في هذا المقال يُستكمل الاستعراض السريع لصور الفكر الإسلامي ومنهجيته لدى الشيخ صالح الحصين رحمه الله .. رابعًا: التعمّق في دراسة مشكلات العصر، ووضع النقاط على الحروف في قضايا الصراع الفكري التي يلحظ فيها انحرافًا عن النهج الإسلامي، وتجليته لمسؤولية من وضعوا رقابهم في قيد الرقّ الثقافي من بني جلدتنا؛ ومن نتاجه الفكري في هذا المعنى: مقال عميق، حلّق فيه فوق مستنقعات الوباء في عالمنا الإسلامي، ليحدّد منبعها، ثم حلّل بعض عينات الوباء، وحرّر وصفة علاج يبعث الأمل -بعد الله- في الشفاء؛ ليجيب بذلك على سؤاله الذي وضعه في العنوان:"هل من الممكن أن نتحرر من هذا الرق الثقافي؟". وفي هذه المقالة العميقة -التي يُنصح بقراءتها- يجلي الشيخ -رحمه الله- المشكلة العميقة بقوله: "إن الرق الثقافي المتجذر أثرُه في أفكار ومشاعر المثقفين المسلمين، ولا نستثنى السعوديين، هذا الأثر الظاهر في الثقة المبالغ فيها بتصورات الثقافة الغربية، وضعف الثقة في تصور ثقافتهم الأصلية، هو العامل الرئيس لعمى هؤلاء المثقفين عن مقتضيات التفكير العقلاني وعن إدراك حقائق الواقع". وتعمّق الشيخ في دراسة المفاهيم والمصطلحات والمشكلات، يجعله يُفصح عن رأيه مهما كان حجم الرأي المخالف، ولعلّ من الأمثلة على ذلك ما سبق الإشارة إليه في الفقرة (أولًا)، ويتجلى ذلك أكثر حين يكون الرأي المخالف رأيًا إعلاميًّا أكثر منه علميًّا كما في دراسته: "رأي في: طبيعة الديمقراطية والاختلاف الثقافي"، و"اقتراح لصياغة مفهوم للوطنية السعودية" . خامسًا: وضوح الفكر الإسلامي وشموله لدى الشيخ، ممّا يجعله جديرًا بوصف المفكر الإسلامي، أعني الشخصية المؤهّلة التي تلتزم مصادر الإسلام وتنطلق منها؛ ويتجلّى ذلك في قوّة دفاعه عن الإسلام، وفي تعبيره عنه كما علِمه من مصادر الإسلام ذاته؛ فهو يتحدّث عن الإسلام حديث المؤمن المعتزّ به، لا حديث المتذبذب المعتذر عنه! ويتجلى نَفَسُ الإيمان والاعتزاز في مؤلفات الشيخ ومقالاته ومحاضراته ومخاطباته؛ ومن عباراته في وضوح الفكر الإسلامي وشموله قوله: "في حياة المسلم كلّ نشاط أو امتناع عن نشاط يمكن أن يكون عبادة، والعبادة في الإسلام ليست مجرد طقوس تؤدّى في المعبد.. كل عمل صالح حين يقترن بالإخلاص فهو عبادة، لا فرق بين ما تعارف النّاس على تسميته (دينيًّا) وما تعارفوا على تسميته (دنيويًّا)، الباحث في معمله، والطبيب في عيادته، والجراح في غرفة العمليات، والمهندس يمارس مهنته، والعامل في المصنع، والمجاهد في ميدان المعركة، كلّهم يتعبدون الله بعملهم حينما يقترن بالإخلاص والاحتساب لله. كان هذا المعنى واضحًا لدى الأشخاص الذين تلقوا الإسلام مباشرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.. وبالجملة فالإسلام ليس دينًا بالمعنى الذي تعارف النّاس عليه من غير المسلمين.. الإسلام منهج شامل للحياة". سادسًا : دقّة تعبير الشيخ في بيانه للقضايا التي يكثر فيها خلط المفاهيم، مع الإيجاز في تُفكيك الخلط، وتبيين الحقائق؛ ومن ذلك قوله عن التسامح في الإسلام: "إنَّ التسامح فكرة وتطبيقًا يخضع لفكرة الانسجام والتكافل والتوازن، التي تحكم تعاليم الإسلام ومبادئه وأحكامه، فهو لا يعني التفريط في أن تكون لله العزّة ولرسوله وللمؤمنين، ولا يعني الخضوع للظلم أو خذلان المظلومين، ولا يعني عدم التمييز بين الحق والباطل، ولا يعني الإخفاق في تحقيق الولاء والبراء في صورته الصحيحة المنسجمة مع روح الإسلام وتعاليمه". سابعًا: قوّة الحجّة في ردّ الشبهات وتفنيد المغالطات، علم وفقه وسعة ثقافة وعمق خبرة؛ لذا يُبيّن الشيخ رحمه الله أهمية الردّ بالحجج القوية، وخطورة الاتكاء على الردود التبريرية الضعيفة، لا سيما حين تخالف الحقيقة، إذ يقول رحمه الله: "إن استعمال حجج ضعيفة هو أسوأ من عدم إيراد أي حجج مطلقا، فوق أنه تشويه للحقائق على أرض الواقع". ويتضح هذا في نتاجه العلمي، ومن أجمعه كتابه: (التسامح والعُدوانية بين الإسلام والغرب)، ومقالاته، كمقاله: "التعدد وحقوق الإنسان"، الذي كشف فيه بقوة الفقه ودقة الفهم حقيقة إسهام التعدد في مجال حقوق الإنسان، عكس التصور الذي يروّج له خصوم الإسلام.. وقد حثني الشيخ رحمه الله على قراءتها. ثامنًا: يُلحظ في ردود الشيخ -رحمه الله- على شبهات الخصوم، أنَّه لا يكتفي بالدفاع، بل يكشف الخصوم من داخلهم، ثم يكرّ عليهم مهاجمًا بقوّة الحجّة.. ومن أمثلة ذلك تفنيده لشبه الغربيين حول تعدد الزوجات في الإسلام، إذ يقول على طريقة السؤال والجواب: "ربما لم يحقّر الغرب الإسلام ولم يَعِبه بمثل ما عاب المسلمين قبولهم لنوع من تعدد الزوجات (أنواع التعدد عالميا مختلفة). فهل النظرة الغربية تجاه تعدد الزوجات في الإسلام يفرضها المنطق والمحاكمة العقلية؟ لا يبدو الأمر كذلك، فهذه النظرة مؤسسة في الواقع على التراث الثقافي والتقاليد وعلى الذوق الاجتماعي.. المعروف أنَّ التقاليد المسيحية -وهي جزء من التراث الثقافي الغربي- لا تشجع الزواج حتى بواحدة، إذ ترى أن ذلك يخفض من منزلة الإنسان الروحية، والدليل على أنَّ النظرة الغربية مؤسسة على التقاليد الموروثة والعادة الاجتماعية السائدة: أن الغرب لا ينظر إلى التعدد في زواج السحاقيات واللوطيين -المشروع عند عدد من الدول الغربية- بمثل هذه النظرة، كما يتسامح الغرب بأن يكون للرجل المتزوج خليلة أو خليلات يعاملهن تماما معاملة الزوجة، ولا سيما بوجود تشريعات تحمي حقوق الخليلة وحقوق الأولاد منها..."، ويستمرّ الشيخ في تفنيد الحالة الغربية، ثم يتجه بعد ذلك لبيان فلسفة التشريع الإسلامي العظيمة في تشريع التعدد وضماناته على نحو بديع، وظّف في بيانه علومًا أخرى كعلم الاجتماع وعلم النفس، مع المقارنة بالواقع الغربي في ذلك. تاسعًا: توظيف ملاحظات التجارِب في خدمة الفكر الإصلاحي، وعدم الاكتفاء بالتنظير، لا سيما حين تعارض التجربة بعض مسلمات التنظير البشري.. ومن شواهد ذلك قوله -رحمه الله- في الإصلاح الإداري: "خلال مدة تزيد عن خمس وخمسين سنة قامت صلتي بالقانون دراسة، وتدريسًا، ومستشارًا قانونيًا في الإدارة العامة، ومشاركًا في كتابة عدد من الأنظمة ومشرفًا على تطبيقها، ومن كل ذلك وجدت لدي فكرة ظلت مع الزمن وتكرر الوقائع ترسخ في ذهني حتى أصبحت لدي حقيقة يمكن إقامة الدليل عليها بأكثر من مائة دليل ودليل..هذه الحقيقة تتلخص في أن لدى رجل الإدارة في وطننا الحبيب غرام غير عادي بسن الأنظمة، في الواقع أن رجل الإدارة عندما يواجه مشكلة في الإدارة فإن اول ما يخطر في ذهنه سن الأنظمة، التي يسميها بعض الأحيان الضوابط، باعتباره الحل الوحيد والسحري للمشكلة ولكن هذا الغرام الشاذ الذي ينتج الإسراف في التقنين -أعني سن الأنظمة- وفي بعض الأحيان إساءة استعمال التقنين يقيم عاملا بالغ التأثير في تهيئة البيئة المناسبة للفساد الإداري وبالتالي في العجز عن اجتياز حاجز التخلف.. إن وجود القواعد المنظِّمة ضرورة للمجتمع في كل زمان ومكان، لأنَّ البديل له الفوضى وفساد الحياة، ولكنّ سنّ القواعد القانونية المنظمة للمجتمع يقتضي كمتطلب أساسي أن تكون القاعدة القانونية (حكيمة) و(عادلة)، حكيمة بأن تكون ظاهرة النفع، وعادلة بحيث تطبق -وبدرجة متساوية- على الكافة". عاشرًا: توظيف التربية في المعالجة، لا سيما عند وجود رأيٍ فقهي يؤول الأخذ به إلى انحراف في السلوك وتغيّرٍ في القيم الإسلامية مع الزمن، وعدم اكتفائه بالبيان العلمي والجانب الفقهي المحض؛ ومن ذلك قوله في مقال مكتسب المؤلف السابق "من أسمى القيم التي يجب أن يتميز بها المجتمع المسلم الإخلاص لله، والاحتساب، وتوقي الشح طريقًا للفلاح، والتخلي عن متاع الغرور أملًا في الباقيات الصالحات، وبما أنه لا أشد خطرًا على القيم الاجتماعية من نشوء وتنامي قيم منافية ومنافسة، والقيم تنشأ وتتنامى عندما ترسخ مظاهر السلوك عادات ثم عرفًا ومعروفًا لا ينكر، وهذه الحقيقة تنبه الغيورين على ما يغار الله عليه من الإخلاص والذين يهمهم حماية القيم الأساسية الإسلامية التي يتميز بها المجتمع المسلم عن المجتمع الكافر تنبههم إلى الحذر من التسامح تجاه عوامل إضعاف القيم السامية أو تدميرها وأن يعتبروا هذه المصلحة مصلحة عليا عند الموازنة بين المصالح مصلحة ترجح كل المصالح التي اعتاد المؤلفون الشرعيون أن يبرروا بها اختيارهم أن يظهروا بمظهر من يريد بالعبادة حظ الدنيا فيتتابع الناس على الاقتداء بهم حتى يصبح المعروف منكرًا". بل وجدت الشيخ يقرأ تاريخ التراث الفقهي السياسي عند بعض الفقهاء في هذا الإطار السلوكي والفكر السامي.. يقول رحمه الله: "لقد عني الفقه الإسلامي بالتنظيم الإداري في الدولة الإسلامية، وحدّد الأصول والقواعد لهذا التنظيم، وأُلِّفت في ذلك الكتب المتخصصة ..." ثم يتحدث عن أسباب انصراف الفقهاء عن تطوير الفقه الإداري في حقبٍ من تاريخ الدول الإسلامية قائلًا: " إنَّ الظروف التاريخية السيئة التي أحاطت بالدولة الإسلامية، عرقلت تطور ما كان يمكن أن يكون (هنا كلمة غير واضحة ولعلها: يسمو) بالقانون الإداري الإسلامي، وحمل ليلُ استبداد السلطة الطويل الفقهاءَ المسلمين إلى أن ينصرفوا إلى بحث العلاقات الفردية المدنية، وأن ينصرفوا عن التنظيم الإداري، ولم يشاؤوا أن يُوسّعوا المجال أمام السلطان الإداري، وهو سلطان في الأغلب ظالم مستبدّ، فيعطوه سلاحًا من القواعد القانونية المتميزة التي ترعى جانب الإدارة وترى أنّ مصلحة الإدارة ومصلحة الأفراد مصلحتان غير متكافئتين ". وأختم بعبارة جليلة للشيخ قال فيها عن نفسه: "إن كاتب المقالة يناشد علماء الأمة أن يعوا مسؤوليتهم ويعملوا على مكافحة الخطر المحدق من أخطار الغزو الفكري والثقافي الداهم وأن يحرصوا وهم على ثغرات الإسلام أن لا يؤتى الإسلام من قبلهم". رحم الله الشيخ فقراءة فكره تحتاج مؤلفاتٍ لا مقالات.. لكنها ليست إلا إشارات في بيان فكر هائل لقامة هائلة، لا تعرف الهالة..