لم يسبق ان شهدت انتخابات نيابية لبنانية عامة هذا المقدار من الحروب الصغيرة في دوائرها الانتخابية، على نحو ما يحصل أخيراً على أبواب الدورة الأولى في 27 من هذا الشهر. كما لم يسبق لسلطة لبنانية ان واجهت هذا المقدار من التهم المصوبة اليها تشكيكاً في حيادها وفي نزاهة دورها من الانتخابات من موالين ومعارضين على السواء. على الأقل منذ انتخابات 1992 التي بدا معها حرص السلطة على حماية حلفائها وتماسك لوائحهم وتجنيبهم اي نزاعات من شأنها التأثير في وصولهم الى مجلس النواب، لتبلغ ذروة هذا الحرص في انتخابات 1996 التي شكلت مصدر اطلاق عبارة "اللوائح المحادل". على ان هذا الامر ليس كذلك في انتخابات 2000، الانتخابات النيابية العامة الأولى في عهد رئيس الجمهورية العماد إميل لحود: 1- فالرئيس عمر كرامي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط والنائب نسيب لحود والنائب فارس بويز يتحدثون عن تدخّل الاجهزة الأمنية في هذه الانتخابات في محاولة للتأثير على نتائجها وتوجيهها. وهي مواقف تتلاقى مع ما كان قاله في وقت سابق الوزير سليمان فرنجية عن تدخّل العسكر وضباط الجيش في الوزارات والادارات. بذلك تصدر اتهامات مباشرة، ليس عن حلفاء العهد، بل عن حلفاء شخصيين لرئيس الجمهورية الذي أكد تكراراً انه لن يتدخل في الانتخابات. 2- والرئيس كرامي يواجه مع الوزير فرنجية تنافساً انتخابياً حاداً من شأنه في أي حال ان يفضي الى خسارة معنوية للسلطة لان الرجلين مواليين مع ان كرامي يحاول منذ فترة تمييز موقعه، وخاضا معاً معركة وصول الرئيس لحود الى رئاسة الجمهورية منذ العام 1995. الا ان تنافسهما عليه في الدائرة الثانية للشمال هو مجرد خصومة محلية تتصل بتسمية مرشحين، الأمر الذي سيعرّضهما، أحدهما على الأقل، في ضوء نتائج انتخابات هذه الدائرة، الى تحمّل أعباء خسارة سياسية كبيرة لن يكون في الإمكان بعدها رأب صدعها. اذ يتعين، ارتقاباً لتلك النتائج ان تنهار احدى لائحتيهما لمصلحة اللائحة الأخرى. إن لم تكن برمتها، فعلى الأقل بمعظم مرشحيها. وما يبدو واضحاً الى اليوم ان الانهيار سيكون للائحة كرامي بفعل ضعفها الذي ساهم فيه أخيراً خروج "الجماعة الاسلامية" منها. وسيشير ذلك حكماً الى زعامة ما في الشمال ستُولد بعد هذه الانتخابات. لكنها ستشير كذلك الى طرح اكثر من علامة استفهام حول مستقبل زعامة آل كرامي في طرابلس، خصوصاً في ظل نجاح هزيل متوقع للائحة كرامي. ولذا يبدو لافتاً هنا ان السلطة لم تتدخل لدى الطرفين لمصالحتهما واحياء توافقهما بالحد الادنى، على غرار تدخلها المباشر في الدوائر الأخرى. 3- ولعل ما يعزز هذا الانطباع المفارقة المثيرة للاهتمام التي تجعل من فرنجية حليفاً متيناً للحريري في هذه الدائرة، وفي الوقت نفسه شريكاً لميقاتي في لائحة الائتلاف الانتخابي، فيما يوجّه كرامي من جهة أخرى حملاته، وعلى قدم المساواة، الى ميقاتي، في محاولة بدأت تظهر ملامحها في الشارع الطرابلسي، وهي الاعتقاد بأن الرئيس كرامي في انتخابات 2000 يقود معركة منع فرنجية من مدّ زعامته الى طرابلس والى الشمال ككل. وكذلك منع ميقاتي أحد أبرز المرشحين المحتملين لرئاسة حكومة ما بعد الانتخابات من خوض تجربة زعامة طرابلس التي اقتصرت في العقود الخمسة الأخيرة على آل كرامي، وتالياً الحؤول دون فتح نافذة على عائلة سياسية جديدة في المدينة، من شأن وصول ميقاتي الى رئاسة الحكومة تبعاً لما ستفضي اليه نتائج الانتخابات كمرشح قوي في لائحة الائتلاف تكريسه بيتاً سياسياً موازياً لبيت الزعامة الكرامية التقليدية. وفي الواقع فإن الرئيس الراحل رشيد كرامي واجه من قبل صعود قيادات طرابلسية جديدة، لعل أكثرها مثولاً في الذاكرة استقطابه الشارعين السنّيين في طرابلسوبيروت ضد وجود النائب أمين الحافظ في رئاسة الحكومة العام 1973 ومن ثم ضد استمراره فيها أكثر من أسابيع قليلة أُرغِم الحافظ بعدها على الاستقالة. وكذلك منع الحريري من توسيع نطاق نفوذه في الشارع الطرابلسي. والواقع ان هنا بالذات يكمن مأزق كرامي، محاصراً بخصوم ثلاثة يهددون زعامته في طرابلس، وبمنافسة ابن عمه النائب أحمد كرامي على زعامة البيت من جهة أخرى، على النحو الذي يُظهر ان زعامة العائلة برسم الانتقال من بيت عبدالحميد كرامي الى بيت ابن شقيقه مصطفى والد أحمد المنافس التقليدي للرئيس الراحل رشيد كرامي في الخمسينات. 4- وليس المأزق شمالياً فحسب، اذ ان ثمة موالين آخرين يعبرون أزمة مماثلة، ففي دائرة بعبدا - عاليه لم ينجح الائتلاف العريض مرشحو "حزب الله" والرئيس نبيه بري والحزب السوري القومي الاجتماعي والنائبان طلال أرسلان وبيار دكاش والنائب السابق بيار حلو في حماية تحالفه مع النائب الياس حبيقة الذي بقي شريكاً للائتلاف لكن من دون الانضمام اليه بحيث يترشح منفرداً، لكنه يحوز أصوات هذا الائتلاف. وهي سابقة لا مثيل لها في حياة الانتخابات النيابية اللبنانية وعلى هذا النحو من الائتلافات التي تحيل شريكاً فيها عبئاً على اللائحة في حال ظهر في الصورة التقليدية. على الأقل هذا ما عبّر عنه أرسلان بتبريره صعوبة انضمام حبيقة للائحة خشية امتناع الناخبين المسيحيين في عاليه عن الاقتراع لها. علماً ان حبيقة شريك هؤلاء أيضاً في العلاقة مع سورية، وهو حظي في الأشهر الأخيرة بتعويم سياسي لم تكن سورية بعيدة عنه. وهي صورة معبّرة أيضاً عن دور السلطة في جمع الحلفاء في لوائح مشتركة تقاوم كل التناقضات التي تجمع في ما بينهم، وان بدا في وسع هؤلاء تبادل الأصوات التجييرية في الاقتراع. ذلك ان دوافع هذا الاصطفاف العريض في التحالف في دائرة بعبدا - عاليه ترمي الى محاولة تحقيق أفضل توازن سياسي وانتخابي ممكن في مواجهة اللائحة الائتلافية بين جنبلاط والحريري. والواضح من التعارض التي يتحكم بالائتلاف العريض انه سيشق الطريق أمام جنبلاط لإحداث خرق أساسي في لائحة منافسيه، شركائه في العلاقة مع سورية. اذ للمرة الاولى، بعد تجربتي انتخابات 1992 و1996 ينقسم الحلفاء على بعضهم البعض، وتجد السلطة نفسها معنية ومستفيدة من الانقسام. 5- يؤول ذلك الى طرح المنافسة الانتخابية الحارة في الدوائر الثلاث لبيروت، والتي يتمثل فيها، فعلياً، حجم المشكلة السياسية بين السلطة والحريري الذي يواجهها بثلاث لوائح انتخابية، في سابقة لم يُقدم عليها من قبل أي زعيم بيروتي - بمن فيهم الرئيس الراحل صائب سلام في ذروة استقطابه الشارع السنّي البيروتي في الستينات - بسعيه الى توسيع نطاق زعامته على العاصمة في اطار ثلاث دوائر انتخابية شتت هذه الزعامة. والواقع ان الحريري، تبعاً للانطباعات التي ينقلها عن زواره يبدي ارتياحاً الى نتائج انتخابات بيروت لمنافسته في الدائرة الأولى التي يترشح عنه لائحة ضعيفة وان كانت تحظى بدعم السلطة، فيما تكتسب منافسته رئيس الوزراء سليم الحص والنائب تمام سلام في الدائرتين الثالثة والثانية أهمية مضاعفة، تتجاوز مجرّد انجاح مرشحي لائحتيه فيهما على غرار الدائرة الأولى الى تأكيده نفوذه السياسي والانتخابي في دائرتين انتخابيتين أخريين قُسمتا حتى يستقل بكل منهما الرئيس الحص والنائب سلام، ويدير معركته الانتخابية للسيطرة على ثلث بيروت، وعلى ثلث زعامتها. والواقع ان انتخابات الدائرتين الثانية والثالثة تحوط بها تكهنات واسعة النطاق تقع في صلب تجاذب القوى بين السلطة والحريري الذي لا يزال الى اليوم يتجنب اتهام الأجهزة الأمنية بالتدخل في انتخابات بيروت، الا انه يعي حكماً حجم المواجهة التي تقابله بها السلطة، على الأقل لمجرد وضعها قانون انتخاب يرمي الى تجريده من زعامته السياسية على كل بيروت التي أفضت اليها نتائج انتخابات 1996. وهي نتائج ساهم في تأثيرها المضاعف وجود الحريري على رأس حكومة تلك الانتخابات. 6- إزاء الاستقرار الذي يطغى على اللوائح القوية الثلاث في دوائر بعلبك - الهرمل وزحلة والبقاع الغربي وهي اساساً كانت موضع عناية سورية مباشرة في بناء تحالفاتها الانتخابية، وكذلك بالنسبة الى الجنوب في مرحلة لاحقة، فإن الدوائر الأخرى، لا سيما منها في جبل لبنان تخبّطت في فوضى الترشيحات وفي فوضى اللوائح، الا أن الأهمية التي تظل تكتسبها دوائر جبل لبنان تكمن في كونها تشكل الحيّز الوحيد للسلطة اللبنانية للتدخل في مسارها. وهذا ما يفسر انكفاءها عن اي محاولة تأثير مباشر في دوائر البقاع والجنوب، وتجنيب هذه خصوصاً، وبرغبة لم يخفها تكراراً المسؤولون السوريون، معارك انتخابية محتملة في ظل الأوضاع الاقليمية الحالية. ولهذا فإن انتخابات الداخل اللبناني اذا صح التعبير، أي دوائر الجبل وبيروت والشمال تبقى أكثر عرضة لتجاذب العلاقة بين السلطة ومعارضيها. بل تبدو السلطة فيها أكثر عرضة لاختبار معياري النجاح والفشل في إدارة هذا الجانب من الانتخابات وان ستفضي نتائجها في آخر المطاف الى نشوء مجلس نيابي متجانس، حليف لدمشق، داعم لدورها في لبنان والمنطقة، وحامياً أولاً وأخيراً للعلاقات اللبنانية - السورية. وهو ما يعنيه تعويل دمشق على حلفائها الأقوياء في المجلس كتل بري و"حزب الله" والحريري وفرنجية والمر والحزب السوري القومي الاجتماعي. ولذلك فإن هؤلاء يظلون محاطين بخطوط حمر تحمي مواقعهم - وان قوبلوا بمنافسات محلية صغيرة داخل البرلمان. أما الباقي فلا يتعدى كونه تفصيلاً.