كان الجميع يعتقدون ان غريس كيلي، فاتنة أفلام ألفريد هتشكوك، ولؤلؤة فؤاد أمير موناكو هي أسعد امرأة على وجه البسيطة. فالمرأة التي حققت في هوليوود حضوراً سريعاً ومدوياً، عرفت حين أصبحت أميرة كيف تحقق نجاحاً في حياتها الزوجية والعائلية. قبل ان يخطفها الموت اثر حادث سيارة أليم، وهي بعد في عز صباها. ولكن هل كانت غريس كيلي سعيدة حقاً؟ هل كانت ناجحة حقاً؟ رجلان من أشهر رجال العالم في ذلك الحين، كانا يراقبان باهتمام ودقة ما كان يدور داخل قصر أمير موناكو، أواخر سنوات الخمسين. كان كل من الرجلين يحاول ان يتلمس في ثنايا الأحداث والهمسات ما يشجعه على المهمة التي يريد لنفسه القيام بها. كانت مهمة الواحد منهما مختلفة تماماً عن مهمة الآخر، لكن المهمتين كانتا تتعلقان بامرأة، حسناء، بالكاد بلغت الثلاثين من عمرها، وها هي تتربع هناك على عرش الإمارة بعدما احتلت فؤاد صاحب تلك الإمارة. كان للمرأة، في ذلك الحين اسم يشبه السحر: غريس كيلي. وكان الناس ينظرون اليها على انها أجمل امرأة في العالم، وأكثر النساء أناقة. بالنسبة الى العالم كله كانت غريس كيلي امرأة سعيدة. لكن الرجلين الشهيرين كانا يعرفان انها ليست سعيدة تماماً. وكان كل منهما يريد ان يتأكد من، افتقارها الى السعادة لكي يضرب ضربته. أول الرجلين هو ألفريد هتشكوك، أحد كبار أساطين السينما في هوليوود وفي العالم. أما الثاني فكان أرسطو أوناسيس، أحد كبار ألاثرياء، وأحد كبار نجوم المجتمع في ذلك الوقت. ولكن ما الذي جعل الرجلين الأشهر في العالم، يهتمان بغريس كيلي كل ذلك الاهتمام؟ ولماذا كان كل واحد منهما يريد ان يقفز في اتجاهها ما ان يلوح على محياها او في تصرفاتها بريق تعاسة ما؟ طبعاً لم يكن السبب غرام اي منهما بها. فالاثنان كانا ابعد عن ذلك. كل ما في الامر ان هتشكوك كان يريد لغريس كيلي ان تعود الى السينما. فيما كان أوناسيس يتمنى ان تسمح له فسحة تعاسة في علاقة غريس كيلي بزوجها أمير موناكو رينيه ان يستعيد، هو، مشروعاً قديماً كان قد جهد سنوات من أجل تحقيقه، يقوم على جمع أمير موناكو بمارلين مونرو. ودافع ذلك ان مارلين كانت لعبة في يد أوناسيس أو هذا ما كان يعتقده هو على الأقل، أما غريس فلم تكن لتعيره أدنى اهتمام. وأوناسيس كان في ذلك الحين يرغب في السيطرة الاقتصادية على الإمارة التي كانت تعصف بها رياح السياسة الفرنسية وتحتاج الى أمواله. وكان يخيل اليه ان الطريق الى السيطرة على الإمارة تمر عن طريق السيطرة على قلب الأمير رينيه بواسطة مارلين مونرو. بالنسبة الى هتشكوك كانت الأمور أقل تعقيداً وأكثر مشروعية. فهو كان، قبل زواج غريس بالأمير رينيه، قد حقق ثلاثة أفلام من بطولتها، نجحت جميعها نجاحاً كبيراً. وكان ذلك النجاح قد أكد لهتشكوك، ان غريس هي الأكثر ملاءمة لسينماه من بين كل النساء الشقراوات الباردات كما كان يحبهن اللواتي أدارهن في أفلامه السابقة. وكان هتشكوك يعرف ان غريس لن تعود الى السينما طالما انها تشعر بالسعادة في أحضان أمير أحلامها وحياتها، وفي ذلك الحين كان لديه مشروع لتحقيق فيلم بعنوان "مارني" كان يرى ان غريس هي خير من يصلح له. نعرف، طبعاً، أن أياً من الرجلين لم ينجح في مشروعه او في توقعاته. فحياة غريس كيلي مع الأمير رينيه ظلت مستمرة يخيم عليها ظل السعادة الوارف، حتى وإن كان سيقال لاحقاً ان صاحبة العلاقة لم تكن سعيدة تلك السعادة التي يعتقدها الناس. بل انها أمضت سنوات حياتها وهي أميرة تطرح على نفسها أسئلة لا تنتهي حول ما اذا كانت أخطأت أم أصابت حين تركت السينما ذات يوم لتستجيب الى نداء قلبها وتتزوج الرجل الذي أحبته حقاً. غير ان ما كان ينغص حياة غريس، كان في مكان آخر: في ما كان يقوله بعض النقاد من ان هذه الفنانة ذات الأصول الإيرلندية، لم تختر نداء القلب وتفضله على نداء الفن. الا انها لم تنجح كممثلة. فهي، حسب رأي هؤلاء، لم تثبت أهليتها للفن، ولولا ان هتشكوك أعطاها بطولة ثلاثة من أفلامه الكبيرة، لما كان من شأنها ان تبرز وسط عالم هوليوودي كان يزدحم بالممثلات الكبيرات. أما نجاح أفلام هتشكوك التي مثلتها غريس كيلي فلم يكن بفضلها، بل بفضل المعلم نفسه الذي، يبدو، ان ايمانه بها - كامرأة ساحرة لا كتلة - جعله يهتم بالأفلام الثلاثة وهي "النافذة الخلفية" و"أطلب حرف م ان كان في الأمر جريمة" و"امسك حرامي". فهل كان معنى هذا كله ان الزواج الأميري، انما جاء انقاذاً لتلك الفاتنة، من مصير سينمائي أسود؟ ان الجواب بنعم على هذا السؤال سيكون معناه نقض أسطورة كاملة صيغت حول حياة واحدة من أشهر نجوم الخمسينات، وسيدة من أسعد سيدات القرن العشرين. واليوم، بعد 18 عاماً على رحيل غريس كيلي يتكاثر التأكيد على مثل هذه الناحية من حياتها ومسارها. ويستخدم هذا التأكيد لتفسير الكثير من لحظات التعاسة التي كانت غريس كيلي تعيشها وكان من الصعب تفسيرها خلال حياتها. الأسطورة تصنع اليوم من غريس كيلي ممثلة ونجمة كبيرة. لكن الحقيقة هي ان مسارها السينمائي لم يتواصل سوى خمسة أعوام او ستة. ولم يعرف سوى نصف دزينة من افلام لم يعرف أي منها نجاحاً استثنائياً. ولدت غريس في العام 1928 في فيلادلفيا، بالولاياتالمتحدة الاميركية، لأسرة كاثوليكية ذات جذور إيرلندية، وبدأت حياتها ممثلة مسرح وتلفزيون في نيويورك قبل ان يكتشفها المخرج هنري هاتاواي ويعجب بمظهرها الارستقراطي، فيعطيها دوراً صغيراً في فيلم "14 ساعة" 1951 الذي لم يحقق نجاحاً، لكنه لفت نظر المخرج فرد زينمان، الذي كان يبحث عن امرأة شقراء تمثل دور زوجة شريف في بلدة أميركية. الفيلم كان اسمه "في عز الظهيرة" وهو فيلم كبير وشهير، ولكن من النادر لمتفرجيه ان يتذكروا ان غريس كيلي هي التي لعبت دور الزوجة. فغاري كوبر ظل الظل الكبير الطاغي على الفيلم، في دور الشريف، فيما نسيت غريس تماماً. ولربما كان ألفريد هتشكوك الوحيد الذي تنبه الى تلك السيدة، هو الذي كان يحب لنساء أفلامه ان يكن شقراوات وباردات تماماً. وهكذا أسند اليها دور الزوجة في فيلم "اطلب م..." بعد ان حوّلها من امرأة ذات بعد تعبيري واحد، الى امرأة تعرف كيف تتلاعب بتعبيراتها. لكنه، اذ اكتشف حدود مقدرتها هذه، وسخاء مظهرها، عاد في فيلمه التالي "النافذة الخلفية" 1954 وغير الدور الذي اعطاها اياه، ليعيدها سلبية تعبق بالأناقة والجمال القياسي، ولكن من دون ان يعتمد على روحها اي اعتماد. وهنا أيضاً كما في "عز الظهيرة"، يميل الكثيرون اليوم الى نسيان حضور غريس كيلي في الفيلم كممثلة، ليتذكروا حضورها كامرأة حيث كان الحضور الطاغي لجيمس ستيوارت، في دور المصور المقعد والبصّاص، هو الأساس. ولأن أي فيلم يحققه هتشكوك في ذلك الحين، كان يحضر وبقوة لدى الجمهور، أصاب الفاتنة الشقراء بعض رذاذ عبقرية هتشكوك، فعمد مخرجون آخرون من أمثال أندرو مارتون وجورج ستيون الى اسناد بطولات أفلامهم لها. وهكذا ازدهرت بعض الشيء خلال عامين، بل نالت جائزة أوسكار عن أدائها في فيلم "فتاة الريف" لجورج سيتون. غير ان غريس، بدلاً من ان تستفيد من التجربة وتبرز كممثلة، برزت كسيدة مجتمع، خاصة وأن زياراتها المتكررة الى أوروبا، والى الجنوب الفرنسي في ذلك الحين، حوّلت أخبارها من الصفحات السينمائية الى صفحات المجتمع في الصحف، وراحت الأخبار تتتالى عن علاقات لها، تارة بكلارك غايبل، الذي كانت مثلت الى جانبه، كما الى جانب زميلته آفا غاردنر أحد أدوار فيلم "موغامبو" من اخراج جون فورد، وتارة بكاري غرانت، وحيناً بالفرنسي جان - بيار أومون. أما هي فكان عقلها قد بدأ يدور حول مكان آخر... ليستقر في... إمارة موناكو. الذي حدث هو ان غريس كيلي، خلال وجودها في مهرجان كان كضيفة، طلب منها صحفي شهير في "الباري ماتش" ان تصحبه الى قصر أمير موناكو، لكي يلتقط لها صوراً هناك. وهي ما ان دخلت القصر، حتى أذهلها مستوى الحياة فيه. بعد ذلك استعلمت عن صاحب القصر لتكتشف انه أمير ساحر، ارتبط بعلاقة غرامية مع ممثلة فرنسية من الطبقة الثانية، وفهمت ان الأمير يحب السينما وأهلها.. ثم أتيحت لها فرصة الاجتماع به... بالصدفة. حصل الاجتماع خلال العام التالي، حين اصطحبها ألفريد هتشكوك الى الجنوب الفرنسي، ليصور هناك فيلم "امسك حرامي" الذي قاسمها بطولته كاري غرانت. وهناك، التقت بالأمير رينيه خلال حفل استقبال، وذكرته انها كانت قد صوّرت في قصره. ولسنا في حاجة بالطبع الى الكلام حول وقوع الأمير في هواها على الفور، هو الذي كان شاهد بعضاً من الأفلام التي مثلتها. في البداية كان يمكن للعلاقة بين الاثنين ان تكون عابرة. ولكن الأمير رينيه، ليس من ذلك النوع المغامر. انه شخص رومانطيقي. ولقد وجد لدى غريس ما أثار لديه حنيناً قديماً الى الفن والمرأة الهادئة المتزنة. وهكذا في الوقت الذي عادت فيه غريس الى فيلادلفيا لتعيش ذكريات ذلك اللقاء الذي أثر فيها كثيراً، كان الأمير قد اتخذ قراره: في عيد الميلاد المقبل، سيخرق التقاليد ويتوجه الى الولاياتالمتحدة. وسيزور غريس كيلي وأهلها وسيخطبها. غريس ستصبح زوجته وأميرة بلاده وفؤاده. الحب يخرق التقاليد وبالفعل ما ان حل عيد الميلاد حتى خرق الامير رينيه التقاليد التي تحتم بقاءه مع رعيته خلال الأعياد، وتوجه الى هناك، حيث قلبه وحبه. وبعد خمسة أيام من اللقاء الأول بين الفنانة والأمير، اتخذ الاثنان قرارهما. وأعلنا خطبتهما في وقت لم تكن الصحافة العالمية قد تمكنت فيه بعد من صياغة أية اشاعة حولهما. أخذ النبأ العالم كله على حين غرة. لكن شخصاً واحداً لم يكن سعيداً: أوناسيس، الملياردير اليوناني الذي ستقول سيرته لاحقاً انه كان يريد السيطرة على الأمير وإمارته لمجرد ان يبني صرحاً فنياً يليق بفاتنته هو: مغنية الأوبرا ماريا كالاس، التي كان يريد ان يجعل من دار أوبرا مونت كارلو مركزاً لانطلاقتها الجديدة. حسناً! قال أوناسيس في نفسه، ربما علينا ان ننتظر بعض الوقت. في الوقت نفسه كان ألفريد هتشكوك، الذي لعب دوراً كبيراً في التقريب بين الأمير والممثلة، يعد نفسه هو الآخر بأن انتظاره لن يطول: بعد فترة سوف تعود غريس لتمثل تحت إدارته برضى عريسها الأمير، او بدون رضاه. لكن أمل الاثنين خاب كما نعرف. فلا الأمير سئم فاتنته. ولا هي أحست حقاً ان في وسعها ان تعود الى السينما. لكن هذا لا يعني انها عاشت سنواتها سعيدة منذ ذلك الحين. السعادة كانت خلال السنوات الأولى فقط. السنوات التي تلت واحداً من أفخم أعراس تلك المرحلة، وشهدت ولادة ثلاثة من أجمل أطفال الأمراء: كارولين ثم ألبير ثم ستيفاني. والحقيقة ان هذه الولادات، ولا سيما ولادة الأمير ألبير، الذي سيصبح ولياً لعهد الإمارة أنقذت موناكو من ان تضم الى فرنسا. وفرنسا كانت دائمة الغضب على الإمارة في ذلك الحين، لأنها كانت تشكل ملجأ للأثرياء الفرنسيين للتهرب من الضرائب الباهظة التي تفرضها عليهم باريس. وفي هذا الإطار قيل دائماً ان وجه غريس كان خيراً وفألاً على أمير موناكو، وعلى الإمارة نفسها. ومن هنا ذلك الحب الكبير الذي كنّه شعب الإمارة الصغيرة للفاتنة الهوليوودية. غير ان السعادة لم تكن في متناول يدها على الدوام. ولا سيما خلال السنوات الأخيرة. فالفاتنة، بعد صخب السنوات الأولى، راحت تحس انها باتت ثانوية الأهمية، حتى في حياة زوجها وفي تصريف شؤون الإمارة. بل سيقال لاحقاً ان رينيه نفسه كان ينبهها بين الحين والآخر الى ضرورة الا تتدخل كثيراً في شؤون الحكم. صحيح انه لم يقل لها ابداً انها أجنبية ما قد يجعل من تدخلها دافعاً لاستثارة الحساسيات، لكنها هي كانت تفهم هذا. وفي الوقت نفسه، كانت غريس تراقب صعود النجمات من بنات جيلها وتتساءل، بينها وبين نفسها، عما اذا لم تكن قد أخطأت حين استجابت لقلبها، بدلاً من الاستجابة لفنها. في تلك الآونة كان هتشكوك قد عاد الى الظهور في حياتها محاولاً اقناعها بالعودة الى الفن. ولئن كانت هي قد لانت، مرة وقررت ان تستجيب، أتت معارضة رينيه الصارمة لتضع حداً لذلك الاغواء. كل ذلك لم يذبل جمال غريس كيلي، بل ظلت على الدوام حسناء بهية الطلعة متألقة.. وأكثر من هذا ظلت دائمة الابتسام. ولكن كان هناك من الناس من يعرفون ان ابتسامتها المشعة كانت تخفي، في الحقيقة، حزناً وندماً كبيرين. خاصة وان كتابات عنها بدأت تظهر في ذلك الحين، تؤكد انها لم تكن تلك الممثلة الكبيرة التي يعتقدها البعض. وان الزواج أنقذها من انكشاف ضحالة موهبتها. وراح أصحاب تلك الكتابات يؤكدون على هذا عبر تحليل أدوارها وأفلامها. ازاء ذلك كله كان من الطبيعي لغريس كيلي ان تحس انها امرأة منتهية، ولا سيما حين شبت ابنتها الكبرى كارولين وبدأت تسرق الأضواء بجمالها ومغامراتها، وهي بعد مراهقة. قبل فترة قصيرة من رحيلها اثر حادث السير الذي أودى بها عند منحنيات صخور موناكو الصعبة، والذي أبكى الكثيرين على المصير البائس لواحدة من أسعد نساء القرن العشرين، كانت غريس كيلي قد قالت لصحفي صديق: "اواه كم أتمنى ان يذكرني الناس، بعد مماتي، ليس بوصفي أميرة او نجمة من نجوم هوليوود، بل بوصفي امرأة حاولت ان تزرع شيئاً من الخير حولها...". حين قرأ كثيرون هذا الكلام، في وقت كانت فيه غريس كيلي لا تزال حية ومشعة وملء الأسماع والأبصار، لم يدركوا مدى ما فيه من رقة كآبة واستسلام أمام الفشل. لكن هذا الكلام نفسه عاد واتخذ دلالته كلها بعد شهور قليلة حين رحلت وهي بالكاد في الستين من عمرها. وبعد ذلك بسنوات قليلة تساءل كثيرون: هل حقاً كانت غريس كيلي سعيدة!؟ ولم يتمكن أحد من الاجابة. لأن غريس كيلي أخذت معها أسراراً كثيرة تتعلق بحياتها ورغباتها. وتركت أميراً حزيناً عليها، وثلاثة أبناء ورثوا جمالها وربما.. تعاستها أيضاً