على رغم أهمية بعض المعارك الانتخابية في محافظتي الشمال وجبل لبنان، سواء لجهة نتائجها أو مدلولاتها، فإن المراقبين في بيروت يتفقون على أن المعركة الفعلية تدور حول الحكومة المقبلة، وهو ما جعل المعركة الانتخابية بأسرها تصاب ب"عقدة الحريري" على حد قول سياسي بارز. ويخشى المراقبون أن تكون معركة تشكيل الحكومة المقبلة واحدة من أصعب المعارك، وان يدفع البلد ثمنها باهظاً سياسياً واقتصادياً، ويشيرون إلى أن دمشق هي الطرف الوحيد القادر على تجنيب لبنان تطاحناً بلا ضوابط يساهم في المزيد من التشنج سياسياً والمزيد من التدهور اقتصادياً. ويرى السياسي البارز ان التشنج الذي يميز الانتخابات النيابية الحالية في لبنان ناجم عن خطأين: الأول ارتكبه عهد الرئيس اميل لحود حين بدا وكأن سياسة العهد تصاع ضد الحريري وعلى قاعدة منع عودته إلى رئاسة الوزراء. والثاني ارتكبه الحريري حين شن على حكومة الرئيس سليم الحص حملة استهدفت في النهاية التأكيد أن أي سياسي غير الحريري سيتولى رئاسة الحكومة سيكون محاصراً باستمرار. ووصل العهد في رغبته في استبعاد الحريري إلى حد تقسيم بيروت إلى ثلاث دوائر انتخابية لمنع الحريري من أن يكون القطب الوحيد فيها وزعيمها بلا منازع. علاقة معقدة ووصل الحريري في معركته من أجل العودة إلى ضرب رصيد الحكومة في الداخل وصورتها في الخارج، إلى حد شلها، علماً أن المساهمة الأولى في هذا الشلل جاءت من الحكومة نفسها بتركيبتها واضطراب برنامجها وخطواتها. كانت العلاقة بين لحود والحريري معقدة قبل وصول الأول إلى رئاسة الجمهورية وخروج الثاني من رئاسة الوزراء. ولم يكن سراً أن الحريري لعب دوراً بارزاً في التمديد للرئيس الياس الهراوي، وأنه لم يؤيد لحود إلا بعدما تبلغ بشكل قاطع ان لحود هو الرئيس المقبل. وعلى رغم غياب الود، تجاوب الرجلان مع نصيحة سورية بفتح باب الحوار بينهما. لم يوقف الحوار خيار ابعاد الحريري الذي اختار بدوره معارضة العهد عن طريق معارضة الحكومة، متجنباً أي انتقاد لشخص رئيس الجمهورية وعلى أمل ابقاء الباب مفتوحاً لأي تجربة "تعايش" محتملة مستقبلاً. وخلال فترة الحوار ومع اقتراب الانتخابات النيابية، كان هناك من ينصح الحريري بتجنب اعطاء الانتخابات طابع "كسر العظم"، إذا ما كان يفكر جدياً في العودة إلى رئاسة الوزراء. وخلال وجوده في المعارضة نجح الحريري في تبديد بعض الغيوم التي كانت تعتري علاقاته بالطرف السوري الذي دعم وصول لحود وتولى تماماً الإشراف على الملف اللبناني. لكن الحريري الذي اختار عدم مهاجمة لحود شخصياً بدا مع اقتراب الانتخابات محكوماً بحجمه، وإذ به يخوض الانتخابات عملياً على كل الأرض اللبنانية، داعماً لوائح ومرشحين على رغم بعض تنازلات قدمها بامتناعه عن تسمية مرشحين مباشرين له في بعض الدوائر. وبدا الحريري في صورة من يحرص على توسيع الهامش المتاح له مستفيداً من الوقائع على الأرض أو بعض الاشارات، وردت الدولة بحملة إعلامية رسمية ضده، عبر تلفزيون لبنان، هدفها التأكيد أن "التعايش" غير وارد. مصدر سياسي بارز شرح ل"الوسط" صورة العوامل المؤثرة في معركة الحكومة المقبلة على الشكل الآتي: - لا يمكن إنكار ان إقامة الحريري في المعارضة ضاعفت من شعبيته، وان تردي أداء حكومة الرئيس سليم الحص ساهم في تعزيز هذه الشعبية. ولم يقتصر صعود شعبية الحريري على بيروت، بل تعداها إلى الشمال واقليم الخروب والبقاع الغربي وبعض الجنوب. وهذا الأمر حسم عملياً مسألة زعامة الطائفة السنية قبل صدور نتائج الانتخابات. - ان تغلب الحريري على نقاط الضعف غير اللبنانية التي ساهمت في اقناعه بالخروج من رئاسة الوزراء غداة انتخاب لحود، يجعله مرشحاً مطروحاً بقوة لكنه لا يكفي لتكليفه رئاسة الحكومة. - لا يزال الرئيس اميل لحود رئيساً قوياً لأسباب عدة. فالرئيس لحود تربطه بالرئيس بشار الأسد علاقة متينة تقوم على الاحترام المتبادل. وقبل توليه الرئاسة اتخذ الدكتور بشار موقفاً حازماً داخل القيادة السورية أدى إلى تغليب خيار دعم لحود على أي خيار آخر. وعززت ممارسة لحود في الرئاسة العلاقة بين الرجلين، ففي الملف الاقليمي وموضوع تحرير الجنوب ودعم المقاومة وفي العلاقات الثنائية، تعتبر دمشق ان الرئيس لحود أقام معها علاقة صادقة ومتينة انطلاقاً من قناعات راسخة وطنياً وقومياً. وبهذا المعنى، فإن دمشق ليست في وارد اضعاف الرئيس اللبناني أو دعم وصول حكومة تكبّل عهده. - صحيح ان الاستشارات النيابية التي يجريها رئيس الجمهورية لاختيار من سيكلف تشكيل الحكومة باتت ملزمة، لكن الصحيح أيضاً هو ان آراء الكتل تتأثر بعوامل أخرى غير الحجم النيابي والسياسي، وربما يؤدي الخوف من تعذر "التعايش" بين لحود والحريري إلى الايحاء باسماء أخرى ومن دون ان يظهر الأمر وكأنه هزيمة للحريري. - لسورية مصلحة في وقف التدهور الاقتصادي في لبنان لأسباب سياسية واقتصادية، لكن لا مصلحة لها في أزمة حكم في لبنان قد تندلع إذا ما جاءت الاستشارات لمصلحة الحريري واقفل لحود الباب أمام امكان التعاون معه، أو إذا انطلقت تجربة "التعايش" على قاعدة اختبارات القوة في التشكيل ثم الممارسة اليومية. - لتأجيل عودة الحريري ثمن لا بد من دفعه، ويتمثل في تشكيل حكومة سياسية موسعة تضم شخصيات ليست بالضرورة من تلك التي تربطها بالعهد أطيب العلاقات، مع الالتفات إلى أن اسم الحريري غير قابل للتعويض في موضوع إعادة الثقة بالوضع الاقتصادي اللبناني. - يحتاج ترتيب "التعايش" بين لحود والحريري إلى تفاهم تفصيلي وضمانات وتطمينات قد تحتاج مزيداً من الوقت، وبانتظارها قد تشكل حكومة غير مصابة ب"عقدة الحريري"، ولا تشكل الخصومة معه جوهر سياستها. - تبدو عودة الرئيس سليم الحص مستبعدة لأنها ستعتبر بمثابة هزيمة للحريري، لذلك يرجح ان ينحصر البحث في اسماء محدودة في مقدمها الوزير نجيب ميقاتي والنائب تمام سلام مع الأخذ في الاعتبار نتائج الانتخابات، علماً أن لبنان سيدفع بالتأكيد ثمن صعوبة التعايش وصعوبة العثور على البديل