"تصوّري! أشعر ببعض الأمان" قال صديق يهتف لي. وتابع: "سجلي رقم هاتفي المحمول الذي يظهر لديك الآن". شكرت الدنيا التي تجعل صديقاً لك، أخاً، ما ان يشعر بالأمان حتى يقاسمك نعيمه. كنت منذ فترة أتقاسم النعيم نفسه مع صديقة لي، تحدثني من باص السفر بين دمشق واللاذقية: "أشعر بالأمان الآن. أبتعد ولا أبتعد. غربتي قلّت. لست وحيدة في المكان. بإمكاني التواصل فأكسر الصمت ولا يكسرني!". يومها أيضاً شكرت الدنيا التي تجعل امرأة، صديقة، أختاً، ما ان تشعر ببعض أمان، حتى أقاسمها قشور نعيمها. هي قناعة الانسان، ذلك الذي لم تكسره حاجاته وحرمانه. حاجاته الدائمة الثقيلة الثابتة. ذلك الذي يقدّر قيمة طزاجة تفاصيل الحياة. فلا يبخل بالاعتراف لها بالجميل. فنشاركه جمال متعه الصغيرة المحمولة! أنا نفسي كنت تحررت قليلاً من وطأة المكان! أي مكان! وشعرت بحدود دنيا من الاستقرار فيه! وقبلت باستقرار هذه الحدود في حدودي. فرقمي الثابت الجديد والمحمول الذي لا يتبدل مع تبديل بيوت الإيجار، يرافقني كظلّي، كرنيني، كصوتي، كنهاري وليلي، كراحة يدي، هو لي وأنا له. صار هوية ثانية، ثابتة، أكثر دينامية. هوية صوت وصورة. وزمان ومكان! هوية ذات رنين! رنين أتواصل فيه مع وحدتي، فأزداد استقراراً فيها، قيد أنملة... إن أنا أردت، أو بمجرد أن أرغب. وحدتي التي مع الزمان وبسبب الزمن، أخاف عليها. على فقدانها وامتداد كآبتها! هي التي أجدني داخل جدراني معها. تقبل بشروطي، تعايشني كما أنا. بسلام روحها ونقاء أنفاسها. أغمض عينيها فتنام بنقاء الهواء وصفائه. كطفل ارتكب آثام عمره. بمتعة عمره. فارتعش جسده من شدّة السرّ واللذة. لذة ذات ايقاع مختلف. هو ايقاع ميزان العدالة الأعزل الذي يبقى هكذا أبد الدهر يحرس توازن الهواء. بسكون من يحبس أنفاسه كي لا يغش. ميزان العدالة هذا الذي أقام الدنيا وأقعدها، ذلك الذي لا تمتلك ولا يمتلك أحد، أنت ببساطة، وبمجرد ان تدير مفتاح ضميرك في قفل الباب، متخففاً الا من انسانيتك، تستطيع تحقيقه. تحقق عدالتك، معادلة عدالتك. فرد أعزل تنتمي الى الكون بأفعالك، رنين قناعاتك. تثقلك حاجاتك، فتشعر بأمان ما يخترق وحدتك. أمان رنين هاتف محمول، يصلك بالكون، فيكسر قيود عزلتك قيد ثواني كلام. يحررك من انتظارك. انتظارك لحاجاتك. فتحمل حاجاتك معك، خارج حدود الجدران، ورنين هواتف البيوت، وتبعية المكان الذي فيه فقط تدور أحداثك مدى العمر! تحمل أمكنتك في يدك الانسانية الصغيرة، وتمضي في الزمن الثابت ثبات الخلود، تجدد عناصر وحدتك، تنعشها، تحرك أسرارها، فتنعم بأمان هو أمان من خبر التأمل في وحدته طويلاً. هي مفردات تجميل الحياة. قشرة الحياة. قشورها، ولم لا! المفردات التي أحياناً لا نمتلك الى تحقيقها سبيلا، فنتنكر مع الزمن لحاجتنا لها! لكن حين نستطيع نرى جوهر دورها الذي قد يسهّل الطريق الى بعض جوانب الحياة. دور قد يجعل الانتظار أخفّ وطأة. والوطأة أشدّ انتظاراً. هي تجديد للحاجات، تقليب الوحدة دائماً على وجوهها. ولسع وجوهها بجمر التجربة. أنت تنقل حياتك كخطاك بين اليمنى واليسرى. قد لا تتقدم. ولم لا، اذا لم يكن من البدّ بدّ. فكما المحبة التي "لا تعرف عمقها الا ساعة الفراق"، كذلك الحاجة، تعمّق تعلّقها بوحدتها الطويلة حين يغدو تحقيقها ممكناً، وقد تحنّ الى المستحيل. أشكال مختلفة للوحدة، للحاجات للتعبير. لتكرار الوحدة وتعدادها وتكاثرها... لكي نحيا أكثر. هي كسر العادة، لكي تزداد قدرة على الالتحام والتوحد مع الذات أكثر. هي قشور. تبدو للبعض مجرد مظاهر! يمارسها البعض بحكم التعوّد على التظاهر. وهي للبعض غطاء لعري يحتاج أحياناً الى رحمة غضّ الطرف، لكي يلبس من جديد!