وصلت عملية السلام في الشرق الأوسط، بعد حوالي عشر سنوات على بدئها في مؤتمر مدريد، الى نقطة مفصلية حاسمة. فهذه العملية، التي تمرّ حالياً بمرحلة "معقدة جداً"، على حدّ تعبير وزير الخارجية السوري فاروق الشرع، أصبحت فعلاً على قاب قوسين أو أدنى من نهاياتها، أقله بالشكل الذي كانت عليه خلال الأعوام الماضية. ولن يعنى ذلك، بالضرورة، وصولها الى نجاح واضح أو الى فشل حاسم، بقدر ما أنه سيكون المؤشر على تغيير أسس هذه العملية، وتحويلها من المسارات والأهداف التي قامت عليها اصلاً. والسبب الرئيسي وراء هذا التحول الجذري، اذا ما حدث، سيكون الوضع الجديد الذي نشأ على مساري التفاوض السوري واللبناني خلال الأشهر الماضية، وتحديداً في أعقاب فشل قمة جنيف بين الرئيسين حافظ الأسد وبيل كلينتون في اعادة تحريك المفاوضات السورية - الاسرائيلية. وعلى رغم انه يظل من غير الممكن استبعاد حدوث ما يمكن ان يؤدي الى استئناف المفاوضات بين دمشق وتل أبيب خلال الأسابيع المقبلة، خصوصاً في ضوء استمرار المساعي التي تبذلها أطراف عربية ودولية، فإن ثمة قناعة عامة بأن تحقيق هذا الهدف اصبح، أمراً صعباً، وانه سيزداد صعوبة كلما اقترب موعد البدء بتنفيذ الانسحاب الاسرائيلي من جنوبلبنان، بل ان مصادر ديبلوماسية باتت تعرب صراحة عن اعتقادها بأن إعادة إحياء مسار المفاوضات السوري - الاسرائيلي ستكون، في حال حدوثها، "مفاجأة كبرى يتطلب تحقيقها معجزة لا يوجد هناك ما يشير الى امكان توافرها في المستقبل المنظور". ومع غياب المسار السوري، ولو موقتاً، عن جدول أولويات رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك، بعد مرحلة احتل فيها هذا المسار قمة تلك الأولويات، وفي ضوء تركيز باراك وحكومته على مسألة الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، مع ما يفترض ان تشكله هذه الخطوة، من وجهة النظر الاسرائيلية، على الأقل، من "إغلاق" للمسار اللبناني في عملية السلام، وبالتالي محاولة فكه عن المسار السوري، وهذا ما تحاول دمشق وبيروت مواجهته، فإنه لن يكون ممكناً تصّور استمرار عملية السلام بعد تموز يوليو المقبل بالشكل نفسه، أو على أساس الأهداف والأطر ذاتها، التي ميزتها في مراحلها السابقة. واذا ما أضيفت الى ذلك التوقعات الاسرائيلية بالتوصل الى اتفاق تسوية، أو أقله الى اتفاق على الإطار العام للتسوية النهائية على المسار الفلسطيني بحلول أيلول سبتمبر المقبل، كما هو مفترض، فإن العملية السلمية تكون انجزت، من هذا المنظور الاسرائيلي والأميركي الى حدّ ما الحيّز الرئيسي والأكثر أهمية من أغراضها، لتتحول الى مجرد مسعى ثنائي محدود الإطار والأهمية تقتصر غايته على "تسوية للنزاع الحدودي القائم بين سورية واسرائيل"، على اعتبار ان ذلك النزاع سيصبح، في تلك الحالة، "الجانب الوحيد المتبقي من الصراع العربي - الاسرائيلي". قد تكون هذه النظرة مغالية في تبسيطها للأمور، ومبالغة في تجاهلها للكثير من العوامل والثوابت الجوهرية المكونة للصراع العربي - الاسرائيلي، كما انها ربما لم تأخذ في الاعتبار الانعكاسات السلبية التي ستنشأ على الأرجح نتيجة الانسحاب الاسرائيلي الاحادي من لبنان بمعزل عن اتفاق سلام مع دمشق وبيروت، لكنها تظل قائمة لدى أوساط سياسية وعسكرية مؤثرة جداً في اسرائيل وداخل الإدارة الاميركية. أما الترجمة العربية لهذه النظرة فهي طبعاً أنها محاولة اسرائيلية اخرى لعزل سورية واستفرادها وتقليص الخيارات المتاحة لها، سواء في الصراع أم في التسوية. ولهذا لم يكن مستغرباً ان تتسارع أخيراً وتيرة الاتصالات والتحركات الديبلوماسية من أجل الحؤول دون وصول الأمور الى مأزق خطير يصعب الخروج منه أو التحكم بالعواقب التي قد تترتب عليه. وكانت الخطوة الأبرز على هذا الصعيد القمة التي جمعت الرئيسين حافظ الأسد وحسني مبارك، والتي سبقها الاجتماع الثلاثي الذي ضم في تدمر كلاً من وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، ووزير الخارجية المصري عمرو موسى، ووزير الخارجية السوري فاروق الشرع. وتقول أوساط ديبلوماسية تتابع حالياً سير هذه التحركات العربية انها تهدف في صورة رئيسية الى تحقيق غرضين أساسيين هما: 1- تعزيز الموقف التفاوض السوري، وإظهار التصميم العربي على إفشال أي محاولة ترمي الى الاستفراد بدمشق أو عزلها عن المسار العام الذي لا بد للعملية السلمية ان تستمر فيه حتى وصولها الى تحقيق هدفها الاصلي في احلال سلام عادل وشامل ودائم في المنطقة، والتأكيد في الوقت نفسه على ان اغلاق أي من المسارات التفاوضية لا يمكن ان يكون على حساب أي مسار آخر. 2- معالجة الاستحقاقات التي ستترتب، سياسياً وأمنياً وعسكرياً، على تنفيذ اسرائيل انسحابها الاحادي من الأراضي اللبنانية، والحؤول دون نجاح الدولة العبرية في تحويل هذه الخطوة الى مكسب استراتيجي لها على حساب كل من دمشق وبيروت، بما يتعارض مع الواقع أولاً، ومع المصلحتين السورية واللبنانية ثانياً، ومع المصلحة العربية العامة اجمالاً. واستطراداً فإن أهداف التحركات العربية تتركز على جانبين بارزين، هما: الأول، العمل على ايجاد الصيغ الكفيلة بإعادة العملية السلمية الى نصابها، من خلال تأمين استئناف المفاوضات على المسار السوري - الاسرائيلي، بمعزل عن قرار الانسحاب الاسرائيلي من لبنان وحيثيات تنفيذه. والثاني، توفير الظروف السياسية والأمنية الملائمة لتنفيذ الانسحاب الاسرائيلي من لبنان ضمن الحد الأدنى الممكن من الانعكاسات السلبية التي قد تنجم عن هذا القرار على صعيد الأوضاع اللبنانية الداخلية، أو في ما يختص بأي آثار أو امتدادات اقليمية قد تنشأ نتيجة لذلك على صعيد المواجهة بين سورية واسرائيل. ولا يخفي ديبلوماسيون عرب وأوربيون على اطلاع مباشر على سير الاتصالات تشاؤمهم الشديد حيال الاحتمالات التي قد ينطوي عليها الوضع المقبل على لبنان والمنطقة في أعقاب الانسحاب الاسرائيلي الأحادي، أو حتى خلال الفترة التي ستسبق هذا الانسحاب وأثناء تنفيذه. لكن الأهم من ذلك انهم يضعون المسؤولية في وصول الأمور الى هذا الحد من التأزم وبشكل أساسي، على ما بات يوصف ب"سوء التقدير الكامل الذي ميز المواقف الاميركية والاسرائيلية حيال السياسة السورية، والقراءة الخاطئة تماماً من جانب واشنطن وتل ابيب لموقف دمشق وأهدافها في المفاوضات". وحسبما بات معروفاً، برز ذلك خلال المحادثات التي اجراها الرئيسان الأسد وكلينتون في جنيف، حيث "قدم الجانب الاميركي نيابة عن الجانب الاسرائيلي"، حسب تعبير ديبلوماسي اوروبي غربي وثيق الأطلاع، "ورقة عمل تتضمن اقتراحات كان يفترض ان يكون من البديهي لأي شخص يعرف الرئيس السوري وسياساته ومواقفه على مرّ السنين انه لا يمكن ان يقبل بها في أي حال من الاحوال أو ظرف من الظروف". وما حدث في جنيف لم يكن في الواقع اكثر من مجرد تعبير آخر عن نمط متواصل في طريقة التعامل الخاطئة التي قاربت لها كل من اسرائيل والولايات المتحدة المسار السوري خلال الأشهر الماضية. ونتيجة لذلك تركزت الطروحات الاسرائيلية والاميركية على تقديم عكس ما كان الجانب السوري يرغب في سماعه تماماً. وما كان يفترض ان يشكل استعداد باراك المعلن لإبداء المرونة، تحول في الواقع الى عائق أساسي أمام امكانات تحقيق تقدم، اذ بدا الموقف الاسرائيلي مهتماً بتقديم "جوائز ومغريات" للجانب السوري في ما يختص بالترتيبات والضمانات الأمنية والعلاقات الطبيعية والاستثمار المشترك للمياه والتعاون في المجالات الاقتصادية وغير ذلك من أمور اعتبرها مهمة بالنسبة الى دمشق، في مقابل التصلب في موضوع الأرض والحدود والسيادة. وعبّر ذلك عن جهل، أو تجاهل، كبير لأسس الموقف السوري الذي كان على أتم الاستعداد لإبداء القدر الأقصى من المرونة في ما يتعلق بكل هذه المجالات، ما عدا موضوع الأرض والسيادة الذي كان واضحاً ان الرئيس الأسد سيظل متمسكاً به حتى النهاية، اي مطلبه الجوهري القاضي بانسحاب اسرائيل الكامل حتى خطوط الرابع من حزيران يونيو 1967، وعودة السيادة السورية على جميع الأراضي التي كانت تسيطر عليها آنذاك، وعلى هذا الاساس، قدمت اسرائيل وساندتها واشنطن الى حدّ بعيد تنازلات في مجالات لم يكن الجانب السوري مهتماً كثيراً بالتمسك بها، وتصلبت في النقطة المركزية، أي الأرض والحدود والسيادة، التي لم تكن تشكل أصلاً من وجهة نظر دمشق، موضعاً للمقايضة أو المساومة أو التفاوض. وفي مقابل هذا الخطأ الاسرائيلي والاميركي، تقرّ الأوساط الديبلوماسية العربية والأوروبية بأن طريقة التعامل التي ميزت الموقفين السوري واللبناني حيال قرار الانسحاب الاسرائيلي انطوت بدورها على ارباكات كان ممكناً تفاديها، لا سيما خلال المراحل الأولى التي اعقبت اعلان الدولة العبرية تصميمها على تنفيذ ذلك القرار رسمياً، وأثناء الفترة التي تلت فشل قمة جنيف مباشرة. فعوضاً عن التعامل مع هذه الخطوة باعتبارها "انتصاراً عربياً وهزيمة اسرائيلية تمثلت في الاضطرار الى الانسحاب من أرض عربية محتلة من دون قيد أو شرط للمرة الأولى في تاريخ الصراع في المنطقة"، ثم تصوير الأمور على عكس ما كان يفترض ان تكون عليه في الواقع. وساهم ذلك، على سبيل المثال، في اشاعة الانطباع بأن دمشق لا تريد انسحاب اسرائيل من الأراضي اللبنانية، مخافة ان يؤدي هذا الانسحاب الى خسارتها "ورقة" المقاومة اللبنانية التي كانت تضغط بواسطتها على الموقف الاسرائيلي، الى جانب الانطباع الآخر الذي كان مفاده ان ثمة ضغوطاً سورية تمارس على الحكومة اللبنانية لحملها على التعامل بسلبية مع الانسحاب الاسرائيلي ونتائجه المتوقعة. وبالطبع، فإن أحداً لا يمكن ان ينفي ان الانسحاب الاسرائيلي من الاراضي اللبنانية قد يقلص من قدرة دمشق على التأثير على سياسة تل ابيب ويؤدي الى اضعاف الموقف السوري في المفاوضات، ولو نسبياً وبأشكال غير مباشرة. كما ان تنفيذ هذا القرار يمكن ان يؤدي الى بروز ضغوط داخلية لبنانية تتعلق بالتواجد العسكري السوري واحتمالات استمراره هناك، الى جانب الاحتمال المماثل بظهور ضغوط دولية تتعلق بالدعوة الى تنفيذ القرار 520 القاضي بخروج جميع القوات الاجنبية من لبنان. من هنا، يصبح قلق دمشق وبيروت في ما يتعلق بخلفيات الانسحاب الاسرائيلي وأهدافه المعلنة وغير المعلنة في محلّه. لكن القلق العربي والدولي الذي يحيط بهذه المسألة يتجاوز ذلك الى الانعكاسات الاقليمية الأوسع، فهذا الموقف لا يرغب في رؤية الانسحاب الاسرائيلي وقد تحول الى مدخل لمواجهة جديدة تكون الحدود اللبنانية - الاسرائيلية مسرحاً لها، لتبدأ هذه المواجهة بعد ذلك في الاتساع والخروج عن نطاق السيطرة، سواء على صعيد الوضع اللبناني الداخلي عموماً، أو من خلال ما يمكن ان تجرّ اليه من احتمالات صدام مسلح بين سورية واسرائيل في وقت لا يمكن ان تكون فيه نتائج مثل هذا الصدام في مصلحة الجانب العربي نظراً الى الاختلال القائم في موازين القوى العسكرية والاستراتيجية على جميع المستويات الاقليمية والدولية. ومع ان الموقف العربي يدعم بشدة تحفظات دمشق وبيروت حيال الخطوة الاسرائيلية وأهدافها، وتمسك الجانبين اللبناني والسوري برفض لعب اي دور في حراسة الحدود الشمالية لاسرائيل، فإن الأوساط الديبلوماسية تتحدث عن "ألغام موقوتة" يمكن ان تثير توترات قد تؤدي الى تصعيد غير مرغوب فيه على تلك الحدود بالذات، أو على الساحة اللبنانية عموماً، اضافة الى الاحتمالات المقلقة التي قد تنطوي عليها بالنسبة الى عملية السلام على مساريها السوري والفلسطيني على حدّ سواء. وتتعلق هذه المسائل، بالغموض الذي يحيط حالياً بمصير ميليشيا "جيش لبنانالجنوبي" المتعاونة مع اسرائيل، وما اذا كانت ستستمر في الوجود والعمل بعد انسحاب القوات الاسرائيلية، مع ما قد يسفر عن ذلك من وضع متفجر في المناطق التي تنتشر فيها وحدات هذه الميليشيا بمحاذاة الحدود مع الدولة العبرية. كما أنها تتعلق، من جهة اخرى، بمستقبل "حزب الله" في لبنان وسلاح "المقاومة الاسلامية" التي تشكل ذراعه العسكري، ومدى "شرعية" هذا السلاح واستمراره في المنطقة، لا سيما اذا ما ثبت فعلاً ان الانسحاب الاسرائيلي تم في صورة كاملة وشاملة. أما التساؤل الحيوي الثالث، فيتعلق بالوجود الفلسطيني وتنظيماته المسلحة داخل المخيمات، واحتمالات خروج هذه التنظيمات من مخيماتها لممارسة ما قد تعتبره "حقاً مشروعاً" لها في استئناف عملياتها العسكرية ضد اسرائيل عبر الحدود اللبنانية خلال مرحلة ما بعد الانسحاب، والانعكاسات التي قد تنجم عن تطور كهذا على أكثر من صعيد داخلي واقليمي . لهذه الأسباب، وفي ضوء هذه التساؤلات المتعلقة، تستمر الجهود والمساعي العربية والدولية. وانطلاقاً منها صدر الموقف الذي اعتمدته أخيراً الدول العربية الثلاث في اجتماع وزراء خارجيتها في تدمر، واعربت فيه عن دعمها لقيام الاممالمتحدة بدورها، وتحمل مسؤولياتها السياسية والأمنية بموجب القرارين 425 و426، في المناطق اللبنانية التي ستنسحب اسرائيل منها، ومساعدة السلطات اللبنانية الشرعية على بسط سيطرتها على تلك المناطق وصولاً الى الحدود الدولية المعترف بها. لكن الأمر قد لا يكون بمثل هذه السهولة. كما ان جميع هذه الترتيبات قد لا تعدو كونها اجراءات مرحلية موقتة ربما تمكنت من المحافظة على الهدوء لفترة معينة، لكنها بالتأكيد لا يمكن ان تشكل أساساً سليماً لحل نهائي. فمثل هذا الحل لا يمكن ان يتم على الحدود اللبنانية بمعزل عن سورية، بل انه لا بد ان يتم، في اطار تسوية سلمية شاملة تقرر فيها اسرائيل الانسحاب الكامل والشامل من الجولان السوري المحتل، مثلما قررت الانسحاب من لبنان. وعلى ما يبدو فإن امكانات التوصل الى مثل هذه التسوية السلمية الشاملة أصبحت الآن ضئيلة الى حدّ بعيد، وهي تتضاءل أكثر فأكثر مع مرور الوقت واقتراب مواعيد الاستحقاقات السياسية والأمنية. ومع انه يظل ممكناً ترقب حصول "المفاجآت" المنشورة، أو التعلق بآمال حدوث "المعجزات" المفترضة، فإن التقويمات الواقعية لاحتمالات عودة الحياة الى مسار المفاوضات السوري - الاسرائيلي، والى عملية السلام بشكلها الأصلي وثوابتها وأهدافها الأساسية، لا تدل على قرب تحقيق ذلك، أقله في المستقبل المنظور. والظاهر الآن ان هذا الهدف سيظل معلقاً في انتظار ما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية المقبلة، وما قد تسفر عنه من ادارة جديدة تأخذ على عاتقها متابعة العملية السلمية مستقبلا