطو على مقر الحزب الديموقراطي في بناية ووترغيت. ولا ينسى الكاتب ان يشير الى شركة "كيسنجر وشركاه" للاستشارات والعلاقات العامة، وعلاقات الرجل المشبوهة مع شركات ودول، إضافة الى ماضي عمله في تأمين قروض لصدام حسين نفسه. كيسنجر قال في مقابلات تلفزيونية الاحد الماضي انه سيقطع علاقاته مع "زبائن اجانب" اذا ثبت وجود تضارب مصالح بين تمثيل شركته هؤلاء الزبائن، وعمله رئىساً للجنة التحقيق التي ستتألف من عشرة اعضاء، خمسة منهم جمهوريون، وخمسة ديموقراطيون وقد اختار الحزب الديموقراطي السناتور السابق جورج ميتشل الذي يعرفه العرب جيداً، رئيساً للمجموعة الديموقراطية في اللجنة. غير ان "نيويورك تايمز" بدت غير مقتنعة بكلام كيسنجر، فهي لاحظت في مقال افتتاحي لاحق ان رئىس اللجنة يترك لنفسه حق تقرير ان كان هناك تضارب مصالح، وقالت ان هذا لا يكفي و"كيسنجر وشركاه" لم تكشف بعد قائمة الزبائن، خصوصاً الحكومات الاجنبية التي تمثلها. غير ان مورين داود شنّت في الصحيفة نفسها اوسع هجوم على كيسنجر، وعلى اختياره رئيساً للجنة التحقيق، وجمعت بين الحدة والسخرية في مقالها، وقالت مَنْ افضل للتحقيق في هجوم غير مبرر من الرجل الذي نظم هجمات غير مبررة؟ وزادت ان سجل كيسنجر يظهر انه اطال حرب فيتنام بعد ان ادرك انه لا يمكن الفوز بها، وشجع على توسيع الحرب سراً وخلافاً للقانون باتجاه كمبوديا، وأيد نظام بينوشيه في تشيلي، وشجع على ملاحقة الصحف التي نشرت "اوراق فيتنام" وسجل مكالمات الصحافيين وزملائه سراً. واختارت الكاتبة بعد ذلك اوصافاً من سيرة كيسنجر التي كتبها والتر ايزاكسون، وبينها: مراوغ، ومحتال، ومهووس، وعصبي ومنافق، إضافة الى انه يفضل السرية وصاحب وجهين. بل ان داود تذكرت كيف ان كيسنجر خدع جورج بوش الأب، ففيما كان هذا يؤيد تايوان ضد الصين عندما كان سفيراً لبلاده لدى الأممالمتحدة سنة 1971، كان كيسنجر يقوم بزيارة سرية للصين من دون اطلاع السفير بوش عليها. في دنيا السياسة السخرية اسوأ من مجرد مهاجمة سياسة الرجل او افكاره. ونيل بولاك كتب مقالاً هاذراً بعد تعيين كيسنجر زعم فيه انه يستطيع اطلاق اشعة ليزر من عينيه اثناء التحقيق، وان النساء يعجزن عن مقاومة اغرائه، وانه يقتل مصاصي الدماء بضربات كاراتيه، ويملك قصراً سرياً يمشي على حافة شرفاته، وانه عالم رياضي يعاني من جنون العبقرية. وكلمة جد اخيرة يشجعني على قولها ما سبق من آراء اميركية خالصة، فتعيين رجل عمره 79 سنة، وصاحب ماضٍ جدلي جداً، لا يمكن ان يفيد في معرفة الحقيقة عن ارهاب 11 ايلول. ثم ان كيسنجر نفسه، بسبب ماضيه، مطلوب في بلدان عدة بتهمة التحريض على القتل، او اطاحة نظام ديموقراطي منتخب، وهو سيُعتقل اذا زار هذه البلدان. وربما كان بين القراء من يذكر كتاباً اشرت اليه في هذه الزاوية هو "محاكمة هنري كيسنجر" من تأليف كريستوفر هيتشنز، وفيه قائمة بجرائم الوزير السابق ودعوة الى محاكمته. ولا افهم كيف يستطيع رجل اكتشاف الحقيقة، اذا كان متهماً، ومشكلاته تمنعه من السفر، ومصالحه تميل الى حجب الحقيقة؟