يبدو أن السلطات المصرية والليبية التي تسعى الى تفعيل مبادرة مشتركة لإحلال الوفاق بين الفرقاء السودانيين ووقف الحرب الأهلية الدائرة في جنوب السودان منذ العام 1983 إقتنعت أخيراً بأن العقيد جون قرنق دي مابيور زعيم "الجيش الشعبي لتحرير السودان"، وجناحه السياسي "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، رقم لا يمكن تخطيه في أي مسعى لتسوية المشكلة السودانية. وكان ابتعاد حزب الأمة السوداني المعارض الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي عن التجمع الوطني المعارض، إثر إنتقادات حادة لقرنق وسياساته، ترك إنطباعاً بأن التخلي عن قرنق يمكن أن يوفر حلاً للأزمة. وسرعان ما اتضح للسودانيين والدول المجاورة لبلادهم أن مثل ذلك الحل سيقتصر على فصائل بعينها في شمال البلاد، أما قضية الحرب الأهلية فستكون مقبرة لتلك الفصائل المتصالحة، مثلما بقيت على الدوام مقبرة للحكومات التي تفشل في وقفها. ويمثل الوصول الى قرنق مشكلة. إذ إن مقره في جنوب السودان محفوف بمخاطر الحرب والغارات الجوية، والطريق إليه وعرة وغير مأمونة. وهو لا يمكث طويلاً في العواصم التي يرتادها مثل نيروبي وأسمره والقاهرة. كما أن هاتفه المتصل بالأقمار الصناعية لا يعمل إلا ساعة أو ساعتين في الليل توفيراً للطاقة التي يستهلكها تشغيله. تطرق الحديث مع قرنق الى غالبية القضايا التي تشكل في مجملها لب الأزمة السودانية المستعصية، بدءاً من الوضع العسكري، والموقف السياسي، مروراً بمساعي دمج المبادرتين العربية والإفريقية لحل المشكلة ووقف الحرب الأهلية، إنتهاء بالإنشقاق في صفوف الحزب الحاكم في السودان، وطموحات قرنق الرئاسية. ما هو تقويمك للوضع العسكري المتعلق بالمواجهة بين قوات المعارضة التي تقودها والقوات الحكومية؟ - لدينا في الحركة الشعبيةوالجيش الشعبي لتحرير السودان وفي التجمع الوطني الديمقراطي ست جبهات نقاتل فيها قوات الحكومة، ثلاث منها في الجنوب، وهي في أقاليم الإستوائية وأعالي النيل وبحر الغزال. وتقع الجبهة الرابعة في منطقة جبال النوبة في الغرب. والخامسة في جنوب النيل الأزرق، أما السادسة فهي في شرق السودان. وتشارك في الجبهة الأخيرة كل فصائل التجمع الوطني الديمقراطي. ونطلق، نحن في الجيش الشعبي لتحرير السودان، على قواتنا التي ترابط في الجبهة السادسة "لواء السودان الجديد". وتمثل الحزب الإتحادي الديموقراطي قوات "طلائع الفتح". ومعنا مقاتلو قوات التحالف السودانية التي يقودها العميد عبد العزيز خالد، ومقاتلو التحالف الفيديرالي الديموقراطي الذي يتزعمه أحمد إبراهيم دريج، وفصيل الأسود الحرة الذي يمثل قبيلة الرشايدة، ويقوده مبروك مبارك سالم، و قوات مؤتمر البجا. وهناك قوات تمثل الحزب الشيوعي. وهذه العناصر السبعة تخوض هذه الأيام إشتباكات مع جيش النظام في منطقة همشكوريب وغيرها. وبوجه عام أقول إن العمليات العسكرية التي ننفذها في الشمال تتركز في الجبهات الشرقية وفي جنوب النيل الأزرق ومنطقة جبال النوبة. وهذه الإشتباكات التي أشرت إليها بادرت بها الحكومة، ونحن في حالة دفاع عن النفس لصد هجمات القوات الحكومية، وفي سياق دفاعنا وجدنا القوات الحكومية طيعة وسهلة وقابلة للتراجع والفرار، فحررنا بلدات مهمة كثيرة منها همشكوريب وزهانة وغيرهما. وحصل شيء مماثل في جنوب النيل الأزرق، خصوصاً في مناطق الخرطوم بالليل وسالي وأولو، حيث نجحنا أيضاً في وقف الهجمات الحكومية. في الجنوب حاولت القوات الحكومية أن تخرج من جوبا صوب نيمولي وتوريت، وباتجاه ياي وروكون. لكننا نجحنا أيضاً في وقف زحفها واضطرت للتخلي عن هجومها. وفي بحر الغزال تستخدم الحكومة ميليشيات موالية لها. وحدث ذلك بوجه خاص في منطقة بانتيو، لكننا نجحنا في وقف تلك الممارسات من خلال مفاوضات سلام بين قبيلتي الدينكا والنوير أجريت في بلدة ونليت. وتأتّى بذلك إحلال سلام شامل بين هاتين القبيلتين المهمتين في جنوب البلاد. كما أن الحكومة دأبت على الإستعانة بميلشيا "المُرَحّلين" التي تتكون من قبيلتي المسيرية والرزيقات من عربان جنوب غرب السودان، وهي تسلحهم وتدفعهم لشن هجمات على مقاتلينا في شرق بحر الغزال. ونسعى الآن الى عقد إجتماع يضم هذه القبائل التي تقع في مناطق التماس. لماذا سعت قواتكم الى إحتلال همشكوريب وهي بلدة دينية تستمد وجودها من إنتشار كتاتيب تعليم القرآن؟ تتحدث الخرطوم عن قيام مقاتليك بتدنيس مقدسات إسلامية وتمزيق مصاحف ... - صحيح أن همشكوريب مركز ديني أسسه الشيخ الراحل علي بيتاي. غير أننا منذ سنة ونصف نادينا - في بيان وقعه الفريق عبد الرحمن سعيد المتحدث باسم القيادة العسكرية المشتركة لقوات التجمع الوطني الديموقراطي - بأن تكون همشكوريب منطقة خالية من القوات والأسلحة إحتراماً لقدسيتها. غير أنه منذ ذلك الوقت حصلت متغيرات جيو-سياسية، تشمل الإتفاق الذي توصلت إليه السلطات السودانية مع أريتريا، ويدعو الحكومتين الى نزع أسلحة أي عناصر معارضة للطرف الآخر . وسعت الحكومة السودانية الى شن هذه الهجمات لإرغام المعارضة السودانية على سحب قواتها الى الأراضي الأريترية ليتسنى لها مطالبة أريتريا بنزع أسلحتنا طبقاً لما ينص عليه الإتفاق الذي وقعه البلدان. وفي سياق تلك السياسة الهجومية عمدت الخرطوم إلى إقامة معسكر لقواتها في بلدة همشكوريب نقلت إليه لواء كاملاً. وكما ترى فإن كون همشكوريب بلدة دينية مسالمة وهادئة لم يمنع الحكومة التي تدعي الأصولية من تحويلها الى معسكر لقواتها. وفي آذار مارس كونت الحكومة السودانية ثلاث مجموعات قتالية جمعتها من حامياتها في درديب وأروما وكسلا وخشم القربة، يتراوح قوام كل منها بين ألفين وثلاثة آلاف رجل، ودفعت بكل مجموعة في اتجاه بغية حمل قوات المعارضة على التقهقر الى الأراضي الأريترية. وبدأ التحرك العسكري الحكومي في 6 آذار مارس الماضي، وكانت المعارضة قد بدأت في اليوم نفسه إجتماعاً مهماً في أسمره لبحث الحل السياسي الشامل لأزمة البلاد. وكان لهذا التحرك في ذلك الوقت هدف آخر يتمثل في تعزيز خط حزب الأمة داخل التجمع الوطني الديموقراطي، بدعوى أن هناك مستجدات ومتغيرات في المنطقة تبرر الهجوم. هكذا زجت الحكومة بألويتها الثلاثة صوب معسكرات قواتنا الواقعة على الحدود السودانية-الأريترية. ولكننا على النقيض من ذلك قمنا بتكوين مجموعتين قتاليتين شمال مدينة كسلا وجنوبها ، ونفذنا الى الأعماق لنضرب المناطق التي نشر فيها الجيش الحكومي قواته لتنفيذ خطة مهاجمة معسكراتنا، فاضطروا الى سحب عدد كبير من قواتهم من همشكوريب وزهانة ومناطق أخرى، وسارعنا نحن الى مهاجمة المناطق التي ضعفت دفاعاتها نتيجة سحب القوات الحكومية منها. والواقع أن القوات الحكومية وصلت الى الحدود لكنها لم تقابل أي عدو هناك. وفي إحدى المناطق واصلت الحكومة قصف المنطقة ثلاث ساعات بالمدفعية قبل أن تهجم لتفاجأ بأنها كانت تضرب خصماً لا وجود له. وبعد أن حررنا همشكوريب أعلناها من جانب واحد منطقة منزوعة السلاح وإنسحبنا من البلدة لنرابط خارجها. لكنك لم ترد على السؤال في شأن تمزيق المصاحف وهو أمر عرضته الحكومة على شاشة قناتها الفضائية ... - هذا هراء فارغ. تتحدث عن تقدم عسكري لقواتك، ولكن على الصعيد السياسي لا يبدو أن هناك تقدماً يذكر ... - لنأخذ موقف التجمع الوطني الديموقراطي، فهو بالطبع أفضل الآن منه في وقت مضى، خصوصاً بعد خروج حزب الأمة من التجمع. وهي تطورات خاصة بالتجمع، لكننا خرجنا منها بعد مفارقة حزب الأمة ونحن أكثر وحدة وتجانساً وتفاهماً سياسياً. ونعكف الآن على بناء التجمع ليكون تنظيماً شاملاً وقادراً على حل مشكلة السودان، وليكون بديلاً أفضل من حكومة الجبهة الإسلامية القومية. وهو حقيقة يشمل الآن جميع عناصر المعارضة المتجانسة، ولذلك نحن نعتبر ذلك تطوراً سياسياً مهماً. وفي ما يتعلق بالتفاوض مع الحكومة، فمن الصعب أن نتحدث عن تقدم لأن الحكومة التي يفترض أن تتفاوض معنا تشهد إنقساماً خطيراً بين البشير والدكتور حسن الترابي. كما أن الجبهة الإسلامية القومية ماضية منذ العام 1989 باتجاه التشدد والأصولية الإسلامية. وإذا إستمرت الحكومة في هذا الإتجاه وتمسكت بما تسميه المشروع الحضاري فمن الصعب أن نرى تقدماً في أي مفاوضات تجرى معها. والحقيقة أننا في الحركة الشعبية لتحرير السودان نفاوض حكومة الجبهة الإسلامية منذ عام 1989 . وتكمن المشكلة في الإتجاه الذي تسلكه الجبهة. إذ إنها مصرة على أن تعاد صياغة السودان وفقاً لرؤيتها. وإذا تخلت الحكومة، وبوجه خاص العناصر الموالية للبشير، عما يسمى المشروع الحضاري ، وقررت أن تسلك وجهة سودانية قومية فمن الممكن أن تشهد المفاوضات تقدماً. لكن الحكومة تلقي على الدوام المسؤولية على عاتقك. وهي تقول الآن إنك تعرقل إنطلاق المبادرة المصرية-الليبية المشتركة من خلال إعتراضك على دمجها في مبادرة منظمة "إيغاد"... - هناك دعاية ضدنا تتهمنا بإعاقة المبادرة المصرية-الليبية. لقد قبلنا مبادرة "إيغاد" وإعلان المبادئ الخاص بها منذ العام 1994، أي قبل ظهور المبادرة المشتركة التي قبلناها ووقعنا على إعلان طرابلس الذي يشرح بنودها. هناك مبادرتان إذن. وترى الحركة الشعبية أنه ينبغي تنسيق المبادرتين أو دمجهما حتى لا تكون مبادرة "إيغاد" عملاً إفريقياً يقصي البعد العربي في تكوين السودان، وحتى لا ينظر آخرون الى المبادرة المصرية الليبية باعتبارها إقصاء للعنصر الإفريقي في تركيب السودان. ولعل النظر الى هاتين المبادرتين من هذه الزاوية يضر كثيراً بوحدة السودان والتجمع الوطني المعارض، لأن ذلك يقسم التجمع على خط جنوبي-شمالي، ويقسم البلاد الى جنوب وشمال وعرب وأفارقة ومسلمين ومسيحيين. وهو تقسيم غير مفيد. إن أفضل السيناريوهات لحل مشكلة السودان يتمثل في إيجاد مبادرة واحدة قادرة على معالجة مشكلات القطر في كل أرجائه. هذا هو موقفنا. ونعتقد بأن المبادرة المدمجة يجب أن تضم دول "إيغاد" ومصر وليبيا، لأنه لا يمكن حل مشكلة السودان بشكل صحيح من دون مساهمة مصر في ذلك. وبالمثل أيضاً لا يمكن ان تستمر المبادرة المصرية-الليبية من دون مشاركة دول "إيغاد". لكنك تطالب بالدمج بشكل غامض، ولا تريد أن تقترح شيئاً بعينه لتجسيد الدمج. ما هي العناصر التي يمكن أخذها من كل مبادرة لتبرز مبادرة مدمجة جديدة؟ - لقد وقعنا على المبادرتين. هناك من يدعون أننا وقعنا على إعلان طرابلس المصري- الليبي ثم إنسحبنا منه. وهذا ليس صحيحاً. لقد وقعنا على المبادرتين فكيف يمكننا أن ننسحب من مبادرة "إيغاد" لنمشي فقط في ركاب المبادرة المشتركة أو العكس؟ كلام ليس منطقياً. إن إعلان طرابلس يتحدث عن ضرورة تنسيق المبادرتين، وهو ما ننادي به. والدمج ممكن يحصل بطرق مختلفة أبسطها أن هناك عناصر في مبادرة "إيغاد" غير موجودة في المبادرة المشتركة، والعكس صحيح. هكذا يمكن أن تتضمن الآلية الجديدة للتفاوض - أو ما تسميه المبادرة المدمجة الجديدة - بنوداً متكاملة من المبادرتين. توجد في المبادرة المشتركة ثماني نقاط غير موجودة في إعلان المبادئ الخاص بمبادرة "إيغاد"، خصوصاً الدعوة الى تهيئة المناخ للتفاوض. هذه الأشياء يمكن دمجها في المبادرة الجديدة. وقد طلبنا من دول المبادرتين تكوين لجنة فنية مشتركة للبحث في سبل الدمج. وعلى تلك الدول أن تتحمل أيضاً مسؤولية تفعيل الدمج المحتمل. يمكننا أن نتقدم بأفكار وتوصيات ولكن تفعيل المبادرة هو في المقام الأول مسؤولية من يتقدم بها ويرعاها. من الواضح أن إنسحاب حزب الأمة من التجمع بني على أسباب من أبرزها إنتقاد مواقفك ومطالبتك بتقسيم السودان، ولكن من خلال الرسائل التي تبادلتها مع رئيس الحزب الصادق المهدي يلمس المرء أن هناك عدم إستلطاف بينك وبين المهدي... - ليست لي مشكلة شخصية مع الصادق المهدي. لقد قابلته للمرة الأولى سنة 1986، ولم تكن لي به معرفة سابقة. كان رئيساً للحكومة آنذاك. تحادثنا لمدة تسع ساعات ولم نتوصل الى أي شيء. ولم أقابله مذاك إلا في 1996 بعد خروجه من السودان الى أريتريا. لا توجد بيننا علاقات شخصية أصلاً حتى تنسب خلافاتنا الى مسائل شخصية. الخلاف بيننا سياسي، إذ إن الصادق المهدي يرى أن السودان مستهدف ويواجه مخاطر من إحتمال إنفصال جنوب السودان عن شماله، ومما يسميه تدويل قضية السودان. وهي مخاوف غير منطقية، لأن الحركة الشعبية لتحرير السودان تتحدث منذ العام 1983 عن وحدة السودان التي نطالب بأن تبنى على أسس جديدة نسميها السودان الجديد. سودان تسوده العدالة والمساواة بين جميع شعوبه وقبائله في الجنوب والغرب والشرق والشمال. بغض النظر عن مسيحيتهم أو إسلامهم، وعروبتهم أو إفريقيتهم. نحن كلنا سودانيون وما يجمعنا هو ما أسميه "السودانوية" قال بالإنكليزية SUDANISM. وبدلاً من مشروع حضاري يجب أن نمشي صوب مشروع سوداني. نسب الى مبارك الفاضل القيادي في حزب الأمة قوله إن الجيش الشعبي يستهدف الوجود العربي في السودان. - هذا أيضاً غير صحيح. وهو جزء من أشياء غير صحيحة كثيرة تصدر عن السيد مبارك الفاضل. فقد زعم أخيراً أن جون قرنق حصل على 400 مليون دولار من أميركا لتعطيل المبادرة المصرية-الليبية. وهذا غير منطقي ولا ينفذ الى العقل. لو كانت أميركا مستعدة لتكريس مبلغ بهذه الضخامة لتعطيل المبادرة المشتركة فلماذا لا تعطيه الى المصريين مباشرة وتطلب منهم التخلي عن مبادرتهم؟ ذلك أفضل لأميركا لأنها لا تملك ما يضمن أنني سأعطل تلك المبادرة. كلام فارغ. دعاية "ساكت". وأنا أعتبر أن من غير المنطقي أن يأتيني الصادق المهدي ليقول لي إن السودان في خطورة بسببي أنا. نحن نقف مع وحدة السودان، وأنا لا أرى خطورة في الإنفصال إذا حدث بسبب الجيش الشعبي لتحرير السودان أو بسبب مساعي فصائل جنوبية أخرى. وهي مخاطر لا تتعدى بأي حال ما تسببت فيه سياسات الحكومات السابقة والحالية من تهديد بإنفصال مناطق كثيرة من السودان في الجنوب والغرب والشرق على حد سواء. أنا - على النقيض من الصادق المهدي - لا أرى أن الخطورة تأتي للسودان من باب التدويل أو من باب نشاط المعارضة في الخارج، ولكنها بنظري تأتي بسبب سياسات الداخل. هل يعقل أن تكون هناك حكومة في السودان تجند شعب البلاد كله ليقوم بالجهاد على فصيل آخر من أبناء الشعب نفسه؟ من هنا تنبع المخاطر. ولذلك يتعين علينا أن نتعلم كيف يقبل كل منا الآخر. وإذا أسسنا ما نسميه السودان الجديد فلن يكون هناك سبب للإنفصال. في مقابل علاقتك المتأرجحة مع الصادق المهدي أنت على علاقة طيبة مع رئيس المعارضة السيد محمد عثمان الميرغني. ومن الواضح أن التقارب بينكما شديد. هل من تفسير؟ - نحن أصلاً لدينا رؤية لسودان جديد يتساوى فيه الجميع. وكل من يؤمن مثلنا بالسودان الجديد لن نتوانى عن التعاون معه. وفي سنة 1988 زار الميرغني العاصمة الأثيوبية أديس أبابا وتفاوض معنا وانتهى التفاوض الى توقيع إتفاقية السلام السودانية في 16 تشرين الأول نوفمبر 1988. لكن ذلك اللقاء يحتاج الى معرفة خلفيات سبقته. في 1986 كانت العقبة الأساسية في المشكلة السودانية تتمثل في قوانين أيلول سبتمبر التي فرضها الرئيس السابق جعفر نميري في 1983. وقد طالبنا في محادثات أجريناها مع مجموعات تمثل بقية السودانيين في بلدة كوكادام في أثيوبيا بإلغاء تلك القوانين في ما يعرف بإعلان كوكادام. ولم يكن الحزب الإتحادي الديموقراطي الذي يرأسه الميرغني ولا الجبهة الإسلامية القومية بزعامة الترابي طرفاً في تلك المحادثات تحسساً من مطالبتنا بألغاء قوانين الشريعة التي فرضها نميري. وبعد بضعة أشهر من تلك المحادثات إنتخب رئيس حزب الأمة رئيساً للوزراء، فذهبنا إلى حزب الأمة بصفته أحد أكبر الأطراف الشمالية الموقعة على إعلان كوكادام وطالبناه بتنفيذ ما دعا إليه الإعلان في شأن القوانين الإسلامية. فتعلل في البداية بأن من وقع على إعلان كوكادام لم يكن يملك تفويضاً للإقدام على تلك الخطوة. ولم يكن ذلك التبرير مقبولاً لأن من وقع نيابة عن حزب الأمة في كوكادام هو قطبه البارز السيد إدريس عبد الله البنا الذي رشحه حزب الأمة ليشغل منصب نائب رئيس مجلس رأس الدولة الذي حكم البلاد. فمن يكون مفوضاً عن الحزب إذا كان ممثله في رئاسة الدولة غير مخول التوقيع على إتفاق كوكادام؟ بعد ذلك تعلل بأن حليفه الرئيسي في الإئتلاف الحاكم، الحزب الإتحادي الديموقراطي، لم يشارك في مفاوضات كوكادام، وإذا أقدم حزب الأمة على تنفيذ إتفاق كوكادام فقد ينسحب الحزب الإتحادي من الحكومة مما قد يتسبب في إنهيارها. لذلك ذهبنا الى الإتحاديين وقلنا لهم إن أسباب عدم مشاركتكم في محادثات كوكادام أضحت في ذمة التاريخ، ولكننا نريد أن نعرف ما هو الشيء الذي لا تريدونه في إتفاق كوكادام. ودخلنا في حوار مع الإتحاديين، واقترحنا عليهم تجميد قوانين 1983 بدل إلغائها. وكان ذلك أساساً لإتفاق السلام الذي توصلنا إليه في 1988. منذ ذلك الوقت تربطنا علاقة طيبة وحميمة مع الميرغني والحزب الإتحادي الديموقراطي. وهي - كما ترى - علاقة لا تقوم على الأشخاص وإنما على المبادئ. ونحن الآن متفقون مع الإتحاديين على أن ما يحصل في الخرطوم تطورات مهمة فعلاً، ولكن هل الغرض من التفاوض مع الحكومة السودانية التوصل الى وفاق مع حكومة الجبهة؟ بل هو تفكيك نظام الحزب الواحد الذي أقامته الجبهة وإرساء دعائم سودان موحد جديد تتساوى فيه الأعراق والديانات. ما رأيك في الخلاف الحالي بين الترابي والبشير؟ وهل يمكنك أن تتفاوض مع الجبهة الإسلامية الحاكمة وهي بهذا الإنقسام؟ - الخلاف يدور أساساً حول السلطة. في النظام الأصولي الإسلامي يكون عادة الزعيم الديني هو الزعيم الإداري للسلطة غير الدينية. ولكن إنقلاب 1989 نشأ منذ البداية معلولاً، برأسين. وهي مشكلة كان واضحاً من البداية أنها ستتفاقم الى أن تبلغ طور الإنفجار الموجب للحسم. وأغلب ظني وتحليلي أن المشكلة تفجرت نتيجة لقاء جنيف بين الترابي والصادق المهدي في أيار مايو 1999. إذ توصلا الى إتفاق على أن يتخذ الترابي إجراءات في الداخل تتيح له الإستيلاء على السلطة في الحزب والدولة معاً. واتفقا على أن يقوم الصادق المهدي بإتخاذ ترتيبات في التجمع المعارض تتيح له إما الإستيلاء عليه أو إقناعه بالعودة الى الداخل ليجد نفسه بين فكي التحالف الجديد بينه وبين الترابي. هل يعني ذلك أن الإنتصار كتب للبشير على الترابي؟ - لم ينتصر البشير بعد، ولا يزال الصراع محتدماً . مشكلة الترابي تتمثل في أنه استخدم الجيش السوداني في الإستيلاء على السلطة سنة 1989، وهو يدرك جيداً أن الجيش السوداني ليس موالياً للجبهة الإسلامية. ولهذا عمد الترابي الى تدمير الجيش السوداني لينشئ على أنقاضه جيشاً "جبهجياً" خالصاً. ومنذ 1989 غالبية الطلبة الذين قبلوا في الكلية الحربية من كوادر الجبهة الإسلامية. وأضحى الجيش الحالي مكوناً من عناصر من الجبهة ومن عناصر قديمة يمكن أن توصف بالوطنية. وصار الجيش الحالي جيشين تقريباً. وهذا من التعقيدات التي نجمت عن الصيغة المعلولة التي ولدت أساساً في 1989. لهذا يحتدم الصراع. إذ إن الضباط الصغار من رتبة رائد فما دون يساندون الترابي أكثر من تأييدهم للبشير. أما من رتبة مقدم فما فوق فيساندون البشير، باعتباره أملهم الوحيد في التخلص من هيمنة الجبهة على السلطة. وهو ما خلق تعطيلاً لنشاط الجيش. أعتقد - إجمالاً - بأن الصراع بين جناحي حزب الجبهة الإسلامية الحاكمة سيستمر والكلمة الأخيرة فيه للجيش. ولهذا تتعدد السيناريوهات والإحتمالات. أنت الآن معلم مهم في مسيرة الأزمة السودانية. هل تحلم بيوم تصبح فيه رئيساً لجمهورية السودان؟ - المشكلة ليست من يحكم السودان، بل كيف يحكم؟ تحديد من يحكم السودان هو قرار بيد الشعب السوداني. وإذا تمكنا من إيجاد الظروف الملائمة لسيادة العدالة والمساواة في ما نسميه السودان الجديد فهذا هو الهدف الذي تقاتل من أجله الحركة الشعبية لتحرير السودان، وليس من أجل زعامة الدولة. هناك جنوبيون في الحكومة السودانية يتهمونك بأنك لا تريد للحرب أن تضع أوزارها لأنك صرت "أمير حرب"، وتأتت لك من ذلك مساكن وعقارات في نيروبي وهراري وبلدان أخرى، وأضحيت من أثرياء الحرب ... - يضحك ليس صحيحاً أن لي مساكن في نيروبي ولا هراري. وليست لي حسابات مصرفية في الخارج. أنت آتٍ من لندن وأتحداك أن تقتفي أثر حساب صاحبه هو جون قرنق. أين توجد منازل قرنق؟ الجنوبيون الذين يعملون مع الحكومة لا يختلفون عن أي مجموعة سودانية أخرى، ومرة أخرى أؤكد أننا حركة ليست جنوبية وإنما قومية سودانية. ولهذا قلنا إننا سنفعّل وجود الجيش الشعبي لتحريرالسودان في الخرطوم. هل يمكن في مرحلة مقبلة أن تطور حرب العصابات التي تقودها في شرق السودان وغربه لتتحول حرب مدن؟ - أليست الخرطوم جزءاً من السودان؟ وأليست ياي من مدن السودان؟ لماذا نهاجم ياي ونمتنع عن مهاجمة الخرطوم؟ لكنك لم تهاجم الخرطوم حتى الآن ! - هذه مسألة زمن. لكن ما يزعجني أن أذهان بعض الجماعات السودانية تركن الى أنه إذا هوجمت ياي فليست هناك مشكلة، أما إذا هوجمت الخرطوم فتلك مشكلة كبيرة. نحن حركة قومية ولن نستثني مكاناً في السودان . مظهرك العسكري الصارم يأتي على حساب مظهرك كسوداني بسيط يمارس الإهتمامات والهوايات التي يمارسها عامة السودانيين. أين تجد نفسك حين يهدأ ضجيج المعارك من حولك؟ - أستمع الى مطربين من النوير والدينكا، وعلى المستوى القومي السوداني أعتبر الفنان محمد وردي بطلاً يتجسد لي السودان من خلال صوته وأدائه. ولكن تردد أنك تقتل وحشة الأحراش والمعارك بالإستماع الى مطرب سوداني إسمه صلاح بن البادية ... - هذه دعاية كاذبة أطلقها المرحوم أروك طون أروك قائد جنوبي إنشق عن قرنق ولقي مصرعه في حادثة الطائرة التي أودت بالنائب الأول السابق للرئيس السوداني اللواء الزبير محمد صالح في شباط فبراير 1998. صحيح أنني إستمع الى بعض أغنيات صلاح بن البادية، ولكن فناني المفضل هو محمد وردي. على المستوى العائلي كثيرون لا يعرفون شيئاً عن حياتك الأسرية ... - أنا متزوج من زوجة واحدة - ريبيكا - التي ترافقني خلال زيارتي الحالية للقاهرة. ولنا ولدان وأربع بنات. ولدي الأكبر اسمه مابيور. سميته على اسم جدي، اسمه الكامل مابيور قرنق مابيور. وهو يبلغ الثالثة والعشرين من عمره. والثاني شول قرنق مابيور . البنات هن: غاك وأكوال ونانكويل والصغرى أتونق، وهي في الثالثة من عمرها