تمثل قصائد توفيق زيّاد الصوت المختلف لشعر المقاومة. وقصائده تحاكي النقائض. فهي مستقاة من الألم والمعاناة، ومدهشة في انسياقاتها اللفظية والمتوترة. وقد استطاع الشاعر الفلسطيني الذي مضى على رحيله ست سنوات، ان يحتل مكانة خاصة على الخريطة الشعرية العربية، فإذا به أحد أركان ثلاثي شعراء الأرض المحتلة مع محمود درويش وسميح القاسم. كان شاعراً غنائياً، تحولت قصائده أناشيد ثورية غناها العديد من الفنانين. كان توفيق زيّاد شاعراً شعبياً في تعابيره اللغوية وتراكيبه اللفظية. ويلاحظ الدارس ان الصورة الشعرية لديه خاضعة للمناخ السياسي السائد في الأرض المحتلة آنذاك. فهو شاعر ممارسة نضالية تحركه خلفيته الايديولوجية، كأنه الامتداد الطبيعي لمدرسة ناظم حكمت وبابلور نيرودا. ومعروف ان الشاعر الذي كان آخر حياته رئيس بلدية الناصرة، المدينة التي أبصر فيها النور العام 1932، انخرط في النضال السياسي منذ الخمسينات وحتى وفاته يوم 7 تموز يوليو 1994، في طريق عودته من أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث كان في استقبال اخوته العائدين من المنفى. لشعر توفيق زيّاد نبرته الخاصة واسلوبه المتميز الذي يشبهه تماماً، ويجعله مختلفاً عن شعراء تلك المرحلة. وثمة خصائص تميزت بها اشعاره الغنائية، منها ما هو شكلي، أو يتعلق بتوظيف التراث والأمثال الشعبية. كما انه ابتعد عن الأوزان المعقدة، وكان لمفرداته وقع خاص، وجاءت تراكيبه بسيطة وشديدة الوضوح، وذات معنى مؤثر. ونجد هذا النموذج في معظم قصائده ومنها قصيدته الشهيرة "أناديكم": "أناديكم... أشد على أياديكم/ أبوس الأرض تحت نعالكم/ وأقول أفديكم/ وأهديكم ضيا عيني ودفء القلب أعطيكم/ فمأساتي التي أحيا/ نصيبي من مآسيكم، أناديكم..." وما يلفت الانتباه في شعر زيّاد هو ذاك الصوت الانساني المنبعث في كلماته، عبر صرخة معجونة بخميرة شعرية، ففي قصيدة "نيران المجوس" نقرأ: "على مهلي... على مهلي/ أشد الضوء خطياً ريقاً/ من ظلمة الليل/ وأرعى مشتل الاحلام/ عند منابع لسيل/ وأمسح دمع أحبابي بمنديل عن الفلِ/ وأغرس أنضر الواحات وسط حرائق الرملِ". وهذا الشعر يأتي نتاج بىئته الفلسطينية المثقلة بكاهل المأساة، الناتجة عن فعل الاحتلال. فالشاعر يستقي موضوعه من الواقع المعاش، ويتسع الموضوع كلما ضاقت الأرض بإنسانها، وعظمت التراجيديا. وتقوم قصائد توفيق زيّاد على مجموعة من المؤثرات التي يستخدمها في سعيه الى بث الحماسة والتسيس والوضوح، وفق معان خصبة وحساسية مشبعة بالألم. وتكاد تلك المؤثرات تتحول لديه زخماً شعرياً عبر اصراره المقصود على تصوير الألم والحنين. حتى ان العديد من قصائده ينم عن مفارقة أو سخرية واضحة، وذلك مرتبط بجوهر المؤثرات المستخرجة لخدمة الموضوع. وهذه ظاهرة نجدها لدى العديد من أدباء الأرض المحتلة، وتحديداً في كتابات اميل حبيبي. وهذه السخرية في الأدب المقاوم جاءت في سياق جمالي مؤثر ينطوي على خطاب احتجاج، ويعتبر سلاحاً يكشف المفارقات. ألم يعتبر ت.اس. اليوت السخرية "احدى خصائص الشعر العظيم"؟ من خلال القصيدة دفع الشاعر شعبه نحو المواجهة المباشرة. وكتب قصائده كمتطلبات حياة، وليس كصيغة فنية ابداعية ترتقي الى النخبة المبدعة. بل كان أقرب الى التوجه الشعبي والنهوض الثوري والتمرد على الظلم: "يا شعبي يا عود الند/ يا أغلى من روحي عندي/ إنا باقون على العهد/ لم نرض عذاب الزنزانة/ وقيود الظلم وقضبانه/ ونقاس الجوع وحرمانه/ إلا لنفك وثائق القمر المصلوب/ ونعيد اليك الحق المسلوب". ويتضح هنا ان الشاعر تعامل مع القمر كرمز بطولي مأسور ومصلوب ومقيّد. وهذا الأثر الجمالي في الرمز وجب تحريره من أسر القيود وظلام السجن، لأن القمر رمز للجمال المطلق لا يحق لمحتل حجبه، كما الحقيقة، وتلك هي طريقة نفاذ الرمز الى قصائد توفيق زيّاد. ويبحث توفيق زيّاد، بطريقة ما، عما هو مقدس في الحياة، فيذهب الى ذاته ويسألها، ويترك انطباعاته للقصيدة الباحثة عن هوية لوجوده، وربما من الاهمية هنا اعتبار قصائده تبحث عن هويتها في سياق الحنين الى كل ما هو طبيعي وحقيقي، كمثل انساني يتغنى بمواويله ورقصاته وأنفاسه الخضراء المعبأة في موسيقى حزينة من نايه، فيقول: "فلسطينية شبابتي/ عبأتها أنفاسي الخضرا/ وموالي/ عمود الخيمة السوداء في الصحرا/ وضجة دبكتي/ شوق التراب لأهله/ في الضفة الاخرى". أنشد الشاعر بقاء شعبه في الأرض الجليل والمثلث، وحثهم على التشبث بجذورهم، فجاء قوله: "بأسناني سأحمي كل شبر من ثرى وطني/ ولن أرضى بديلاً عنه/ لو عُلّقت من شريان شرياني/ أنا باقٍ أسير محبتي... لسياج داري/ للندى... للزنبق الحاني...". وتغنى زيّاد بحلم العودة، عودة المنفيين عن وطنهم العام 48، فجاءت قصيدته الجميلة: "أحبائي برمش العين أفرش درب عودتكم/ برمش العين/ وأحضن جرحكم/ وألم شوك الدرب بالكفين/ من لحمي سأبني جسر عودتكم على الشطين...". ونلاحظ هنا تلك الرومانسية الواضحة التي تقترن احياناً بحال البوح الداخلي في مفردات منسابة بعذريتها. وهناك قصائد لزيّاد أقرب الى العامية تفوح برومانسية خاصة: "فتح الورد على مرفق شباكي وبرعم/ والدوالي عرشت واخضر منها ألف سلّم/ واتكا بيتي على حزمة شمس يتحمم...". لقد برع الشاعر الراحل توفيق زيّاد في اختيار مفرداته البسيطة والمعبرة في الوقت نفسه، وخاض تجربة خاصة في توظيفه الأمثال الشعبية شعراً، وتوظيفه بعض الحكايات المأخوذة من الأدب الشعبي الساخر. كان ينشد الى تقديس في الحياة واعادة الاعتبار الى الكرامة المهدورة، فجاءت قصائده أناشيد غنائية وطنية، مرصعة بإحساس مرهف، نثره على الكلمات التي ستبقى شاهدة على روحه الطيبة والجميلة