سبق الاعلان المدوي عن انجاز الخارطة التقريبية الأولى للجينوم البشري، وقد اعتبر البداية الفعلية للطب الجيني GENETIC MEDICINE الذي مهد له اكتشاف الحامض الوراثي على يد العالمين جايمس واطسون وفرانسيس كريك 1953، اعلان وكالة الفضاء والطيران الاميركية الناسا احتمال وجود ماء جار تحت سطح المريخ او على الأقل ماء كان جارياً حتى عهد قريب. وتصل امور عدة كلا الامرين. فوجود الماء مرتبط بوجود الحياة. والماء المريخي يفتح مجدداً باب نقاش وجود اشكال حية في الكون وعلاقتها بما هو موجود على الأرض. وأما الحامض النووي الريبوزي الناقص الأوكسجين د ن ا فهو التركيب المشترك بين كل الأنواع الحية على الأرض، والأحرى القول انه التركيب الذي تسير به الحياة وتكون. وفي تاريخ العلم الجزيئي أن العالمين واطسون وكريك سارا صوب كشفهما ل"د ن ا" بتأثير كتاب العالم الفيزيائي الكمومي ايرفنغ شرودنغر "ما هي الحياة؟". ليس فقط لأنه يحمل شيفرة الوراثة التي تعطي الكائن صفاته وتركيبه، بل لأن الأنواع الحية كلها، من أصغر خلية وميكروب وصولاً الى الانسان، تتميز بعضها عن بعض وفق تركيب "د ن ا" فيها. لعل الكلمات التي استخدمها الرئيس الأميركي بيل كلينتون في وصف الجينوم فائقة الدلالة الى هذا الأمر: "انها الأحرف التي تكتب بها الحياة". وفي العام 1996، اهتز العالم لاعلان "النازا" اكتشاف خلايا مريخية في أحد النيازك الوافدة من ذلك الكوكب. فهل ابتدأت الحياة في الظهور على الأرض "بمساعدة" خلايا آتية من المريخ؟ أو ربما من كوكب آخر؟ هل تبقى علاقة الانسان بالكوكب الأزرق كما هي اذا ثبت مجيء خلايا من المريخ في مراحل مبكرة من عمر الحياة على الأرض؟ قد لا تكون الخلايا المريخية نقطة الانطلاق، ولكن ما مدى احتمال انها "تخالطت" مع مسيرة التطور الحي على الأرض؟ وكيف تكون صورة الحضارة الانسانية عن نفسها وهويتها وعن علاقتها مع الكون في هذه الحال؟ كان من اللافت ان تبادر "الناسا" حينها الى اطلاق أحد أكثر مشاريعها طموحاً في مجال البحث عن "حياة كونية" وأعطته عنواناً لافتاً "الجذور" ORIGINS، فكأن الانسان يبحث عن ذاته في الكون. قبل ثورة كوبرنيكوس، بدا الانسان شديد التفرد، ويقطن كوكباً هو مركز الكون، ثم صارت الأرض مجرد كون سيار حول شمس تماثلها كل نجمة في السماء، وجاء داروين ليصنفه نوعاً بين الأنواع. بدا فريداً في كونه حياً وعاقلاً، وها أن ميزة الحياة تتناثر في الكواكب، وينازعه الكومبيوتر الذكاء، فما هي مصادر هويته ومن أين تأتي فرادته؟ لكن فرادة الانسان في الأرض تتهددها مخاطر أخرى لا حصر لها. ويثير مشروع الجينوم مخاوف أصيلة من فقدان العدالة في الهوية البشرية، على نحو ما كانته دوماً نزعات التمييز العنصري الأسود، العالمثالثي، الهندي، الأحمر... والجنسي المرأة... وغيرها. ثمة خشية من تحوّل أزمة الهوية الانسانية تأزماً داخل العلاقات البشرية نفسها، وخصوصاً مع كل تلك التجارب المريرة مع الأشكال المتعددة للتمييز بين البشر، سواء في المجتمع الواحد أو في العلاقات بين الشعوب. ويزيد من الخشية ان العلم، ككل نتاج ثقافي، قابل للقراءات المختلفة. واستطراداً، بات العلم الحديث يملك من القوى المهولة ما يجعل بقاءه خارج النقاش فائق الخطورة ويزيد في تحوله اداة للهيمنة او ربما ما هو أدهى، ولعل تجربة القنبلة الذرية ما زالت ماثلة في الاذهان. فهل يفسر ذلك ميل الاعلام الى تناقل تشبيه انجاز الجينوم مع الوصول الى القمر وإعراضه عن تشبيه قواه بالتجربة الذرية؟ من يملك الجينات؟ يتألف السلم اللولبي المزدوج من 1،3 بليون عتبة مزدوجة، أي ان كل نصف منها يأتي من أحد جهتي السلم. وتتكون العتبات من اتحاد اربعة أنواع من القواعد هي الأديتين A والثيامين T والسيتوسين C والجوانين G. وثمة قانون ثابت، إذ يتحد A مع T و C مع G، ما يؤدي الى نوعين من العتبات A-T وC-G. وتتكرر العتبات بلايين المرات في أنساق شديدة التنوع. وفي السلم الطويل، ثمة تجمعات للقواعد المزدوجة يقوم كل منها بمهمة محددة هي تأليف بروتين معين يؤدي وظيفة ما داخل الجسم. تلك التجمعات هي الجينات التي تنقل الخصائص الوراثية والتي يؤدي الخلل في شيفرتها الى التأهيل بالاصابة بالأمراض. لكن الجينات لا تزيد عن 10 في المئة من مجمل الجينوم، أما باقي القواعد فوظيفتها لم تُدرس بعد. ويعتقد أنها تتدخل بقوة في عمل الجينات! وما أعلن الاثنين الماضي هو رسم خارطة تقريبية للجينوم البشري، حتى انها لم تحسم شأن العدد المحدد للجينات وتوزيعها على الكروموزومات. فإلى وقت قريب، ساد الاعتقاد أن عدد الجينات تتفاوت بين ثلاثمئة ألف ومئة وخمسين ألفاً، لكن الكروموزوم 22 أظهر كثافة في عدد الجينات داخله، فيما بدا الكروموزوم 21 "فقيرا" أي أنه يحتوي عدداً كبيراً من تسلسلات القواعد المزدوجة غير المنضوية في الجينات، ويدور العدد الآن على 80 ألفاً. وتستخدم في تحديد تتابعات د ن ا آلات مثل PCR وRFLP، ومن دون الدخول في التفاصيل المعقدة، فإن معرفة الشيفرة تتم ضمن هامش من "التخمين العارف" لموقع الجين وللمسافة بين الجينات. وفي الخرائط الدقيقة تُعاد كل عملية عشر مرات لسد الثغرات، أما الخرائط التقريبية فتختصر هذه العملية الى خمس وما دون، ما يترك الكثير من الفراغات التي يتوجب معاودة العمل عليها مجدداً. وكما بات معروفاً فإن الخارطة الدقيقة ستنجز في العام 2003. والى هذا التقريب، فإن عمل الجينات لم يعرف بعد، فضلاً عن 90 في المئة من قواعد الجينوم خارج الجينات. لذا دأب فرانسيس كولينز، المدير الحالي للمشروع، على خفض التوقعات حيال اعلان الخارطة التقريبية. ويتوقع أن يستغرق فهم عمل الجينوم، أي الآلية التي تعمل بها الشيفرة الوراثية، نحواً من ثلاثة عقود. يشبه ذلك القول ان الشيفرة هي نصوص لها لغة يتم التعرف الى ابجديتها وهيئة كلماتها، أما معرفة معنى النص وفهمه، فأمر دونه عمل شاق، على أن يأتي العمل الذي يتضمن تعديل عمل الجينات في مرحلة تالية .... جاء اعلان الخارطة في جو من "الوئام" بين مشروع الجينوم، الذي تموله الحكومات، وشركة "سييليرا جينوميكس" التي تمثل دخول القطاع الخاص وعقلية الاستثمار الخاص في مجال الجينوم الفائق الحساسية. ويرى كولينز ان المعركة الحقيقية هي ضمان بقاء معلومات الجينوم متاحة لكل شعوب الأرض، فلا تدخل ضمن مسألة "حقوق الملكية الفكرية". ويتساءل عن الحق في حيازة الجينات، التي تؤلف الانسان، أصلاً، ولا يشكل التعرف اليها سلعة إلا بمقدار ما نظر الى الانسان نفسه بصفته سلعة محددة!! وضع الكيميائيون، مثلاً، معرفة المواد في جداول عرفت باسم الجداول الدورية التي كشفت التركيب الداخلي لمواد الأرض كلها. فهل يمكن اصدار براءة اختراع للهيدروجين والأوكسجين مثلاً؟ وهل يشكل المسعى الى اصدار "براءة اختراع" حيال الجينات مدخلاً لحيازة جينات الطبيعة والحياة على الأرض؟ ليست مجرد أسئلة، لكنها مواضيع ربما غدت موضع منازعة. وتَرَكّز سعي الباحثين، في مشروع الجينوم والشركات، على الجينات نفسها، وخصوصاً التعرّف الى تلك المتصلة بالتأهيل الجيني. وبمعنى آخر، فإن السعي منصب على مسألة الفحوص الجينية Genetic Testing التي تفتح باباً شائكاً للتمييز الجيني، ولما يسميه البعض بالطبقية الجينية، وغير ذلك مما تناقلته وسائل الاعلام. وفي العلم الوراثي، يصعب نسيان التجربة الهتلرية في اليوجينيا Eugenia، أي السعي نحو "الانسان الكامل"، وهو مدخل للقول بتفوق خصائص أعراق على غيرها، كما كانت الحال في التجربة النازية. وعلى العلم الجيني الذي كان في أطواره الأولى، وقتها، أسس النازيون مزاعم التفوق للعرق الآري، مدعين أن الأعراق الأخرى تعتريها شوائب، وكان "الحل الجذري" بالإبادة التي مورست في "الهولوكوست". وداخل ألمانيا فرض منع التكاثر قسراً على عائلات اعتبرت "ضعيفة وراثياً"، وعقمت اجبارياً 350 الف امرأة بين العامين 1934 و1939. وتمارس اليوجينيا الآن في الصين، أي أنها تطاول خمس سكان الأرض تقريباً. فماذا لو فرض تعميم الفحوص الجينية في الوظائف والأعمال والتأمين الصحي والجامعات وغيرها؟ وماذا لو ربطت كل المعطيات، وبفعل الجو العام والنظرة الاجتماعية، بالجينات وصارت الحتمية الجينية هي القول الفصل في العلاقات بين البشر؟ والى أين توصل "جَيْنَنَة" المفاهيم العامة؟ وكيف تنعكس على الحريات الأساسية للانسان؟ تلك مجرد عينة من فيض أسئلة يصعب التهرب منها. متى يحقق علم الفضاء انعطافته النوعية؟ في كتابه "وصايا ابداعية للألفية الثالثة"، رصد المفكر الايطالي إيتاليو كالفينو أهم سمات الابداع الفكري خلال الألفية الثانية. ورأى أن احدى السمات البارزة في الابداع الفكري، بما فيه العلمي، تكمن في الانعطافة نحو ما يشكل جامعاً مشتركاً بين أشياء البحث. وعلى سبيل المثال، فإن الانعطافة صوب الذرة أطلقت علوم الكمومية والطاقة. ويثور شك قديم في شأن البيولوجيا. هل هي علم أساسي، كالفيزياء والرياضيات؟ أم أنها علم تطبيقي يستند الى الأسس النظرية للكيمياء والفيزياء؟ وفي الثلاثينات وضع شرودنغر تصوره عن الجينات والظاهرة الحية عموماً بناء على خصائص الفيزياء. ولكن الى أي مدى تطابق تلك الخارطة التقريبية التي بهرت الاعلام العام، وصف شرودنغر للجينات باعتبارها "بلورات غير متجانسة" على حد وصفه الذائع علمياً؟ وهل تُفَسّر الكيمياء والفيزياء وقوانينهما علاقة حامض الوراثة د ن أ مع الحياة كظاهرة؟ أسئلة صعبة، ودونها مخاض طويل، ولكن اذا افترض الوصول الى اجابة عنها، فإلى أي مدى ستكون محددة بالكرة الأرضية، وباعتبار أن الظاهرة الحية عليها هي كل ما يعرفه العلم عن معنى الحياة؟ في هذا السياق، تبدو صورة المياه التي جرت وتجري، احتمالاً واستنتاجاً، في المريخ منشبكة تماماً مع الخارطة الجينية. فالتوصل الى رصد الظاهرة البيولوجية في كواكب كونية، وربما خارج النظام الشمسي وحده الذي قد تتقارب فيه المعطيات الحية، يعطي بعداً جديداً ومضافاً الى محاولة الفكر الدؤوبة حل لغز الألغاز الانسان وكمدخل محتمل للاجابة عن السؤال الفلسفي الأقدم، أي ماهية الكائن وكونه. "هابل": ميكروسكوب علم الفلك؟ تتضمن هذه الأسئلة تسليماً افتراضياً أن علم البيولوجيا أنجز انعطافته نحو الأدق، أي الجامع المشترك للكائنات الحياة، مع اكتشاف د ن أ 1953، وهو أساس خارطة الجينوم التي رسمت بعده ب47 عاماً. فإن كان ذاك كذلك، فالسؤال هو عن كيف وأين ومتى يحقق علم الفلك انعطافته المتوخاة؟ الأرجح أن اكتشاف د ن أ يدين بالكثير لتطور الميكروسكوب الذي أنتجه العالم الدانماركي أنتوني فان لوفنهويك عام 1674. وأعقب ظهور تلك الأداة ميل الطب الى تفسير الأمراض كلها بموجب الأجسام الدقيقة التي لحظها الميكروسكوب أول مرة، في حينه، أي البكتيريا. لكن "نظرية البكتيريا" صمدت قروناً ثم شرعت في التواهن إذ ظهر أن للأمراض روافد متعددة، بعضها من داخل الجسد نفسه. وتبدو الجينات كأنها النقيض التام الكامل للبكتيريا، وخصوصاً في تأكيدها أن الاصابة بالجراثيم الخارجية تحكمها عوامل من داخل الجسم أي التأهيل الجيني. وهذا مدخل الى قضية معقدة. وأما في الفضاء، فإن التلسكوب الفضائي "هابل"، الذي وضع أمام الأعين، أول مرة، صور تشكل النظم النجمية في المجرات، فإنه أشبه بميكروسكوب القرن السابع عشر!! وللحديث صلة. [email protected]