يتألف جسم الانسان، من أكثر من مئة مليار خلية، وكل خلية تحتوي في داخلها على نواة مؤلفة من المخزون الوراثي البشري المعروف باسم الجينات مورثات التي بدورها تتواجد "محمولة" على ظهر 23 زوجاً من الكروموزومات الصبغيات أي 46 كروموزوماً الواحد ينطح الآخر. هذه الجينات القابعة في قلب الخلايا هي التي "يلهث" وراءها العلماء وغير العلماء لمعرفة أصلها وفصلها لأنها تملك بين جنباتها مفتاحاً أو ربما مفاتيح الحياة. والمشوار مع الجينات ليس وليد السنوات الأخيرة، بل بدأ منذ ما يقارب الخمسين سنة، وبالتحديد في العام 1953، عندما استطاع العالمان الانكليزي فرانسيس كريك والأميركي جيمس واطسون اكتشاف النموذج المزدوج للمادة الوراثية "د ن أ" DNA. في العام 1990 تسارعت الخطوات في سبر الجينات، اذ شهد هذا العام ولادة ما يسمى ب"مشروع المخزون الوراثي البشري" هيومان جينوم بروجيكت الذي يقوده الباحث الأميركي فرانسيس كولينز، وكان الهدف الأساسي من المشروع وضع أول خريطة وراثية للبشر بالتعاون مع علماء وباحثين من دول عدة. نظرياً، كان من المفروض وضع الخريطة خلال 15 عاماً تقريباً، لكن دخول الباحثين من القطاع الخاص على الخط، كان بمثابة الشرارة التي أججت الاسراع في وتيرة العمل، فكانت النتيجة الاعلان عن ولادة الخريطة قبل موعدها المرسوم لها. ففي حزيران يونيو 2000 أعلن القطاع العام برئاسة فرانسيس كولينز والقطاع الخاص بقيادة غريغ فينتر رئيس شركة "سيليراجينومكس"، نتائج أول مسودة للخريطة الوراثية في البيت الأبيض وبحضور الرئيس بيل كلينتون. آنذاك أعلن القطاع العام والخاص عن فك رموز أكثر من 85 في المئة من المادة الوراثية، وأشارا وقتئذ الى ان وضع خريطة كاملة لن يأخذ وقتاً طويلاً. وبما أن الأقوال لا تقاس الا بالأفعال، فإن الباحثين كولينز وفينتر كانا أصحاب كلمة، فمهرا أقوالهما بأفعالهما، اذ قاما في الاسبوع الماضي بنشر تفاصيل أوسع عن الخريطة الوراثية عند البشر، ولاعلان ذلك، اختار كل منهما طريقته الخاصة، فكولينز اختار مجلة "ساينس" لرواية اللغز شبه الكامل للخريطة الوراثية، بينما اتجه فينتر صوب مجلة "ناتشر" لكي ينشر على صفحاتها ما توصل اليه من نتائج في عالم الجينات. ومما لا شك فيه ان هناك صراعاً واضحاً بين القطاع العام الذي يقوده كولينز والقطاع الخاص الذي يرأسه فينتر، فكل منهما يحاول الوصول الى المعلومات المتعلقة بالجينات بشكل أبكر وأسرع من الآخر لأن هذا سيدفع البحاثة الى تسريع أعمالهم في اتجاهات محددة تمكنهم من خلق ثورات علاجية وتشخيصية ووقائية يمكن أن تقلب مفاهيم الطب رأساً على عقب. الخريطة الوراثية الموسعة التي اعلن عنها في 12 الشهر الجاري جاءت بحقائق ومفاجآت لم تكن متوقعة، منها: ان جسم الانسان يملك جينات أقل بكثير مما كان متوقعاً. لقد ظن العلماء سابقاً ان الانسان، بتركيبه وتشابك بنيته وسلوكه وانماط حياته، يملك عدداً من الجينات يتراوح ما بين 75 ألفاً و150 ألف جينة. إلا أن المفاجأة التي حملتها الخريطة الوراثية أوضحت ان عدد الجينات يدور في فلك 30 ألف جينة، وبشكل أكثر دقة فإن العدد يتراوح بين 26.5 ألف و40 ألف جينة. وهذا يعني ان الانسان، بطوله وعرضه، لا يملك من الجينات سوى ضعف ما تملكه الذبابة، وأنه يملك عدداً أقل مما هو موجود في حبة الأرز، وأن أقرب الكائنات الحية من الناحية الجينية الى الانسان هي الزهرة البرية "ارابيدوبسيس" التي تحتوي الخلية الواحدة منها على 25000 جينة. وكل هذا يدل على أن هناك تشابهاً ما بين البشر والكائنات الحية الأخرى، ونظرية العالم تشارلز داروين التي قالت بوحدة الحياة على هذه الأرض لم تكن خاطئة. ان عدد الجينات الفعالة، أي التي لها وظيفة، ضحل للغاية. وهذه هي المفاجأة الثانية التي حملتها الخريطة الوراثية. فالتحريات أوضحت وجود مناطق "صحراوية" واسعة على سطح الحبل اللولبي للمادة الوراثية. بكلام آخر 5 في المئة فقط من المخزون الوراثي البشري يملك فعالية معروفة، أما النسبة الباقية، أي 95 في المئة، فهي صامتة لا حياة فيها إذ انها عبارة عن تكرار غير مفهوم للمادة الوراثية. المفاجأة الثالثة التي أماطت الخريطة الوراثية اللثام عنها، هي وجود كروموزومات "تعج" بالجينات مثل الكروموزوم 17 و19 و22. في حين أن كروموزومات أخرى فقيرة بالجينات مثل الكروموزوم 4 و13 و18. الخريطة الوراثية جاءت لتشهد على بطلان القاعدة التي تقول بأن "كل جينة تصنع بروتيناً واحداً". فهذه النظرية المشكوك فيها منذ أمد بعيد جاءت الخريطة لتذهب بها الى غير رجعة. فالجينة الواحدة قد تكون مسؤولة عن صنع بروتينات عدة وليس بروتيناً واحداً. فمثلاً الجينة التي تأمر بصنع هرمون الانسولين المضاد للسكر، تأمر أيضاً بصنع أربعة بروتينات وثلاثة هرمونات. ان قراءة الخريطة الوراثية الموسعة سمحت أيضاً بوضع اليد على الكروموزومات "القاتلة". فقد اتضح ان المخزون الوراثي للبشر يملك ثمانية كروموزومات تبين انها تحتوي في "مرابعها" على جينات مسؤولة عن حوالي 40 في المئة من الأمراض الوراثية، فمثلاً الكروموزوم رقم 1 متورط في حصول مرض الخرف الشيخي الزهايمير وأمراض القلب وسرطان البروستات. في حين ان الكروموزوم اكس X يعتبر من أكثرها غنى بالجينات "القاتلة" التي تتسبب في اثارة العديد من الأمراض الوراثية. ان فك رموز الخريطة الوراثية مكّن من اسقاط نظرية الأعراق. فكل مخلوق بشري على هذه الكرة الأرضية يتشابه مع الآخر في مادته الوراثية بنسبة تصل الى 99.99 في المئة. وعلاوة على هذا أشارت مجلة "ساينس" الى ان الخريطة أوضحت ان التباينات في المخزون الوراثي لأفراد تابعين لمجموعات عرقية مختلفة هي أقل من تلك الموجودة لدى أفراد ينتمون الى المجموعة العرقية نفسها، وهذا يعني انه من غير الممكن علمياً تحديد الانتماء العرقي للبشر بالاعتماد على المخزون الوراثي. هذه هي باختصار "الزبدة" التي تمخضت عن الخريطة الوراثية الموسعة للانسان والتي انتظرها كثيرون بفارغ صبر لأنها حسب رأيهم، تحتوي على معلومات "نفيسة" ستسمح بوضع اللبنات الأساسية التي تميز ما بين ما هو صالح وما هو طالح لبني البشر. صحيح ان المعلومات التي زودتنا بها الخريطة الوراثية ما زالت شحيحة، ولكنها على رغم ذلك ستساهم في القاء الأضواء على دورها في العديد من الأمراض ولربما الوقاية منها، خصوصاً الأمراض المستعصية، كقصور القلب والربو القصبي ووهن العظام والتهابات المفاصل والسرطان وأمراض الشرايين والسكري وغيرها. ان الخطوط العريضة للخريطة الوراثية موجودة الآن بين أيدي الباحثين، وهذه الخريطة تعطي معلومات عن الناحية التركيبية البنيوية، لكنها لا تفصح أي شيء عن الناحية الوظيفية للجينات. لهذا فإن المرحلة المقبلة في مسيرة الجينوم البشري ستشمل سبر وظائف الجينات والتعرف عليها وفي انتظار العلماء أكثر من 26 ألف جينة تحتاج للكشف عن وظائفها، وإذا عرفنا أن الجينة تشرف على أكثر من وظيفة لأدركنا حجم الصعوبات والعقبات التي سيلاقيها العلماء للوصول الى الحقيقة، أي وظائف الجينات. وبلوغ هذه الحقيقة لن يكون سهل المنال اذ ان معرفة تراكيب الجينات ومواضعها لا تكفي لوحدها، بل لا بد أيضاً من فهم الجينات ووظائفها في كل مرحلة من حياة الشخص، سواء أكان طفلاً أم شاباً أم شيخاً، اضافة الى ذلك فلا مفر للباحثين من فهم عمل الجينات في كل نسيج من أنسجة الجسم وفي كل عضو من اعضائه في حالتي الصحة والمرض. ان مستقبل البشرية لن يكون معتمداً على قراءة الجينات قلباً وقالباً ووظيفة فقط، بل لا بد من الاهتمام عن كثب بالبروتينات التي تشرف على صنعها الجينات، اذ ان معظم العمليات الحيوية في الجسم تجري على مستوى البروتينات، فالمعروف ان الجسم البشري يتكيف مع البيئة التي هو فيها عن طريق تجزئة البروتينات ومن ثم إعادة توحيد هذه الأجزاء من أجل صنع مادة بروتينية أخرى مناسبة للظروف التي يعيش فيها الانسان. ونظراً الى أهمية البروتينات القصوى فإن شركات كثيرة تدرس أعمال ووظائف الآلاف المؤلفة من البروتينات لمعرفة شكلها وتراكيبها ووظائفها والتفاعلات التي تقوم بها، والغاية من كل ذلك هي الوصول الى البروتينات التي تعبّر عن نفسها في قلب الخلية لصنع أدوية قادرة على اصابة أهدافها بدقة متناهية. ان السنوات المقبلة ستشهد انقلابات جذرية على الصعيد البيولوجي، اذ أن البشرية ستتمكن، بالاعتماد على الرموز الجينية والتقنيات الوراثية، من القضاء على العديد من الأمراض وحتى الوقاية منها، ومع هذا كله فانهم أي البشر لن يتمكنوا من فهم معنى الحب أو فهم أسرار الخلق، هذا ما أعلنه فرانسيس كولينز مدير مشروع الجينوم البشري الأميركي في المؤتمر الذي عقد أخيراً في مدينة ليون الفرنسية حول التقنيات الحيوية. ويقول كولينز ان العالم سيشهد ولادة عقاقير معدة خصيصاً لكل انسان وفقاً لبصماته الوراثية، وكذلك تطوير علاجات للجينات المشوهة اضافة الى تطبيق اختبارات ستسمح بالتعرف على الأمراض الوراثية واستنباط الطرق النوعية للوقاية منها، كذلك سيصبح بمقدور الأطباء تبديل الجينات المنتقلة من الآباء الى الأبناء. وبحلول السنة 2030 سيتمكن طب الجينات من اطالة الأعمار للسكان في العالم المتقدم. ولكن ماذا عن أعمار الناس في العالم الثالث؟! على الصعيد النفسي يقول الباحثون في كينغز كوليج في لندن ان كشف الخريطة الوراثية سيحدث ثورة في التحليل النفسي وعلم النفس، اذ أنها ستسمح بتفهم الأسس العصبية البيولوجية للفروق بين البشر وبالتالي في فهم أفضل للأمراض النفسية. ان العد العكسي لنتائج خريطة الجينوم البشري بدأ منذ الاعلان عن فك رموز هذه الخريطة وسط مخاوف قد تبرز مستقبلاً مثل سوء استعمال الجينات لأهداف أخرى، غير تلك التي كانت مقررة لها، كالحصول على ذكاء خارق أو قوة جسمانية لا شبيه لها، أو استخدامها لإرضاء بعض الأثرياء على حساب الفقراء. عدا هذا وذاك، هناك قلق واضح من استخدام معلومات الخريطة الوراثية من قبل أرباب العمل وشركات التأمين للإفادة منها في كشف الاستعداد للاصابة بمرض ما وهذا ما يقود الى ممارسة التمييز بين الناس فتختار من تشاء وترفض من تشاء. ولا شك في ان فك رموز الخريطة الوراثية يعتبر انجازاً عظيماً في تاريخ البشرية ولهذا يجب وضعه في خدمة العلماء، كل العلماء، من دون استثناء لكي يتمكنوا من الاطلاع على المعلومات التي تفتقت عن وضع الخريطة وبالتالي استخلاص الفوائد المترتبة عنها لمصلحة الناس كل الناس. ورداً على محاولة البعض بيع المعلومات الناتجة عن الخريطة الوراثية يقول الطبيب مايك ديكستر مدير شركة "ويلكوم ترست" الخيرية "انها هبة مجانية للعالم ويمكن لآلاف العلماء الاطلاع عليها لاستعمالها". ويتابع ديكستر قائلاً: "اذا لم تكن الخريطة الوراثية للبشر متاحة إلا في مقابل مادي فإن العديد من علماء الدول لن يتمكنوا من الوصول اليها لأنهم بكل بساطة لا يملكون ما يمكنهم من ذلك". ويضيف ديكستر حول اعتماد مبدأ المساواة في الحصول على المعلومات مجاناً: "ان ذلك يساهم في تقليص الفجوة بين الدول الغنية في الغرب، وبين زملائنا في الأجزاء الفقيرة من العالم". وفي هذا السياق يقول الطبيب جون سالستون مدير مشروع الجينوم الانكليزي: "ان الجينوم هو ملك للبشرية، ونحن هنا لنقول ان الخريطة الوراثية للانسان ليست للبيع، ويعد منع الحصول على المعلومات المتعلقة بها جريمة"