أثارت ترجمة كتاب "المرأة في الإسلام" لأحد الدعاة المقيمين في إسبانيا أخيراً رد فعل عنيفاً للجمعيات النسائية التي تعمل على نصرة قضية المرأة وتحارب التمييز العنصري ضد الإناث في القوانين والمفاهيم والإجراءات والممارسات، فقد رد الكاتب على شبهة "ضرب الزوجات" التي يثيرها بعضهم في معرض التحريض على المسلمين ووصمهم بالتخلف والهمجية، وبيّن الحدود الشرعية لهذا الحق ضمن سياق قوامة الرجل في التصور الإسلامي. وفي معرض الاحتجاج على ما ورد في الكتاب بهذا الخصوص رفع تسعون من الهيئات النسائية دعوى قضائية على الشيخ، فمثل هذه الكتابات - برأي المجموعات النسائية - يحض على العنف داخل الأسرة، وهو ظاهرة متفشية في إسبانيا كغيرها من دول العالم الغربي، ويساهم في تبريرها وانتشارها ولا يعالجها، كما يتعارض مع الأهداف التي نشأت من أجلها هذه الجمعيات ومع جهودها لتحقيق أهدافها. وبطبيعة الحال، لم تكتف بعض وسائل الإعلام الأسباني بالحديث عن الكتاب وعن الحملة ضده، وإنما انتقلت إلى الإسلام نفسه، وأعادت فتح الملفات الجاهزة المعنية بحملة مدروسة تمتد من زمن محاكم التفتيش في إبراز كل شبهة ممكنة ضد الشريعة الإسلامية التي تبيح أموراً وتحرم أموراً تختلف أحياناً وتتعارض أحياناً أخرى مع قناعات الغربيين وعاداتهم وتقاليدهم، وامتدت أقلام بعض الإعلاميين إلى الجالية الإسلامية باعتبارها نسيجاً غريباً عن جسم الأمة التي تستضيفها، مما يشابه حملات إعلامية قامت في دول أوروبية أخرى كفرنسا التي شهدت حملة إعلامية شبيهة على خلفية تحريض جمعية الرفق بالحيوان بقيادة الممثلة السابقة بريجيت باردو وأحزاب اليمين المتطرف، متكئة على تخوف المسؤولين من انغلاق الجالية المسلمة وعدم استجابتها لسياسة الاندماج التي تتبناها السلطات المحلية في المدن الفرنسية الكبرى. وما جرى في إسبانيا يذكرنا برد الفعل الذي شهدناه على امتداد العالم كله خلال الثمانينيات ضد فتوى إهدار دم سلمان رشدي - الكاتب البريطاني الهندي الأصل - صاحب كتاب "آيات شيطانية"، فيومها لم يعد الدفاع عن حرية الرأي والإبداع هو المحور الذي تدور حوله أقلام السياسيين والإعلاميين والمثقفين وإنما امتدت لتطال الإسلام نفسه ولتثير عشرات الأسئلة المشككة بالقرآن الكريم والسنة النبوية والفكر الإسلامي وما يترتب عليها جميعاً من عبادات وعلاقات اجتماعية، بالإضافة إلى مواضيع حساسة كالولاء والبراء، والسمع والطاعة لشيوخ الدين وزعماء التنظيمات الإسلامية، ودور المؤسسة الدينية في المجتمعات الإسلامية والجاليات. ولقد اشتطت بعض الأقلام التي تناولت قضية رشدي لتقول بأن معالجة ظاهرة العنف والتطرف الإسلامي ومعاداة الإبداع - كما تبدو من خلال الفتوى - تكمن في تعديل آيات القرآن نفسه، لأن جذور العنف ورفض الآخر والانكفاء على الداخل موجودة في الآيات والأحاديث، وهو قول - للأسف - طرحه شيمون بيريز في مؤتمر مقاومة الإرهاب في مصر من دون أن يواجه أي حرج يذكر، وقد تهيأ الجو _ يومها - لاتهام كل ما هو إسلامي من الفكر إلى التنظيم والممارسة. وفي معرض الحديث عن هذه الحملات الجائرة لابد من الانتباه إلى دور المؤسسات الإسرائيلية داخل وخارج الأرض المحتلة في دراسة كل التفاصيل المتعلقة بالإسلام كدين وبالمسلمين كأمة، من زوايا الفكر والممارسة والتداعيات والأثر والتأثر، والدأب على اكتشاف الثغرات القائمة في ممارسة المسلمين لإسلامهم، وتنسيق كل الركام الواقع بين أيدي الباحثين الإسرائيليين والمنحدر إليهم من شبهات المستشرقين وتناقضات أصحاب الفرق الإسلامية في خضم حروبهم على الجمهور، ورؤيتهم الخاصة للنصوص والتأريخ ثم توظيفه في تثبيت صورة سلبية عن الإسلام الدين، وعن المسلمين الأمة. وتسمية مثل هذه المؤسسات الإسرائيلية بمراكز دراسات استراتيجية، أو تبعيتها للمؤسسات الأكاديمية في الدراسات العربية، وارتباطها بمؤسسات الكيد الإسرائيلية الأمنية وغيرها، يعزز عمل الباحثين الإسرائيليين ولا يتعارض معه، والمطلع على أبحاث ودراسات الجامعة العبرية، وجامعة حيفا، ومؤسسة دراسات الأمن الاستراتيجي في هذا الخصوص سيذهل لحجم المفردات الدقيقة والتفاصيل التي تتعرض لها هذه المؤسسات، كل من جهة اختصاصه، كما سيذهله حجم المخرجات المعنية بالإسلام وبالعالم الإسلامي، بما فيها دراسات ميدانية تستفيد من تعدد جنسيات الباحثين الإسرائيليين وقدرتهم على دخول العالم الإسلامي مستخدمين جنسياتهم الغربية وأحياناً العربية كما هو حال اليهود المغاربة، إضافة إلى تحقيق كتب الفرق البائدة ونشرها بالعربية والعبرية والإنكليزية، فهذا النشاط وهذه المخرجات تشكل البنى التحتية اللازمة لمثل هذه الحملات الجائرة ذات الطابع التحريضي، وهي في الأصل تبحث عن أفكار جاهزة توافق ما هو سائد في الوعي الشعبي الغربي منذ أيام الحروب الصليبية. يحدث هذا النشاط العلمي الإسرائيلي والغربي، في غياب شبه تام - عندنا - عن تحقيق أبحاث جادة تعنى بصورتنا - فكراً وأمة - على الساحة المحلية والإقليمية والدولية. وتبقى ظاهرة رد الفعل على ما يصدر من الطرف الآخر سيدة الموقف التي تحكم علاقتنا بما يواجهنا، وما كان لرد الفعل قط أن يحقق أكثر مما يطلب الخصم نفسه، لأنه في أحسن الأحوال سينزلق إلى الموقع الذي اختاره سلفاً للمواجهة. والرد على الشبهات المثارة لا يعني بالضرورة إيضاح التصور الإسلامي بمقدار ما يعني الرضوخ لشروط المناظرة وظروفها ومفرداتها كما حددها الخصم لا كما ينبغي علينا أن نعرضها. فالكلام على شبهات كالرق وتعدد الزوجات واستخدام العنف ومصطلح الجهاد واختلاف نسبة الميراث بين الذكور والإناث، يساهم في إبقاء الشبهات واتساع رقعتها لتصل إلى ساحتنا نفسها لأن الممارسة العملية في واقع مجتمعاتنا وتجمعاتنا الخارجية تعترض سبل الإيضاح. وقديماً قيل "صورة واحدة أبلغ من ألف كلمة" فهل كان لألف كلمة موضوعية أن تقف في وجه ممارسة خاطئة واحدة تشكل الصورة الشوهاء؟ فماذا يعني لمثقفينا ولمثقفي الغرب أن نتحدث عن حقوق المرأة مثلاً في الإسلام ثم لا نرى في واقعنا التطبيقي إسقاطات تصدق هذا الذي نعلنه؟ وبعض مجتمعاتنا تمنع على المرأة الحد الأدنى الذي أباحه لها الشرع في أكثر من ميدان علم وعمل، وكثيراً ما تنشر هذه المحرمات القانونية أو العرفية بكل لغات العالم وتتحول قضية المرأة المسلمة بكل تفاصيلها إلى حديث يومي. وبعض كتابنا يعيد أسباب تخلفنا الحالية إلى خروج المرأة من خدرها، ويعلنون بذلك اعتراضهم على تلقيها العلم كالرجل، ومساهمتها في قضايا التعليم والطبابة والاقتصاد، ويركز هؤلاء نقطة الضوء على كل ما هو سلبي مغفلين عن سابق تصميم كل ما هو إيجابي في علاقة المرأة بصناعة الحياة. ويجترئ بعضهم لتوفير صدقية لما يقولون وقائع وأحداث ومواقف من الواقع الغربي دون تمحيص أو تحقق، يريدون منها تعزيز ما يشيعونه بين الناس بأن مساهمة المرأة في بناء الحياة أمر بالغ الخطورة، وأن الانهيار الغربي المقبل سيكون من هذه الثغرة بالذات، ويعظون الناس بضرورة تجنب الوقوع في هذه الكبيرة التي وقع فيها الغرب. يقول أحدهم ذلك وهو مبتعد عن قراءة موضوعية ورؤية متكاملة لأسباب الأزمات الاجتماعية والنفسية هنا وهناك، ويلقي بالكلمات جزافاً في تكرار ممل للسائد الذي كرّسته عشرات الخطب والمحاضرات والدروس السمعية والبصرية من دعاة ووعّاظ يرون الواقع المرّ فيتعرضّون للحلول من دون امتلاك أدواتها الصحيحة، ويأتي كلامهم العاطفي في سياق ردة الفعل التي كثيراً ما تكون سطحية بعيدة عن غور الحقائق بالرغم من قناعتهم وإعلانهم الدائم أن اتخاذ الأسباب مبدأ إسلامي أصيل. وفي السياق نفسه يندر أن نسمع من يسأل بشيء من النقد: ما هي الثمرات التي جنيناها حتى الآن من أسلوب معالجة المخاطر بالصدمات الوعظية العاطفية التي تستحضر التاريخ وتفسر النص بعيداً عن روح العصر ومستلزمات النجاح؟ وما الذي انبنى _ حتى الآن _ على هذا الكم الكبير من الكلام من دون أن نقيم وزناً لمركز دراسات متخصص واحد يعالج الظاهرة التي تقلقنا من الجذور، ويقترح لها حلولاً تتكامل مع الرؤية الإسلامية الشاملة للإنسان وللكون؟ إن الموضوعية تقتضي أن نقف وقفة شجاعة لنحدد أسباب الداء من طرفنا أولاً قبل أن نلقي باللوم كله على كاهل الآخر، كاهل أصحاب المصلحة في تعميق الهوة بيننا وبين الناس في الاتجاهات الأربع، لاسيما مع الشطر الغربي من العالم، وهو الشطر الأكثر فعالية في واقعنا المعاصر، سياسياً واقتصادياً وتقنياً، والذي يملك مفاتيح عدد كبير من الأزمات كما يملك أسباب المساهمة في الحلول، مما يجعل فهمه والتعامل معه واجباً يرقى إلى درجة الفريضة، والفهم ههنا لا يعني الخضوع، إنما يأتي الخضوع نتيجة الجهل والتجاهل. علينا أن نقف وقفة شجاعة لنضع أصبعنا على الداء باعتباره أمراً داخلياً وليس وافداً، فهو يمتد في فراغنا ضمن أسباب موضوعية لا تتعلق كلها ب "مؤامرة الغير علينا" ذلك أنه يستمد من ضعفنا وخوفنا وترددنا ليمد الخصم بكل ما يحتاجه من مبررات الهجوم والتشويه. لقد عجزنا _ حتى الآن - عن رسم صورة حقيقية للإسلام الذي ننتمي إليه من خلال نموذج واقع يرى فيه طالب المعرفة تطبيقاً صحيحاً لشعاراتنا المرفوعة، ورداً عملياً يكشف زيف ادعاءات المغرضين. وبقيت تجاربنا السياسية الشعبية والثورية في إطار ضيق جداً من أطر الرؤية والتطبيق، وانشغل أكثرها في الصراع الداخلي، أو الدفاع عن النفس، بحيث استمرأنا الحديث الممل عن التدخلات الخارجية تبريراً لما نحن فيه من الوهن والتخلف. وإلى أن يقوم مثل هذا الواقع فينا لابد من تجنب ما يمد الخصم بأسلحته الفتاكة ضدنا، ففي التصور الإسلامي أن الناس مؤاخذون بما يقولون، وفي الحديث الشريف: "هل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟" وككلمة السوء التي تودي بصاحبها، كلمة حق يراد بها باطل، ورب كلمة حق سيقت في غير موضعه أدت إلى ما لا تحمد عقباه، فعن الإمام علي: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟" وهذا لا يعني بحال من الأحوال الكتمان أو الباطنية، وإنما يعني تخير الألفاظ بما يؤدي إلى فهم السامع لا إلى دفعه بالاتجاه المعاكس. لقد فشل العالم الإسلامي، بواقعه المعاصر، في مد جسور التفاهم داخله بسبب تضارب المصالح وتعدد الولاء واختلاف الرؤى، وفشل بالتالي في الإفادة من هذا الانتشار الواسع في الغرب، حيث تقيم الجاليات وتعمل وتمتد، بل إن غياب استراتيجية دعوية تخدم الأمة أدى - كما في الحالة المذكورة عن إسبانيا - إلى ما نسمع ونرى من تضييع للجهود واستعداء غير مرصود بسبب العفوية التي نتحرك بها بعيداً عن القراءة الموضوعية للمحيط الذي ندعوه ونخاطبه. وقد يصدق هذا على خطاب الجماعات المسلمة للعالم الإسلامي نفسه، ولبعضها البعض. قد يقول قائل إن صورة الإسلام الشوهاء مسؤولية غربية بحتة، وأنها استمرار لمخزون الصراع الممتد من القرون الوسطى وحتى ظهور الحركات الثورية لتصفية الاستعمار. وبالرغم من ذلك نعتقد بأن مسؤولية إظهار الصورة الحسنة تقع على عاتقنا، وهي في حدها الأدنى تجنب كل ما يؤدي إلى مزيد من السلبية