تتابع الشاعرة السورية هالا محمد في مجموعتها "قليل من الحياة" دار الريّس ترسيخ صوتها عبر كتابة القصيدة القصيرة ذات المكونات اللغوية القليلة، والحمولة البلاغية المعدومة تقريباً. وسبق لها ان فعلت ذلك بشكل متفاوت في مجموعتيها السابقتين "ليس للروح ذاكرة" و"على ذلك البياض الخافت". هذا لا يعني، طبعاً، انها ما زالت تكتب القصيدة نفسها، لكنه يدل، على الأقل، ان ثمة "أسلبة" ما تتحكم بهذه الكتابة المصنوعة بنَفَس شعري قصير، وضربات متلاحقة كأنها تحفر في الموضع الأول الذي بدأت به تجربتها. وبإمكان القارئ ان يقرأ ما تكتبه هالا محمد بوصفه سيرة حقيقية، او متخيّلة، لحياة امرأة تتواصل مع العالم من زاوية فردية، يتم فيها تحويل الأشياء والذكريات والأحاسيس الى مادة للتأمل الشعري. ولعلّ الفارق الأهم، والأكثر بروزاً، بين منجزها الحالي وكتابيها السابقين، اتساع المسافة بين الشاعرة وبين العالم. فالتجاور، او التلازم الذي لاحظه القارئ بين التجربة الشخصية المباشرة والكتابة، ينكسر هنا لمصلحة أداء أوسع للقول الشعري. صحيح ان هذا الأداء يحافظ على نبرة شخصية تميّز معظم ما تكتبه، الا انها الآن تختلط بعبارة أكثر حكمة. وتتحول غالبية القصائد الى مقاطع مقتضبة قائمة على الحذف والاختصار والاقتصاد، او الى مقاطع أطول يخفّ فيها السرد والاسترسال. كلّ ذلك يجعل الشعر أشبه بومضة، والقصائد أقرب الى برقيات خاطفة، تكون الكلمات فيها مصقولة بعناية فائقة: "على شاطئ الماضي / تستوي فكرة الماء فيه مع فكرة اليابسة / كمحارة فارغة / تقلّب الذكريات / رأسي". وحتى حين تكتب هالا محمد مقاطع أطول نسبياً، فإنها تحافظ على هاجس الاختزال والخوف من اندلاق عالم القصيدة أكثر من مساحة المعنى المفترض والمتخيل... كأنها تريد لهذا المعنى ان يظل مشدوداً ورشيقاً. حين تتخفف قليلاً من "عبء" هذا الهاجس، ينتشر المعنى بما يزيد على الحاجة الا انه يبدو، مع ذلك، ممسوكاً برقّة الجملة وشفافية ترتيب الكلمات داخل المقطع. ثمة شغف وحب يمنعان العبارة من الاستطراد، ثمة عناية امرأة تستطيع بقليل من الكلمات ان تكتب حياة كاملة!