سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بين رحلة بحث مشوشة عن الحقيقة، وفشل "العابر بنعال من ريح" . جولة على كواليس "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي": الأموات يموتون في جحيم الخيبة والعجز والاخفاق
بين العروض الكثيرة التي شهدها "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" في دورته الثانية عشرة، نتوقّف هنا عند بعض التجارب والمحطّات الأساسيّة هذا العام، ونسلّط الضوء على أعمال قاسم محمد، أحمد حلاوة، نضال الأشقر، أحمد العطّار، رولا فتّال، وليد عوني، حسن الموذّن، عصام بوخالد وآخرين. الداخل إلى أدغال "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" مفقود حكماً، بسبب الكمّ الهائل من المسرحيّات المصريّة والعربيّة والعالميّة، داخل المسابقة وخارجها، وحتّى على هامش المهرجان وخارج اطاره الرسمي! هذا لا يعني أن على المشاهد المحترف أن يستسلم للاحباط، إذ يفترض به أن يعرف كيف يسير في الدوّامة. عليه أن يعرف كيف يختار بين العروض، وبين النشاطات الموازية. كما ينبغي له أن يبقى مستعدّاً للمفاجآت، فمهما بلغت درجة التنظيم، ومهما بلغت جدارة الفريق المشرف على التظاهرة الضخمة تحت ادارة الدكتور فوزي فهمي، ودرجة سيطرته على الموقف... يستحيل التحكّم بكل العناصر وتوقّع كل المفاجآت في مهرجان بهذه الضخامة. وقد بدأت أصوات ترتفع مطالبةً بتخفيف حجم العروض المشاركة في السنوات المقبلة، لتعميم الفائدة، وتعميق لذّة المشاهدة، وتسهيل التفاعل والحوار والمقدرة على التلقّي الصحّي والاستيعاب. وقد جاءت الدورة الثانية عشرة، في كلّ الأحوال، حافلة بالأعمال المميّزة واللقاءات الغنيّة. وكالعادة تحلّق جمهور من المتخصصين والفنانين حول الندوات والموائد المستديرة لمناقشة "أبرز اتجاهات التجريب في مسرح القرن العشرين"، ولاستشراف آفاق مسرح القرن الحادي والعشرين. كما اختار المهرجان أن يكرّم بعض رموز المسرح العربي والعالمي، وبينهم لينين الرملي مصر، يوسف العاني العراق، رضا كبريت لبنان. وأصدر المهرجان، تماشياً مع تقاليده، سلسلة ترجمات قيّمة لمؤلفات مرجعيّة من المسرح العالمي ابداعيّة ونظريّة. وقد سلّط المهرجان القاهري الضوء على وجوه مسرحيّة شابة، مثل الممثلة السوريّة نورا مراد فرقة "ليش" التي قدّمت عرضها الأوّل وهو بعنوان "بعد كل هالوقت" حول اشكالات التواصل، وانطلاقاً من هموم بصريّة وحركيّة تقطع مع المسرح السائد. نشير أيضاً إلى المؤلّف المسرحي السعودي فهد الحارثي الذي يعود هنا ليؤكّد نضج تجربته من خلال مسرحيّة "لعبة الكراسي" اخراج أحمد محمّد الأحمدي. وكان هناك أيضاً الفنّان الامارتي أحمد الجسمي مسرح الشارقة الوطني الذي اقتبس عن "حنظلة" سعد الله ونّوس عرضاً قائماً على الفعل السياسي. والناقد الامارتي حبيب غلوم الذي برز بمساهماته في الحلقات النظريّة، شأنه في ذلك شأن زميله البحريني يوسف الحمدان مسرح الصواري. ونشير أخيراً إلى المخرج المغربي بوحسين مسعود الذي قدّم مسرحيّة إدوارد ألبي "قصة حديقة الحيوان". وحفل "التجريبي" في دورته الثانية عشرة بالعروض الأجنبيّة التي تعيد اكتشاف نصوص من كلاسيكيات الأدب العالمي بدءاً بأنطون تشيخوف الذي قدّمت فرقة ايطاليّة مسرحيّته "طائر النورس"، وانتهاء بأوجين يونسكو "المطربة الصلعاء"/ هولندا، مروراً ب بيكيت وبيرندللو قبرص وغوته "فاوست"/ بلغاريا... وصولاً إلى صلاح عبد الصبور الذي قدّمت فرقة رومانيّة قراءة خاصة لنصّه "مسافر ليل". وقد قدّمت فرقة يونانيّة قراءة اختباريّة ل "أورستية" أسخيلوس، كما اكتشف الجمهور القاهري للمرّة الأولى ربّما تقاليد النو الياباني العريق من خلال مسرحيّة "حكاية برج القلعة" فرقة كونا أوكارا. أما العروض العربيّة، فكانت هذا العام متفاوتة المستوى، ومتناقضة في توجّهاتها. فإضافة إلى مفاجآت المسرح الخليجي التي أشرنا إليها في العدد الأسبق من "الوسط"، شارك المسرح الوطني الفلسطيني بمسرحيّة "الشيء" غسان كنفاني/ يعقوب اسماعيل، وقدّم عبد الكريم الجراح الأردن عرضاً من وحي الكاتب والمحامي مصطفى وصفي التلّ بعنوان "عرار... نشيد الصعاليك". وجاءت "الفرقة القوميّة" من العراق، لتقديم "الجنّة تفتح أبوابها متأخرة" فلاح شاكر/ محسن العلي، عن معاناة أسير يرجع إلى العراق بعد 10 سنوات في السجون الايرانيّة، ليعيد اكتشاف بلاده التي تعيش في جحيم الحصار. وقد سبق لنا تناول هذا العمل في مناسبة عرضه في "أيّام قرطاج المسرحيّة" 1999. عروض المسرح المصري كانت هي الأخرى في منتهى الغزارة، من مسرحيّة "بيت من لحم" ليوسف إدريس اخراج عاصم نجاتي، إلى "طلاسم" وهو عرض تجريبي قائم على الحركة ياسر عنتر، شيماء رفعت، شريف رمضان. وخاض محمد شفيق مع "حيث تحدث الأشياء" في شعاب واقع اجتماعي متوتّر ومرّ، فأعطى لمسرحيّته التي تتوسّل الدراما والرقص بعداً احتجاجيّاً أكيداً. وكان انتصار عبد الفتّاح قد قدّم في افتتاح المهرجان، لوحة تعبيريّة قصيرة، من وحي "حصان طروادة" الذي قلب دلالاته رأساً على عقب : إذ تهبط من أحشائه مجموعة من الراقصات، تقول بمفردات حركيّة، تفوّق الحياة والفنّ على العنف والحرب. كما تمثّلت مصر في المسابقة الرسميّة بعرض أحمد حلاوة "الملك العريان" الذي خيّب آمال مشاهديه على رغم فوزه بالجائزة الكبرى بطولة وائل أبو السعود، نجاح حسن، ياسر الطويجي. فالعمل ينطوي على شحنة انتقادية حادة الرشوة، الفساد، التسلّط...، مستهلكة في نهاية الأمر. وهذه الشحنة لا تلعب دورها التحريضي، في حين أنّها تثقل العرض بأعباء لفظيّة وشعاراتيّة. كما أن حلاوة الذي قسم المسرح إلى خشبتين متواجهتين تصل بينهما منصّة ثالثة، بالغ في استغلال تقاليد الفرجة، مالئاً عرضه بكل كليشهات الاحتفالية التغريب، تبادل الأدوار، والغناء، والسرد...، ومزج كلّ ذلك بعناصر مستعارة من الكوميديا السهلة، والترفيه السطحي. جماليات طقوسية وقد لجأ المخرج العراقي قاسم محمّد، من جهته، إلى الجماليات الطقوسيّة والاحتفاليّة، لصياغة عرضه "رسالة الطير" الذي قدّمه مع ممثلين مصريين من انتاج مسرح الهناجر، موسيقى نصير شمّة. والعرض المأخوذ من نصوص لابن سينا والغزالي، يندرج في سياق محاولة سابقة، قدّمها هذا المخرج المتميّز خلال العصر الذهبي للمسرح في بغداد، وفيها أصداء تجربة بيتر بروك الشهيرة "منطق الطير" عن فريد الدين العطّار. عمَل قاسم محمد مع ممثلين شبان، لكنّه لم يتمكّن من تطويعهم لايصال رؤياه التأملية الفلسفيّة حول الغيب والعدم والزمن والوجود. وفي رحلة البحث عن الحقيقة التي تتمحور حول شخصيّة الهدهد، يلجأ المخرج إلى تشكيل المجموعات كأننا أمام كورس تراجيدي اغريقي، منه تنفلت الأصوات والشخصيات، لكن الرؤيا لا تكتمل والخطاب لا يصل متجانساً، وعلى رغم الجهد المبذول، نشعر أننا أمام كتابة اخراجيّة من زمن آخر، لم تأخذ تطوّرات الواقع في الاعتبار. وعاد "مسرح الرصيف" الدمشقي هذا العام إلى القاهرة، ليقدّم مونودراما "عيشة" التي كانت العمل التأسيسي لهذه الفرقة المستقلّة 1995. وقد شكّلت مع "اسماعيل هاملت" 97 ثم "ذاكرة الرماد" 98 ثلاثية تدور حول كائنات من العالم السفلي، تتحرّك في الهامش وتستعيد بمرارة ولوعة، محطات من حياة مطعّمة باللامعنى، مثقلة بالخيبات والجراح. ولعلّ "عيشة" بطولة مها الصالح، تشتمل على كلّ عناصر الكتابة الدراميّة حكيم مرزوقي، والاخراجيّة رولا فتّال للثنائي الرصيفي الذي بات اليوم مطالباً بتجاوز قوالبه وانجازاته. من شاعريّة اللغة المسرحيّة، إلى تقنيّة الفلاش باك الاستعاديّة، وصولاً إلى الصندوق الحاضر أبداً، بصفته محتضن الذكريات والخيبات والجراح، ومروراً بكتابة اخراجيّة متقشّفة في التعامل مع الفضاء، والديكور، والاضاءة والموسيقى، وتركيزها على ما يجري في جحيم الأعماق. ولعلّها المرّة الأولى التي تأتي فيها مسرحيّة تونسيّة إلى القاهرة، محمّلة بالخيبات. ذلك ان عرض "عدن... عدن" الذي كتبه وأخرجه حسن المؤذن انتاج المسرح الوطني التونسي لم يكن للأسف عند المستوى الذي يمكن أن يتوقّعه أي مشاهد عربي، من عمل ينتمي إلى تجربة المسرح الطليعي التونسي. فالمسرحيّة تحمل الكثير من ملامح النهضة المشهديّة التونسيّة، لجهة تركيب الصورة وتنظيم الفضاء وضبط الايقاع والحركة تمثيل صلاح الدين مصدّق، البشير الغرياني، عفاف الحاجي.... لكنّ الفخّ القاتل الذي وقع فيه المؤذّن هو النص. يطمح العمل إلى اقتفاء أثر آرتور رامبو "الرجل العابر بنعال من ريح" بتعبير بول فاليري، قرينه في الشعر والحياة وتصوّر المسرحيّة احتضار صاحب "موسم في الجحيم" وعذاباته وقلقه ومواجهته لعفاريته وماضيه، داخل أربعة جدران، عند مفترق الطرق حيث يعذّبه حلم العودة المستحيلة إلى الشرق. لكن النص يضيع في استطرادات ومتاهات، ويتلعثم بحكايات وسجالات وشخصيات دخيلة تشوّش صورة الشاعر الفرنسي "الملعون"، وتضيّع معاناته الميتافيزيقيّة - ومعها رؤيا المسرحي التونسي - في ركام من التفاصيل والمشاهد الزائدة. انقسام الجمهور على "3 نسوان..." ونصل إلى مسرحيّة نضال الأشقر "3 نسوان طوال" التي اقتبستها رندة الأسمر عن مسرحيّة للأميركي إدوارد ألبي، والتي أثارت الاهتمام، إذ انقسم الجمهور بين متحمّس لها، ومتأسّف لانحراف كتابتها الاخراجيّة أحياناً إلى شيء من الكوميديا السهلة. تغوص نضال الأشقر في الوجدان النسائي تحديداً، والانساني بشكل عام، من خلال لعبة مواجهة مع الذات، وتَلاعب بين الأزمنة الماضي، الحاضر، المستقبل، ومصادرة الغيب. وتعطي للعبتها المشهديّة بعداً انسانيّاً، صادقاً، جارحاً، وجريئاً، إذ تسبر أغوار النفس البشريّة الخاضعة لأحكام الزمن، وتأكّل الجسد، والمستسلمة لتنازلات كثيرة بفعل انهيار الأوهام والمثل والاحلام الساذجة. وتبني الأشقر عرضها حول لعبة مرايا، يبرع في تأديتها الثلاثي كارمن لبّس، رندة الأسمر، ندى أبو فرحات. وتتقاطع الشخصيات الثلاث التي تجسّد المرأة نفسها في ثلاثة أعمار مختلفة، من خلال تمثيل قائم على لغة الجسد وعلى حوارات فجّة لا تخلو من الجرأة والمقدرة على الاستفزاز. ومع استعراض وليد عوني الراقص الجديد "شهرزاد - كورساكوف" نعود إلى "مناخات استشراقيّة" يعشقها مصمّم الرقص اللبناني الذي يعمل في أوبرا القاهرة منذ سنوات. مخيّلة عوني لا تتوقّف عن الابتكار، في الملابس والسينوغرافيا ومختلف العناصر البصريّة... ولعلّه يبتكر إلى حدّ الاسراف. وهو هنا يعيد - على طريقته - كتابة سيرة شهرزاد تؤديها الراقصتان كريمة نايت ونانسي تونسي، واضعاً وجهاً لوجه موسيقى ريمسكي كورساكوف قيادة الأوركسترا للشريف محيي الدين مع التخت الشرقي موسيقى نصير شمّة. وقد يكون الفضاء المشهدي قد تحرّر من أثقال كثيرة في استعراض عوني الأخير، والكتابة المشهديّة قد تخفّفت من زخرفاتها، لكنّ الطرابيش والأرائك والسجاجيد والباشوات والمقامات كلّها هنا، مضافاً إليها شيء من روح الشرق البعيد من خلال رسومات يابانيّة تزيّن واجهة المسرح الصغير الذي يحتضن التخت الموسيقي على المسرح الكبير، فيما الأوركسترا قابعة في حفرتها المعهودة. وقد تكون مشكلة عوني في كونه يكتب فوق الكتابة، أي يعيد التعبير عن الفكرة نفسها بأشكال مختلفة. ونشعر أن خطوات الراقصين تقريريّة أحياناً، مقيّدة بوظيفة محددة هي وصف الحدث وسرد تطوّر الحكاية. وما أن تنسى أجساد الراقصين وظيفتها النثريّة تلك، وتنفلت في الفضاء معبّرةً عن حركات وايقاعات ومنمنمات موحية حتّى نشعر أننا أمام وليد عوني الحقيقي، من خلال وجهه الأكثر ابتكاراً ومقدرة على الادهاش. ونصل أخيراً إلى عرضين ساهم في انتاجهما "صندوق دعم شباب المسرح العربي"، الأوّل عرض خارج المهرجان، على خشبة مسرح الجامعة الأميركيّة في القاهرة، وهو "الحياة حلوة..." لأحمد العطّار مصر، أما الثاني فهو "أرخبيل" لعصام بوخالد لبنان، وقد فازت عنه برناديت حديب بجائزة أفضل ممثلة في المسابقة الرسميّة. يجمع بين العملين، بغضّ النظر عن اختلافهما في الأسلوب ودرجة النضج، حساسيّة مشتركة تعبّر عن جيل شاب يحاول أن يقول وجعه ويأسه بقوالب جديدة، مواصلاً مغامرة الابتكار والتجاوز. بعد "اللجنة"، يعود العطّار بعمل جديد من تأليفه واخراجه، يتميّز بما لا يقاس عن كلّ ما شاهدناه من عروض مصريّة هذا العام، وربّما كان من المنطقي أن يمثّل مصر في المسابقة الرسميّة للمهرجان. عنوان العرض "الحياة حلوة، أو في انتظار عمّي اللي جاي من أمريكا"، ويتميّز بمناخات تجمع بين العبثيّة والنقد الاجتماعي الهادف ! يتألّف العمل من مجموعة لوحات هاذيّة حول شخصيّات تنتمي إلى الطبقة الوسطى المأزومة في انهيارها وتأكّلها وسعيها المرضي إلى الارتقاء، ولهاثها خلف مستحدثات المجتمع الاستهلاكي، وعجز أفرادها عن التواصل: الأب أحمد كمال، والأم ماجدة عبدة والابن الأصغر حسن الكريدلي والابن الأكبر وليد مرزوق والخادمة سلوى محمد علي، إضافة إلى العم الأميركي الذي يأتي عبر الهاتف، ليقطّع المَشاهد إلى حركات متوازية. وتبدو كتابة العطّار هندسيّة: على مستوى السينوغرافيا حيث قطّع الخشبة إلى ثلاث خانات متساوية في العمق إضافة إلى مقدّمة المسرح التي تجمع بينها. وعلى مستوى التأليف، يتكوّن النصّ من مجموعة مونولوغات دائريّة، قائمة على التكرار الهَوَسي حتّى الذروة، وعلى مونولوغ خطّي وحيد يتقدّم بطريقة منطقيّة، ليجمع بين المَشاهد الخادمة. وأخيراً على مستوى الاخراج نفسه يلجأ العطار إلى تقطيع الفضاء على شكل خطوط متوازية أو متقاطعة، تتحرّك ضمنها الشخصيات. لكنّ المسرحيّة تشكو من نقص ما في تماسكها الفنّي، ولعلّ أحمد العطّار لم يأخذ الوقت الكافي لانضاج التجربة وصقلها. رؤيا سوداوية وقد قدّم اللبناني عصام بوخالد، بما لا يترك مجالاً للشكّ، أفضل العروض العربيّة في القاهرة هذا العام. مسرحيّة "أرخبيل"، وهي العمل الثاني له تمثيل روجيه عساف، برناديت حديب، سوسن بوخالد، بشارة عطاالله. يفرض هذا الممثّل والمخرج اللبناني الشاب النصّ من تأليفه حضوره كأحد أبرز فنّاني جيله، لبنانيّاً وعربيّاً، بل كأحد أهم المخرجين في المسرح العربي. يقدّم "ارخبيل" رؤيا سوداوية لعالم سفلي متصدّع، يعاني أهله من شلل في حواس معيّنة، ومن فقدان التوازن في العلاقة مع العالم الخارجي، فيما العالم الفوقي قائم على المقاولات والحروب، وتسليع الأفراد والقيم. ومن الطبيعي أن نجد في هذه المناخات العبثيّة، اللامعقولة، التي تغرف من مسرح بيكيت وأداموف ويونسكو، أصداءً للتصدّع اللبناني، في مرحلة اعادة البناء الخارجي، السطحي، من دون البعد الروحي والحضاري، لكنّ رؤيا بوخالد السوداويّة، تندرج أيضاً في اطار عالمي، في زمن العولمة والأتمتة وخواء الروح. في مكان قاتم هو بين مكب النفايات ومركز تصريف المجارير، يعيش ثلاثة أموات مع ذكريات حياتهم السابقة قبل أكثر من قرن، ويواصلون استعادة المأساة نفسها: الطبيب الأعمى الذي قتل لأنّه عارض المعاملة الوحشيّة لأسير حرب جريح اعتقلته المليشيا المعادية، الشاب الأصم الذي مات قبل أن يحقق حلم الهرب من جحيم الحرب إلى قبرص، الراقصة الخرساء الهامشيّة الباحثة عن الحبّ، والتي تعيش في حالة حبل وهميّة، وقد ماتت في هدم العمارة التي تسكنها... وأخيراً القادمة الجديدة التي تحمل أخباراً عمّا وصل إليه العالم الفوقي، وقد ازداد سوءاً وتجرّداً من "انسانيّته". وفي هذا المناخ المثقل برفض الحياة، أو استحالتها، القائم على تفكك اللغة والايقاعات وحركة الأجساد، تجري محاولات لترميم المنطق واستعادة الذاكرة المهدورة. وبعد أن استعاد كلٌّ حاسته المفقودة، يحاول الرباعي الملعون الارتقاء إلى العالم العلوي مجدداً. يصعدون ترافقهم موسيقى طقوسيّة تذكّر بمناخات البولوني كانتور، لكن الرصاص ينهمر عليهم ويموتون من جديد. ويلفت النظر عصام بوخالد بمقدرته على التأليف وكتابة الحوارات وادارة الممثلين، وخلق مناخات متكاملة تخدم رؤيته