خلافاً لكثير من التأويلات التي أعطيت للحديث التلفزيوني الذي أدلى به السفير الأميركي فنسنت باتل في 9 كانون الأول ديسمبر الجاري، فإن زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط وليام بيرنز لبيروت أتت لتؤكد صحة ما قاله باتل، وان بلهجة مختلفة لم تعدّل في الموقف الأميركي، اذ كرر بيرنز التأكيد ان ادارته تعتبر "حزب الله" منظمة ارهابية ذات امتدادات دولية، من غير ان ينكر اعترافها به كمؤسسة اجتماعية وخدماتية. الأمر الذي رسخ التباعد في وجهتي النظر اللبنانية والأميركية من هذا الموضوع، مع ان زيارة بيرنز قللت الحملات التي شنها نواب وأحزاب على السفير الأميركي منددين بما أدلى به الى التلفزيون. الا ان اللافت تزامن زيارة بيرنز مع "يوم القدس" الذي كان الامام الراحل آية الله الخميني دعا الى احيائه كل سنة في مثل هذا الوقت، فانتهزها "حزب الله" ليؤكد صحة تصريحات بيرنز وباتل وهي دعم الحزب التنظيمات الأصولية الفلسطينية كحركة "حماس" و"منظمة الجهاد الاسلامي". على ان "حزب الله" أرفق هذا الدعم بتظاهرة لم يظهر فيها سلاح وانما مجسمات بنادق ورشاشات حملها فتيان وأطفال شاركوا في العرض الذي بدا رياضياً أكثر منه عسكرياً ورمى الى توجيه بضع رسائل سياسية الى الأميركيين: أولها، اصراره على المضي في مواجهة اسرائيل في مزارع شبعا واستمرار مقاومته حتى انسحابها من هذه المزارع. ثانيها، دعمه الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية، لكن من غير اقرانها بخطوات اجرائية واضحة تشير الى مشاركته فيها، مكتفياً بالتأييد العقائدي والأخلاقي والسياسي لهذه الانتفاضة. ثالثها، ابرازه الشحن الديني لدى أجيال الحزب تأكيداً منه على ان المقاومة مستمرة وطويلة، وان صراعه مع اسرائيل التي يرفض الحزب وجودها سيكون كذلك. وهذا ما رمت اليه مشاركة أطفال وفتيان في العرض بلسان عسكري حاملين البنادق الخشبية دلالة رمزية الى استمرار المقاومة المسلحة. على ان هذه التظاهرة لم تشكل في اي حال عاملاً استفزازياً سواء لبيرنز او لأفرقاء لبنانيين على جاري العادة، لأسباب ربما بدت أكثر أهمية من الرسائل السياسية التي أراد "حزب الله" توجيهها عبر ذلك العرض التقليدي ومنها: وجود التفاف وطني حول "حزب الله" كتنظيم لبناني ترفض غالبية اللبنانيين بمن فيها أساساً الأفرقاء المسيحيون، نعته بتنظيم ارهابي مطلوب من الادارة الأميركية وملاحق بسبب مقاومته اسرائيل. فاللبنانيون جميعاً، الأحزاب والقوى السياسية والمرجعيات الدينية والسلطة اللبنانية، وقفوا الى جانب الحزب في مقاومته اسرائيل في جنوبلبنان، وأيدوا مواجهته المسلحة لها لإرغامها على سحب جيشها منه. وهذا ما حصل في 24 أيار مايو 2000. ومع ان تأييدهم المطلق للمقاومة في الجنوب قوبل بتحفظ لافت حيال استمرار هذه المقاومة في مزارع شبعا كونها تؤدي الى افتعال أزمة مع الأممالمتحدة، فمع ذلك لم يترددوا في رفض التعرض ل"حزب الله" او اتهامه بأنه تنظيم ارهابي، مؤكدين دوره المحلي كحزب لبناني شأنه شأن الأحزاب اللبنانية الأخرى. الأمر الذي شكل غطاء سياسياً مهماً للحزب جعله أقل تشنجاً في اطلاق شعارات او مواقف متشددة ينفر منه الأفرقاء المسيحيون. وعلى الأقل لم يقل ما قاله قبل نحو سنة عندما أطلق بطريرك الموارنة نصرالله بطرس صفير دعوته الى خروج الجيش السوري من لبنان وتطبيق اتفاق الطائف، فكان رد الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله في مهرجان في ذكرى عاشوراء ان في لبنان أكثرية وأقلية، وأن الغلبة للأكثرية التي تتمسك ببقاء الجيش السوري في هذا البلد. فكان ان ترك هذا الموقف أصداء سلبية حيال الحزب الخارج لتوه من انتصار المقاومة في تحرير الجنوب، فإذا به يدخل في مواجهة مع أفرقاء لبنانيين. ان ثمة اقتناعاً عاماً لدى اللبنانيين بتخلي الحزب موقتاً، عن المقاومة في مزارع شبعا آخذاً في الاعتبار التطورات الدولية الناشئة من أحداث 11 أيلول سبتمبر والحملة الأميركية على الارهاب بدعم من الأممالمتحدة، مما يقتضي تفادي أي ذريعة تعطى لاسرائيل لضرب لبنان ستكسب في أي حال عطف المجتمع الدولي نتيجة اعتبار الأممالمتحدة تلك المزارع تابعة لسورية وليس للبنان حق المقاومة فيها، كما ان المزارع تدخل في نطاق "الخط الأزرق" التي رسمته الأممالمتحدة لتحقيق الاستقرار على الحدود اللبنانية - الاسرائيلية تطبيقاً للقرار 425، الذي ترى المنظمة الدولية أنه قد طُبّق كاملاً. ولهذا يشعر لبنان، في خضم مرحلة ما بعد 11 أيلول، ضرورة مساهمته في تأمين مناخات الاستقرار في المنطقة في حمأة الحملة الأميركية التي تشير الى اتهامات ضد "حزب الله". ان وقف هجمات "حزب الله" على الجيش الاسرائيلي في مزارع شبعا لا يعني تخلي لبنان عن حقه في المقاومة لكنه يعني حالياً انضمامه الى الحملة الأميركية على الارهاب. وتالياً فإنه أضحى أسير معادلة متجاذبة الاتجاه: فهو مع المقاومة ويرى انها الوسيلة الوحيدة لتحرير المزارع، وفي الوقت نفسه بات عاجزاً عن استخدامه ليجد نفسه في حال أكثر احراجاً دفعته الى موقع آخر في المواجهة هي حماية "حزب الله" عوض ان يكون لبنان - وسلطته الدستورية خصوصاً - في موقع مؤازرته. وهذا ما يبدو عملياً الواقع السائد في الوقت الحاضر. اذ بات على رئيس الجمهورية إميل لحود ورئيس الوزراء رفيق الحريري في كل مرة يتلقفان تهديداً ل"حزب الله" ان ينبريا للدفاع عنه بالتأكيد انه حزب لبناني ومحلي محض لا امتدادات دولية له، فيما كان سابقاً في موقع تبني هجمات الحزب ضد اسرائيل. الأمر الذي أظهر حاجة الحزب الى دفاع السلطة اللبنانية عنه بعدما كان أحد أسلحتها لأشهر خلت. مع ذلك لم يكشف لبنان عن تخليه عن مقاومة اسرائيل، لكنه في واقع الحال غير قادر على توسّل هذا السلاح في مواجهة اسرائيل. ان "حزب الله" بدأ يضفي على تحركه البديل من المقاومة المسلحة نشاطاًَ سياسياً لافتاً هو الانفتاح على المرجعيات المسيحية. ومع انها ليست المرة الأولى التي يزور فيها وفد من "حزب الله" بطريرك الموارنة، الا انها كانت المرة الأولى التي يعلن فيها عن جانب أساسي من المداولات كتأييد الحزب ورفض الحملات عليه والمناقشة المشتركة لأوضاع السكان المسيحيين في الجنوب والتمسك بصيغة العيش المشترك وبوحدة اللبنانيين. الأمر نفسه حصل مع زيارة الحزب مطران بيروت للروم الأرثوذكس الياس عودة. وهي اشارات أولى ومهمة لتأكيد الحزب في المرحلة الحالية على ان يكون جزءاً من الوفاق الوطني العام ومن الاجماع الوطني على الطريقة التي تحفظ للبنان استقراره الداخلي وتمنع اي انقسام تحت اي ذريعة كانت. وهذا ما عنته عملياً العبارة التي أطلقت على الدور الجديد ل"حزب الله"، وهو لبننته. اي التفاته من البعد الخارجي لدوره وهو مقاومة اسرائيل الى البعد المحلي الذي يقوده الى الانخراط في اللعبة السياسية الداخلية. في ضوء هذه المعطيات، وأياً تكن اللهجة التي يمكن ان يلجأ اليها "حزب الله" من حين الى آخر، سواء للدفاع عن حقه في مقاومة اسرائيل او لتأكيد اصراره على ان هجماته مستمرة في التوقيت الذي يجده مناسباً لتبرير تجريده من امتلاكه المبادرة في شنّ تلك الهجمات، فإن السجال الجاري بين لبنان والولايات المتحدة بات يتخطى الخلاف على حق المقاومة وعلى تنفيذ هجمات ضد الجيش الاسرائيلي الى ما هو أكثر دقة من ذلك، اي دفاع لبنان عن حزب أصبحت واشنطن تتهمه منذ 11 أيلول بأنه جزء من شبكة ارهاب دولية منظمة تتبادل المعلومات والمال والخبرات، الى حد حمل السفير الأميركي على القول في لقاءات مقفلة مع عدد من النواب ان ادارته تملك أدلة مؤكدة عن اتصالات يجريها "حزب الله" بمنظمات ارهابية دولية جعلته معنياً بتنفيذ هجمات ارهابية سواء بالدعم السياسي او المالي او بالخبرات. قال لهم ايضاً ان ادارته تملك معلومات عن وجود مخيم في منطقة البقاع الشمالي يتولى فيه الحزب تدريب متطوعين في حركة "حماس" وفي منظمة "الجهاد الاسلامي" من اجل دعم الانتفاضة في الأراضي الفلسطينية، وهو يطالب بإقفال هذا المخيم كخطوة أولى لفك الارتباط بين الحزب وهاتين المنظمتين. على ان انكار السلطات اللبنانية هذه المعلومات لم يحل دون اصرار الأميركيين على اتهام الحزب ب"البعد الدولي"، وهو بالنسبة اليهم شقان: الأول هو تعاون الحزب مع المنظمتين الأصوليتين الفلسطينيتين، والثاني وجود اتصالات بينه وبين منظمات دولية ذات صلة بشبكة ارهاب عالمية. وفي الشقين نفت السلطات اللبنانية صحتهما مع ان بيرنز أكد لها أمرين مهمين: الأول، ان واشنطن مستعدة لتناسي الملف القديم للحزب لديها، اي ما يتصل بالهجمات التي نفذه الحزب، على ما قال المسؤول الأميركي، ضد السفارة الأميركية في عين المريسة في بيروت وضد موقع مشاة البحرية الأميركية قرب مطار بيروت عام 1983، في حال قدم الحزب أدلة جديدة على وقف صلاته بالبعد الاقليمي للارهاب. والثاني ان واشنطن تعتبر ان لبنان ليس هدفاً في حملتها العسكرية ضد الارهاب، ولا هو في برنامج المرحلة الثانية من الحملة الموجهة حكماً الى الشرق الأوسط، مع اشادتها - كما أشاد من قبل السفير باتل في مقابلته التلفزيونية - بالتعاون الذي تقدمه الأجهزة الأمنية للأميركيين على صعيد تزويدهم المعلومات الضرورية واللازمة عن شبكات الارهاب التي اتخذت من لبنان في الفترة السابقة موطئ قدم او التي لا تزال تمارس نشاطات على أرضه ك"القاعدة" و"عصبة الأنصار الاسلامية" في مخيم عين الحلوة الفلسطيني في جنوبلبنان. مع ذلك لم يتوصل الطرفان اللبناني والأميركي الى القاسم المشترك الذي يطلبه الأميركيون. فإدانة لبنان المطلقة للارهاب، وتعاونه مع الملحق الأمني في السفارة الأميركية، وانضمامه الى الحملة الأميركية، واجابته عن الأسئلة ال17 الملحقة بالقرار الرقم 1373 الصادر عن مجلس الأمن حول اجراءاته التطبيقية لمكافحة الارهاب، لا تزال تنقصها اجابة اضافية بالنسبة الى الأميركيين هي في موازاة كل ما قدم لبنان قبلاً: أي خيار قرره "حزب الله"؟ وهل سيظل يدعم الانتفاضة الفلسطينية ام يتوجه الى البعد اللبناني فقط الذي اعترف بيرنز وباتل به؟ الواقع ان السلطات اللبنانية أجابت تكراراً عن هذين السؤالين، لكن الأميركيين لم يقتنعوا بعد. بل الواضح ان من عليه ان يقتنع قبل الأميركيين هم الاسرائيليون الساعون الى تعطيل دور الحزب في مزارع شبعا عبر الضغوط الأميركية المزدوجة الهدف: في المزارع وفي الأراضي الفلسطينية. ولهذا فالسجال مرشح للاستمرار، لكنه في أي حال لن يتجاوز مجرد الاختلاف السياسي في وجهات النظر