هما بطلا أسطورة حقيقية عصرية تشبه حلم اليقظة في مصادفاتها وتطوراتها. رينييه غريمالدي ، أمير موناكو، دولة تكاد لا تتعدى مساحتها العامة الكيلومترين المربعين، وغريس كيلي ملكة من دون منازع على عالم هوليوود الوهمي. كان مكتوباً لهما أن يلتقيا، فوقعا في الحب من النظرة الأولى، ولم تفصل بينهما قارة بأكملها. لحق بها إلى الولاياتالمتحدة ليطلب يدها فقالت له نعم... وللسينما، لا. أنجبا ثلاثة أولاد وعاشا 27 عاماً من السعادة، أنهاها حادث مأسوي سلخ الأميرة عن إمارتها وعن عرش قلب أميرها. القدر لعب دوره لم تعلم غريس كيلي الصغيرة التي نشأت في كنف عائلة أرستقراطية من فيلادلفيا أن شغفها بالتمثيل سيوصلها إلى الأدوار الأولى في المجتمع الدولي. فهي منذ أن صعدت للمرة الأولى الى المسرح في العاشرة من عمرها، عرفت أن التمثيل هو قدرها. تسجلت بعد 8 سنوات في المعهد الأميركي للفنون واستقرت في نيويورك حيث مهّد لها جمالها الأخاذ الطريق في عالم عرض الأزياء. ولم تمض سنتان على انطلاقها في هذه المهنة حتى احتلت صورها غلافات المجلات الكبرى العالمية. وما لبثت غريس أن انطلقت إلى هوليوود حيث مثلّت الفيلم تلو الآخر، واضعة شروطها الصارمة لتتصدر لائحة الأدوار الأولى في الأفلام، على عكس كل الممثلات الناشئات... إذ إنها لم تكن من الفتيات اللواتي يسهل التلاعب بهن، أو فرض الشروط عليهن. وتكرست ممثلة عالمية بعد ان بدأت التمثيل في سلسلة أفلام "ملك التشويق" الفرد هيتشكوك الذي رأى فيها مثال بطلة قصصه: شقراء، فاتنة في أنوثتها الفريدة، أرستقراطية، تخفي انفعالاتها وشغفها تحت غطاء من البرودة الظاهرية. فقادها أحد أفلامه صدفة إلى "الكوت دازور" حيث فتنتها الطبيعة الفرنسية ومراكزها السياحية... وتمنت لو تعيش كل حياتها هناك، غير مدركة أنها تستبق القدر الذي اختار أن ينقلها من قارة إلى أخرى لتمضي بقية حياتها. اللقاء الأول ولم تكد تمضي سنة واحدة على زيارتها الأولى لفرنسا حتى حازت غريس كيلي على أوسكار أفضل ممثلة العام 1955، فانتدبت لتمثل بلدها في مهرجان كان السينمائي حيث قررت مجلة فرنسية تنظيم لقاء بينها وبين أمير موناكو رينييه غريمالدي لتنقل وقائعه على صفحاتها. وفي اليوم المحدد، تتالت الحوادث التي كادت تنسف المشروع من أساسه: انقطعت الكهرباء ولم تستطع مساعدتها تحضير الثوب الذي سترتديه وتعرضت السيارة التي تقلها إلى القصر لحادث. ولما وصل موكبها إلى أبواب القصر، اضطر إلى الانتظار نصف ساعة لأن الأمير تأخر عن الموعد. إلا أن اللقاء تم على رغم كل شيء بين الاثنين: هو فتن بجمالها الهادئ وثقافتها الرفيعة وذكائها الحاد... وهي أعجبت بالأمير المفعم بالرجولة واللياقة واللباقة، الذي يتربع سعيداً على عرش إمارة كبيرة "ككف اليد". فمشيا جنباً إلى جنب في حدائق القصر بينما لاحق المصورون الصحافيون أدنى حركة بينهما. وما لبثت غريس أن عادت إلى الولاياتالمتحدة الأميركية وبقي رينييه في موناكو يتابع شؤون إمارته... وأخبار أميرته عن بعد، خصوصاً أنها فتنت المقربين منه الذين رأوا في زواجهما وسيلة أكيدة لتطور الإمارة وارتقائها إلى المستوى العالمي... ووسيلة دعائية حتمية ستلفت نظر المجتمع الراقي إليها. فيتهافت السياح إلى فنادقها وكازينواتها وشواطئها. وبدأوا يخططون لدعوتها مجدداً لزيارة القارة الأوروبية، إلا أن رينييه كان أسرع منهم جميعاً. فقرر بنفسه زيارة القارة الأميركية في كانون الأول ديسمبر من تلك السنة ليلتقي من سحرت عقله وقلبه معاً، وذلك بعد 6 أشهر فقط على لقائهما الأول. امرأته المثالية تشبهها فور لقائهما في نيويورك، أمسك الأمير بيد غريس ووصف لها امرأته المثالية التي يحلم بأن تقف إلى جانبه في حياته الخاصة والعامة في الإمارة. كان وصفه دقيقاً إلى حد أنها عرفت فوراً أنه يتكلم عنها، لكن ببرودتها الظاهرة الشهيرة، لم تبد أي رد فعل علني... وانتظرت التطورات بينهما. وتكرر اللقاء بينهما بعدما دعاه والد غريس للغداء في منزله في فيلادلفيا، ليتعرف الى ذلك الأمير المجهول الذي يتردد على ابنته. هناك، ازداد تعلق رينييه بغريس، فبقي إلى جانبها لأسبوع كامل... إلى أن طلب يدها رسمياً بعد أقل من 8 أيام. وخطبا رسمياً في 5 كانون الثاني 1956 ولم يكن مضى بعد عام كامل على تعارفهما. وأخذت غريس على عاتقها قول "نعم" لرينييه و"لا" للسينما في خيار فرضه عليها شريك حياتها العتيد. فباتت تحت الأضواء أكثر من أي وقت مضى... وكأن السينما لم تؤمن لها النجومية التي حلمت بها، لا بل تولى أمير من إمارة صغيرة جعل اسمها وصورتها معاً عالميين. البحر تحتهما والقرنفل فوقهما وبعد ثلاثة أشهر بالضبط، غادرت غريس بلدها الأم برفقة 72 فرداً من عائلتها... و250 صحافياً، متوجهة بحراً إلى موناكو لتلاقي أمير مستقبلها وبطله من دون منازع. وأبحر الأمير للقاء خطيبته في عرض البحر. فامتد جسرا الباخرتين ليلتقيا فوق الأمواج قبالة صخرة موناكو. القرنفل الأحمر والأبيض ينهمر عليهما من طائرة البليونير اليوناني أرسطو أوناسيس... وهما غير آبهين لكل ما يحيط بهما. يحدقان ببعضهما بعضاً وسط سعادة عارمة غمرتهما، فلا يريان إلا سماء خالية من أي غيوم ستسود حتماً علاقتهما المستقبلية. وما إن وطئت غريس أرض موناكو، حتى تتالت النشاطات لتتحضر لدور الأميرة فيما ارتدى كل ركن من الإمارة حلّة "زفاف العصر": 5 كيلوميترات من السجاد الأحمر غطت الشوارع، أعلام حمر وبيض زينّت الطرق، 6000 مدعو احتشدوا على المساحة الصغيرة... و1500 صحافي تربصوا بأي نظرة أو كلمة يلقيها بطلا الحدث. تم الزفاف تحت شمس دافئة بعد ايام عدة من المطر الغزير، ودخلت الإمارة الصغيرة عصر التطور والشهرة من الباب العريض، مجتذبة آلاف السياح والمتموّلين الأجانب... تماماً كما خطط أميرها عندما كان يدرس شاباً العلوم السياسية في باريس. تقاسما الأدوار وبدأت غريس "مهنة" جديدة في موناكو: أميرة و"ربة منزل" من 220 غرفة حيث يعمل 100 شخص. فالقصر كالمدينة الصغيرة التي تملك قوانينها الخاصة... والتي كانت تجهلها تماماً "تلك الغريبة الآتية من وراء البحار" كما كانت توصف أحياناً عندما تواجه تناقض الثقافات الواضح مع محيطها. فهي لم تحسن من قبل سوى التمثيل والتعامل مع الوسط الفني في هوليوود، ولم تطلع سوى على الثقافة الأميركية المنفتحة والعصرية... التي تتناقض أحياناً كثيرة مع المفهوم الأوروبي الضيّق، لا سيما البروتوكولي الرسمي منه لحسن اللياقات الاجتماعية اليومية. وانكب الأمير على إدارة شؤون إمارته فيما تفرغت هي لإعادة ديكور القصر الذي بقي أكثر من قرن بكامله من دون تبديل، ناهيك اتقان اللغة الفرنسية من أجل تفهّم أكبر للعقلية الفرنسية التي اضطرت للتعامل معها يومياً، والتي كانت غالباً ما تنزعج من شخصيتها المتحفظة. وشعرت الأميرة أنها تتخطى شيئاً فشيئاً حواجز اللغة والثقافة... إلى أن أعلن رسمياً أنها حامل. فدخلت قلوب سكان الإمارة الذين طالما حلموا بوريث للعهد، اضطروا إلى انتظاره سنتين لأن الطفل البكر كان فتاة. فاكتملت بالتالي الأسطورة، ولم تتوقف عند عبارة: تزوجا وأنجبا البنين والبنات... لا بل تمثلت بعائلة "أميرية" أرادت حياة عادية لأفرادها. الأب والأم يشرفان بالدور على نوم صغارهما، وكل منهما يقرأ قصة لهم. أما ال"ويك أند" ففي مزرعة خاصة من 24 هكتاراً، اشتراها الأمير ليؤمن خصوصية عائلته، ولا يدعو إليها سوى الأقرباء والأصدقاء المقربين جداً. ... والقدر يحطم الحلم واستمر الحلم حقيقة بالنسبة إلى هذا الثنائي، الأولاد يكبرون ويعانون من المشكلات كما كل المراهقين "العاديين"... باستثناء أن هؤلاء لا يتصدرون صفحات المجلات إذا دخنوا سيجارة أو رقصوا كل الليل، كما يفعل دوماً أمراء موناكو اليافعون. فشعرت غريس للمرة الأولى ربما أن من حقها بعض الراحة والاستقلالية فيما كانت تهم بإيصال الصغيرة ستيفاني إلى باريس لتدخل معهد التصميم العالي بعدما نجحت في البكالوريا. وبدأ الحلم يتحول كابوساً مريعاً. فهي اضطرت إلى قيادة السيارة التي لا تتسع للسائق بعدما احتلت فساتين ستيفاني مساحة كبيرة منها. وكان القدر في انتظارها عند أحد المنعطفات الضيقة في الإمارة... انفجار شريان في الدماغ فحادث سيارة حتمي أخرج السيارة من الطريق وجعلها تستقر في الوادي... وأودى بحياتها سريعاً. ولم تتميز الأسطورة بنهاية سعيدة كما تفعل كل قصص الحب الخيالية، لا بل غادرت غريس فجأة مسرح الحياة بعدما لعبت عليه الدور الأول والأساسي والوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يحل محلها فيه. فتركت وراءها أيتاماً كثراً: أمير وأولاد وإمارة بكاملها، وسيناريو حقيقي خذلته النهاية المأسوية التي فرضها القدر عليه.