مضى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي اللورد جورج روبرتسون ثلاثة أيام في روسيا، أثارت ردود فعل متضاربة على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية. وما طفا على السطح وكان لافتاً أن روسيا والأطلسي يناديان بعلاقات جديدة، إلا أن أحداً لا يعرف حقيقتها على وجه التحديد. أما مباحثات بوتين - روبرتسون، فلم توضح شيئاً منها. الأمين العام للأطلسي لم يجلب إلى موسكو أي مقترحات ملموسة، وبدا وكأن مهمته تتلخص في التعبير عن اعجاب مسؤولي الحلف بشخصية الزعيم الروسي والرغبة في الاطلاع على آرائه في شأن مخطط التعاون ومبادئ العلاقات الجديدة بين الطرفين. وكان في كل مكان حل فيه يوحي للروس أن لا مبرر لمخاوفهم من توسع الحلف الأطلسي شرقاً، كونه يعتبر روسيا حليفة له في مكافحة الإرهاب الدولي. ولعل روبرتسون أدى المهمة وعاد من لقاءاته مع الروس ب"ارتياح عميق". وشدد جميع المراقبين الذين تابعوا محادثات الكرملين على قول بوتين "ان روسيا لا تقف في طابور منتظري الانتساب إلى الحلف الأطلسي، إلا أنها مستعدة لتطوير العلاقات معه إلى أبعد حد يبدي هو استعداداً له". وتابع بوتين: "اننا لم نقترب من مسألة إمكان حصول روسيا على حق النقض في الأطلسي، ذلك أمر يتوقف على طبيعة المسألة موضوع البحث". وبالنسبة إلى الحلف لا تزال "أبعاد" الهيكلية الجديدة المقترحة للتعاون المنشود غامضة. ثم ان تلك الأبعاد غير واضحة بالنسبة إلى الروس أنفسهم، فهم لا يعرفون على وجه الدقة ماذا يريدون. وأكد وزير الخارجية الروسي ايغور ايفانوف "ان مقترحاتنا تدور من حيث الجوهر حول ايجاد آلية جديدة، تماماً لأطراف متكافئة هي دول الأطلسي وروسيا"، إلا أنه لم يحدد صلاحيات هذه الآلية، معتبراً أن المجلس الحالي للتعاون الدائم بين الطرفين بصيغة 19"1 لا يزال فاعلاً ومطلوباً. لكن المحللين كانوا أكثر تحديداً في تقويماتهم. ورأى سيرغي كاراغانوف، نائب مدير معهد أوروبا لأكاديمية العلوم الروسية، أن علاقات روسيا الحالية مع الأطلسي يجب أن تتطور وتتغير على أي حال، إلا أنه اعتبر تلك العلاقات مجرد سبيل إلى حل المشكلة وليست حلاً لها. والمشكلة هي بناء علاقات جديدة كفلية بإزالة آثار الحرب الباردة. أما معادلة 19"1 فيجب ألا تحل محل التحالف الحقيقي الذي تريد له الديبلوماسية الروسية أن يغدو حلفاً عالمياً يضمن الاستقرار والأمن الدولي ومهمته الرئيسية مكافحة الإرهاب والعصابات الاجرامية الدولية والتصدي لنشر أسلحة الدمار الشامل. ويكاد المحللون الروس يجمعون على أن الحلف الأطلسي بشكله الحالي استنفد طاقته، فهو كان ساعد على رص صفوف أوروبا بعد الحرب الباردة ونجح نوعاً ما في تهدئة الأوضاع في البلقان. إلا أنه غير مهيأ للتحديات الجديدة ومنها الإرهاب العالمي الشامل. ولا بد من ظهور منظمة جديدة تضم روسيا إلى جانب الأطلسي القديم، وتكون لها هياكل جديدة، على أن يناط الدور التنسيقي الرئيسي فيها بالاستخبارات وهيئات الأمن الداخلية وليس بالعسكر، وتتولى التنفيذ وحدات المهمات الخاصة وليس الجيش بمفهومه التقليدي. رومانسية التقارب لكن ما من أحد يريد تفكيك البنى القائمة اليوم، ولذا يبحث مسؤولو الأطلسي في العلاقة مع روسيا عن حلول بينية كالتي تقدم بها مثلاً رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير. فهو اقترح على أعضاء الحلف حل المجلس المشترك الدائم لروسيا والأطلسي القائم منذ العام 1997، واستبداله بهيئة جديدة تعقد جلسات أكثر وتكون لروسيا فيها حقوق مثل حقوق دول الحلف ال19. ويعتبر المحللون الروس ان مبادرة بلير تفترض منح روسيا مكانة العضو المشارك من دون حق التصويت في الحلف الأطلسي، إلا أنهم يوصون الكرملين بعدم الانسياق وراء "رومانسية التقارب" التي قد تظل حبراً على ورق، فيما يقول المحللون الموالون للغرب إن روسيا يجب أن تفتح أبوابها بشكل أوسع أمام الأطلسي، طالما هو اليوم المؤسسة الرئيسية الكفيلة، كما يعتقدون، ببناء النظام العالمي الجديد. وهم يزعمون أن الأطلسي الآن أهم من الأممالمتحدة ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. ويستبعد المحللون إمكان انضمام روسيا إلى الأطلسي في الأوضاع الراهنة. فمن غير المتوقع أن تتقبل واشنطن أو لندن الاعتماد على روسيا في المسائل المتعلقة بأمنهما. ثم ان روسيا نفسها لن ترغب في تقييد يديها بحق الفيتو الغربي في المسائل الدفاعية، إلا أن الأمور آيلة على ما يبدو إلى شيء أكثر من آلية المشاورات العادية، إلى شيء ربما يصح أن تطلق عليه كلمة "العضوية". والإشكال الأول أن الأطلسي يتقيد بمبدأ الاجماع، ولا أحد يعرف مصير هذا المبدأ في حال انتماء روسيا إليه. والإشكال الآخر أن الأطلسي ظاهرة لا تريد أن تختفي، كما حدث لحلف وارسو، وهو يواجه تحديات جديدة استدعت وجود مهمات جديدة، ولن يتمكن الحلف من البقاء والصمود إلا بوجود سياسة عسكرية أوروبية موحدة، فهل لروسيا موقع في تلك السياسة؟ من جهة أخرى، طرأ تبدل غير مسبوق على موقف موسكو حيال الحلف. فهي على رغم اصرارها بأن لا يؤدي تطور القدرات الحربية للطرفين إلى الاضرار بأمن أي طرف منهما، لم تعد تجاهر بالأعتراض على توسع الأطلسي شرقاً. إلا أنها تطالب بأن يراعي ذلك التوسع أمن روسيا. ويعتقد خبراء عسكريون روس أن الأطلسي، كمنظمة استنفدت طاقاتها، لن يوفق في الجمع بين التجديد البنيوي وبين التوسع الاقليمي. وإذا كان هناك شيء من المنطق في توسيعه الآن، فالأحرى أن يتم بدعوة باكستان لعضويته، وليس روسيا. وبحساب هذا الرأي يتضح أن التبدل في موقف موسكو تجاه الحلف تكتيكي فقط، وان استراتيجيتها حياله لم تتغير تقريباً. إلى ذلك، لم تعد موسكو، بسبب سعة نطاق الحملة على الإرهاب الدولي، شريكاً صغيراً أو ثانوياً للغرب. إذ أن واشنطن، كما أثبت مسرح العمليات في أفغانستان، قادرة على الفعل من دون مشاركة دول الأطلسي، لكنها لا تستطيع الاستغناء عن روسيا وحلفائها في آسيا الوسطى. مواجهة غير واقعية وواضح أن التعاون بين روسيا والأطلسي لن يلزمها بتعهدات دفاعية متبادلة، فالعلاقات الجديدة بينهما تفترض، في مرئيات الروس، أن تؤدي القرارات والتدابير المشتركة إلى تحويل الأطلسي منظمة تتولى شؤوناً أمنية لا أكثر. وما لم يتم ذلك يبقى في العلاقة أخذ ورد، لا سيما وأن بعض القيادات الوسطى الروسية لا تزال، بحكم الاستمرارية، تعتبر الأطلسي والولايات المتحدة العدو الرئيسي. وعلى سبيل المثال استمرار الاستثمار المالي الكبير في بناء الغواصات الذرية من أجل مواجهة لم تعد واقعية بين القوات البحرية الروسية والأميركية. فضلاً عن ذلك، ستضطر موسكو من أجل تحسين العلاقة مع الأطلسي إلى التخلي عن مبدأ التعادل العسكري مع الغرب وتكتفي بتصريحات الأطلسي عن عدم النية في استخدام قواته ضد روسيا. غير أن الرئيس بوتين عندما يقول نحن لا نقف في طابور المنتظرين أمام باب الأطلسي، إنما يعني، أن روسيا دولة كبرى تأنف أن تجاري، مثلاً، دول البلطيق الصغيرة المتهالكة على الانتساب إلى الحلف. ويدعم وزير الدفاع سيرغي ايفانوف هذه الفكرة، معتبراً أن للتعاون مع الأطلسي حدوداً لن تتجاوزها روسيا. ووراء تلك الحدود القضايا الدفاعية التي لن يوافق الروس مطلقاً على "ترحيلها" إلى أي دولة أجنبية أو حلف دولي مهما كان. والكلام عن طابور المنتظرين قد يعتبر وسيلة للمساومة. ففي الأوضاع الدولية الراهنة يحتاج الأطلسي إلى روسيا وليس العكس. ذلك أنها تشكل سُدس المعمورة تقريباً، وما ان تنتسب إليه حتى تقفز حدوده إلى الصين والهند. ثم ان الرد العسكري على أحداث 11 أيلول سبتمبر تطلب عمليات حربية تجاوزت نطاق مسؤوليات الأطلسي، وأسفر عن تشكيل الائتلاف الدولي لمكافحة الإرهاب بصورة ارتجالية متسرعة لم تجد بنى الحلف موقعاً لها فيه، طالما أن العمليات والتحديات اخترقت إطار مسؤولياته. وباتت روسيا وأوزبكستان وطاجيكستان وباكستان الأطراف المفصلية في التصدي للمخاطر والتهديدات الجديدة. إلى ذلك، وفي ليلة وضحاها، غدت أشكال التعاون السابق بين الأطلسي وروسيا عتيقة على خلفية الأحداث المتلاحقة، ما جعل الحلف يفكر جدياً في بناء علاقات جديدة مع الروس إلى درجة التودد لهم بعد جفاء. وكان ايفانوف صرح أن موسكو تنطلق من ضرورة تغيير نوعية العلاقة مع الأطلسي بحيث يصار إلى ايجاد آلية تؤمن مشاركة روسيا في جميع مراحل صنع القرار وتنفيذه. وأكد الوزير أن المحادثات مع روبرتسون تناولت تعميق التعاون العسكري الحالي، فبحث الطرفان مواضيع الدفاعات الصاروخية الأوروبية وتقييد انتشار السلاح النووي والجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب الدولي والموقف في البلقان والقوقاز. من جهته، شدد روبرتسون على أن محادثاته مع القيادة الروسية "ذات طابع تمهيدي بحت" لا يعطي فكرة عن الأبعاد التي ستتخذها آلية التعاون المرتقب. إلا أنها كانت، على حد قوله، محادثات مثمرة ومدهشة عن سبل تعميق وتوسيع العلاقات بين روسيا والأطلسي في مواجهة العدو المشترك الجديد: الإرهاب الدولي. وان الهدف الرئيسي من زيارته لموسكو هو استشفاف مواقف الطرفين حيال مسألة تحويل صيغة "19"1" إلى صيغة "20". الباب الخلفي وعن مسألة انضمام روسيا إلى الحلف تحديداً، قال روبرتسون إنه بحث الموضوع مع بوتين، معتبراً اياه من أهم مواضيع اللقاء في الكرملين. وأكد روبرتسون ان انضمام روسيا الآن غير مطروح من الناحية الفعلية. واعترف بأن موسكو لا تريد أن تنتهز فرصة الأوضاع الشاذة الحالية لتدخل الأطلسي من "الباب الخلفي" على حد تعبير بوتين. والأكثر من ذلك أنها لا تريد دخوله من "الباب الأمامي" أيضاً. ولذا فإن المحادثات في الكرملين استهدفت بالدرجة الأولى البحث عن الاشكال والمواضيع الصالحة للتعاون. وكانت زيارة روبرتسون إلى روسيا أقرب إلى المفاجأة هذه المرة، على رغم أنها ليست الأولى، إلا أن وجه الإثارة فيها هو التمهيد لانضمام روسيا إلى الأطلسي أو الكلام عن انضمامها إليه. وبسبب عنصر المفاجأة، لم يتسن لليسار الروسي أن يعبر بالكامل عن اعتراضه على مشروع روبرتسون، وسيفعل ذلك طبعاً مع الوقت. إلا أن الشيوعيين تلقفوا تصريحات الأمين العام للأطلسي في شأن الشيشان وانطلقوا منها لمهاجمته. ففي أحد لقاءاته في موسكو مع أساتذة وطلبة الأكاديمية الديبلوماسية، قال روبرتسون إن أحداث 11 أيلول غيرت آراء دول الأطلسي في شأن ما يجري في الشيشان، مؤكداً أن هذه الدول "باتت تنظر بعين أخرى إلى مصيبة الإرهاب في الشيشان"، على رغم وجود تحفظات لديها بخصوص "الوسائل التي يستخدمها العسكريون الروس في إطار تدابيرهم لإحلال النظام". ولكي يخفف من وقع الملاحظة الأخيرة، أضاف روبرتسون تعبيراً أقرب إلى الشعارات الحماسية: "روسيا والأطلسي معاً إلى الأبد". وقبلها زار روبرتسون مدينة فولغوغراد ستالينغراد وهناك تطرق أيضاً إلى موضوع الشيشان، مؤكداً: "اننا قلقون من وسائل إحلال النظام التي يرافقها خرق حقوق الإنسان"، ما جعل الصحف اليسارية الروسية مثل جريدة الشيوعيين "برافدا" وجريدة اليساريين المتطرفين "زافترا" تنهال عليه بانتقادات لاذعة. وتساءلت "برافدا" لماذا يعمد الأميركيون إلى احلال النظام أينما يشاؤون وبأي الوسائل يرتأون ولا يحق لنا نحن أن نحل النظام في بلادنا؟ وزادت الجريدة أن الحرب في أفغانستان ستستمر طويلاً، وهذا ما جعل طوني بلير يتقدم بمبادرته لتوريط روسيا مع الأطلسي. فالأوروبيون يريدون الاحتماء وراء ستار من الحراب الروسية، فلماذا يحاربون بأنفسهم ولديهم "شريك استراتيجي" هو روسيا؟ إنهم يريدون أن يلتقطوا البطاطس من تحت الجمر الأفغاني بملقط روسي كيلا تحترق أصابعهم. غير أنه من المستبعد أن ترجح كفة خصوم الأطلسي في روسيا. فاليسار على رغم ضخامته العددية ضعيف في السلطة والبرلمان. وما تحدثت عنه وسائل الإعلام من "معارضة عسكرية" للكرملين بعد اشتعال فتيل الحرب الأفغانية، يقتصر، كما يستفاد من قائمة اسماء "المعارضين"، على الضباط المتقاعدين أو المحالين على التقاعد، أي العناصر التي يرتفع صوتها كلما ابتعدت عن السلطة. والشارع الروسي قد يزعق بأصوات الاستنكار ضد الأطلسي ويرفع الأعلام الحمراء قرب أسوار الكرملين، لكن الذين وراء تلك الأسوار قد لا ينصتون لاحد. وفي البرلمان الروسي، أعرب حلفاء ثانويون للكرملين عن استيائهم من مخططات الأطلسي، إلا أن أحداً لا يعتقد بأن لتلك الاعتراضات قيمة إذا غيّر بوتين رأيه وعزم على دخول الحلف من "الباب الأمامي"