الفنانون كثيرون. لكن المبدعين الحقيقيين منهم قلة، أولئك الذين "يستنطقون" الحجر، ويجعلون من ملمس الاسمنت لمسة حرير، ومن الخطوط المتكسرة اوتار قيثارة ومن الفضاءات قصائد شعر. إذا كانت كل الفنون تصبو الى الموسيقى فأي لحن خلاب انساب من بين المنحنيات والمقرنصات والفضاءات والخطوط المتكسرة، وجعل لجنة المحكمين العالميين تختار الاجمل والاجود والأكثر متعة ونفعاً، من بين عشرات التصاميم التي تدخل المسابقة النهائية، ولا يفوز بها الا اسم غدا علماً زهاء حديد التي وجد أعضاء اللجنة في تصاميمها مسحة من خيال، وقافية شعر ونوتة موسيقى الى جانب الهندسة والحساب. علاقة الموسيقى بالعمارة علاقة جدلية حميمة. هذه العلاقة الوثقى تحسها احساس اليقين وانت تلج بوابات الآثار المعمارية الخالدة. تمتلئ جوانحك بالفخامة والبساطة معاً، ثنائية لا تأتلف إلا نادراً. نجدها في قصر الحمراء ومسجد قرطبة في اسبانيا، بين أواوين المدرسة المستنصرية في بغداد، وأروقة "القلعة" في مصر وأقواس المسجد الأموي في دمشق. للمعمارية زهاء حديد شهدنا فضاءاتها في القبة الفلكية الالفية في لندن The Dome تلك المساحات الروحية الشفيفة حيث وقف الزوار طويلاً يتأملون ويديرون رؤوسهم يمنة ويسرة، للتمتع بظل جدار سكبه ضوء بعيد أو سطوة كوة تجمعت في بؤرة ضوء. لم تكن صدفة محضة ان يتألق مجدداً اسم زهاء حديد، تلك الكفاءة العربية المتميزة التي فرضت حضورها على المدارس الهندسية العالمية. واثبتت جدارتها. للتربع على ربوة المعمار. واذا أعدنا عقارب الساعة الى الوراء قليلاً، لوجدنا ان هذه الكفاءة المثيرة للجدل، لا تكاد تحصل على جائزة أولى، حتى تغادرها الى جائزة أولى اخرى. وكيف يغيب عن البال ذلك الجدل والنقاش الذي دار طويلاً بين أروقة المؤسسات المعنية وتجاوزها الى الصحف عندما فاز احد تصاميمها بجائزة أفضل تصميم ثم جرى سحبه لأسباب مهما كانت مبرراتها، فهي اسباب واهية لا تنهض حجة ولا تقيم دليلاً. في الشهر السادس من هذا العام، طالعتنا الاخبار عن فوز جديد للمعمارية العراقية في واحدة من المسابقات العالمية المشهودة، والتي اشترك فيها نخبة معروفة من المكاتب الهندسية، المحلية والعالمية الموصوفة بالخبرة والشهرة. وبعد شهرين من المداولات والمشاورات وآراء محكمين عالميين في اكثر من بلد، أعلن عن اختيار تصميم المهندسة حديد من بين 20 تصميماً لقبّة فلكية في سنغافورة هي كتلة جمالية متقنة، روعي فيها ان تعكس تركيبة نسيج المجتمع المدني والوجه الأصيل للمدينة. اضافة الى امكاناتها الوظيفية المتعددة. فهي مكان للعمل والسكن، للترفيه والتعليم، للتجارة والفنون، مما يعزز القيمة المتعاظمة للاقتصاد النامي باطراد في تلك البقعة من العالم. ولعل التحدي والفوز صارا ديدن المعمارية حديد ولعبتها المفضلة. فها هي هيئة التحكيم تقرر بالاجماع قبل أيام اختيار تصاميم لتوسيع متحف اوردروبغارد في كوبنهاغن والتي أعلنت عنها وزارة الثقافة الدانماركية. ولم يفت آن برجي فورسمارك مديرة المتحف، ان تعلق على هذا الفوز بالقول: "ما يميز هذا التصميم بالدرجة الأولى، انه يحترم الروحية القديمة لبناء المتحف الحالي. ان التصاميم بلمستها الشاعرية ستوفر لزوار المتحف تكثيف المشاعر والأحاسيس للفنانين والزوار وهم يتمعنون في مجموعة المتحف الفريدة من لوحات وأعمال انطباعية فرنسية، وان توسعة المتحف البالغة مساحتها 1150 متراً مربعاً ستضيف مساحات كافية لإيواء رسوم ولوحات مجموعة الانطباعيين الفرنسيين، وستوفر لها المناخ الصحي اللازم، من انارة وظلال، ودرجة حرارة ورطوبة ملائمة لحفظ اللوحات من الضرر والتلف، اضافة الى احتواء التعليم على فضاءات مناسبة تستخدم للعرض الموقت كمقهى ومطعم وقاعة وسيعة متعددة الاغراض. وكانت لفتة بارعة من المصممة انها أقدمت على تجزئة الفضاءات والحدائق الخارجية المحيطة بالمتحف، واعادة بلورتها بشكلية جديدة تمكنت خلالها من ضم واحتواء البرنامج المعقد للبناء، واحاطته بفضاءات نابضة وبإيحاءات باهرة من حركة وسكون وكتل وفراغ وظل وضوء"