هذا مقطع من قصيدة طويلة بعنوان "جدارية" كتبها الشاعر محمود درويش في العام 1999 بعد تعرضه لنكسة صحية. والقصيدة ستنشر كاملة في كتاب يصدر قريباً عن شركة "رياض الريّس للكتب والنشر"، في بيروت. ويذكر ان الشاعر محمود درويش قرأ مقاطع من هذه القصيدة في قصر الاونيسكو - بيروت في 10/11/1999، خلال أمسية شعرية حاشدة غصت بآلاف الحضور، أحيتها "هيئة المعماريين العرب" في مؤتمرها الأول الذي جاء تحت عنوان "القدس الآن". هذا هُوَ اسمُكَ/ قالتِ امرأةٌ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أَرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي. ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أُخرى. ولم أَحلُمْ بأني كنتُ أَحلُمُ. كُلُّ شيء واقعيٌّ. كُنْتُ أَعلَمُ أَنني أُلْقي بنفسي جانباً… وأطيرُ. سوف أكونُ ما سأَصيرُ في الفَلَك الأَخيرِ. وكُلُّ شيء أَبيضُ، البحرُ المُعَلَّقُ فوق سقف غمامةٍ بيضاءَ. واللاَّ شيء ابيضُ في سماء المُطْلَق البيضاءِ. كُنْتُ، ولم أَكُنْ. فأنا وحيدٌ في نواحي هذه الأَبديَّة البيضاء. جئتُ قُبَيْل ميعادي فلم يَظْهَرْ ملاكٌ واحدٌ ليقول لي: "ماذا فعلتَ، هناك، في الدنيا؟" ولم أسمع هُتَافَ الطيّبينَ، ولا أَنينَ الخاطئينَ، أَنا وحيدٌ في البياض، أَنا وحيدُ… لا شيء يُوجِعُني على باب القيامةِ. لا الزمانُ ولا العواطفُ. لا أُحِسُّ بخفَّةِ الأشياء أَو ثِقَلِ الهواجس. لم أَجد أَحداً لأسأل: أَين "أيْني" الآن؟ أَين مدينةُ الموتى، وأَين أَنا؟ فلا عَدَمٌٌ هنا في اللا هنا… في اللا زمان، ولا وُجُودُ وكأنني قد متُّ قبل الآن… أَعرفُ هذه الرؤيا، وأَعرفُ أَنني أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ. رُبَّما ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأَعرفُ ما أُريدُ… سأصيرُ يوماً ما أُريدُ سأَصير يوماً فكرةً. لا سَيْفَ يحملُها إلى الأرضِ اليبابِ، ولا كتابَ… كأنَّها مَطَرٌ على جَبَلٍ تَصَدَّعَ من تَفَتُّح عُشْبَةٍ، لا القُوَّةُ انتصرتْ ولا العَدْلُ الشريدُ سأَصير يوماً ما أُريدُ سأصير يوماً طائراً، وأَسُلُّ من عَدَمي وجودي. كُلَّما احتَرقَ الجناحانِ اقتربتُ من الحقيقةِ، وانبعثتُ من الرمادِ. أَنا حوارُ الحالمين، عَزَفْتُ عن جَسَدي وعن نفسي لأُكْمِلَ رحلتي الأولى إلى المعنى، فأَحْرَقَني وغاب. أَنا الغيابُ. أَنا السماويُّ الطريدُ. سأصير يوماً ما أُريدُ سأصيرُ يوماً شاعراً، والماءُ رَهْنُ بصيرتي. لُغتي مجازٌ للمجاز، فلا أَقولُ ولا أشيرُ إلى مكانٍ. فالمكان خطيئتي وذريعتي. أَنا من هناك. "هُنا"يَ يقفزُ من خُطَايَ إلى مُخَيَّلتي… أَنا من كُنْتُ أَو سأكونُ يَصْنَعُني ويَصْرعُني الفضاءُ اللانهائيُّ المديدُ. سأَصير يوماً ما أُريدُ سأَصيرُ يوماً كرمةً، فَلْيَعْتَصِرني الصيفُ منذ الآن، وليشربْ نبيذي العابرون على ثُرَيَّات المكان السُكَّريِّ! أَنا الرسالةُ والرسولُ أَنا العناوينُ الصغيرةُ والبريدُ سأَصير يوماً ما أُريدُ هذا هُوَ اسمُكَ/ قالتِ امرأةٌ، وغابتْ في مَمَرِّ بياضها. هذا هُوَ اسمُكَ، فاحفظِ اسْمَكَ جَيِّداً! لا تختلفْ مَعَهُ على حَرْفِ ولا تَعْبَأْ براياتِ القبائلِ، كُنْ صديقاً لاسمك الأفُقُيِّ جَرِّبْهُ مع الأحياء والموتى ودَرِّبْهُ على النُطْق الصحيح برفقة الغرباء واكتُبْهُ على إحدى صُخُور الكهف، يا اسمي: سوف تكبَرُ حين أَكبَرُ سوف تحمِلُني وأَحملُكَ الغريبُ أَخو الغريب سنأخُذُ الأنثى بحرف العِلَّة المنذور للنايات يا اسمي: أين نحن الآن؟ قل: ما الآن، ما الغَدُ؟ ما الزمانُ وما المكانُ وما القديمُ وما الجديدُ؟ سنكون يوماً ما نريدُ لا الرحلةُ ابتدأتْ، ولا الدربُ انتهى لم يَبْلُغِ الحكماءُ غربتَهُمْ كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ ولم نعرف من الأزهار غيرَ شقائقِ النعمانِ، فلنذهب إلى أَعلى الجداريات: أَرضُ قصيدتي خضراءُ، عاليةٌ، كلامُ الله عند الفجر أَرضُ قصيدتي وأَنا البعيدُ أَنا البعيدُ في كُلِّ ريحٍ تَعْبَثُ امرأةٌ بشاعرها - خُذِ الجهةَ التي أَهديتني الجهةَ التي انكَسَرتْ، وهاتِ أُنوثتي، لم يَبْقَ لي إلاّ التَأمُّلُ في تجاعيد البُحَيْرَة. خُذْ غدي عنِّي وهاتِ الأمس، واتركنا معاً لا شيءَ، بعدَكَ، سوف يرحَلُ أَو يَعُودُ - وخُذي القصيدةَ إن أَردتِ فليس لي فيهاسواكِ خُذي "أَنا" كِ. سأُكْملُ المنفى بما تركَتْ يداكِ من الرسائل لليمامِ. فأيُّنا منا "أَنا" لأكون آخرَها؟ ستسقطُ نجمةٌ بين الكتابة والكلام وتَنْشُرُ الذكرى خواطرها: وُلِدْنا في زمان السيف والمزمار بين التين والصُبَّار. كان الموتُ أَبطأَ. كان أَوْضَح. كان هُدْنَةَ عابرين على مَصَبِّ النهر. أَما الآن، فالزرُّ الإلكترونيُّ يعمل وَحْدَهُ. لا قاتلٌ يُصْغي إلى قتلى. ولا يتلو وصيَّتَهُ شهيدُ من أَيِّ ريح جئتِ؟ قولي ما اسمُ جُرْحِكِ أَعرفُ الطُرُقَ التي سنضيع فيها مَرّتيْنِ! وكُلُّ نَبْضٍ فيكِ يوُجعُني، ويُرْجِعُني إلى زَمَنٍ خرافيّ.ويوجعني دمي تُطِلُّ عليَّ" من بطحاء هاويتي… غريبٌ أَنتَ في معناك. يكفي أَن تكون هناك، وحدك، كي تصيرَ قبيلةً… غَنَّيْتُ كي أَزِنَ المدى المهدُورَ في وَجَع الحمامةِ، لا لأَشْرَحَ ما يقولُ اللهُ للإنسان، لَسْتُ أَنا النبيَّ لأَدَّعي وَحْياً وأُعْلِنَ أَنَّ هاويتي صُعُودُ وأَنا الغريب بكُلِّ ما أُوتيتُ من لُغَتي. ولو أخضعتُ عاطفتي بحرف الضاد، تخضعني بحرف الياء عاطفتي، وللكلمات وَهْيَ بعيدةٌ أَرضٌ تُجاوِرُ كوكباً أَعلى. وللكلمات وَهْيَ قريبةٌ منفى. ولا يكفي الكتابُ لكي أَقول: وجدتُ نفسي حاضراً مِلْءَ الغياب. وكُلَّما فَتَّشْتُ عن نفسي وجدتُ الآخرين. وكُلَّما فتَّشْتُ عَنْهُمْ لم أَجد فيهم سوى نَفسي الغريبةِ، هل أَنا الفَرْدُ الحُشُودُ؟ وأَنا الغريبُ. تَعِبْتُ من"درب الحليب" إلى الحبيب. تعبتُ من صِفَتي. يَضيقُ الشَّكْلُ. يَتّسعُ الكلامُ. أَفيضُ عن حاجات مفردتي. وأَنْظُرُ نحو نفسي في المرايا: هل أَنا هُوَ؟ هَل أُؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل الأخيرِ؟ وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض، أَم فُرِضَتْ عليَّ؟ وهل أَنا هُوَ من يؤدِّي الدَّوْرَ أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها لتعيش ما بعد الحداثة، بعدما انْحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهودُ؟ وجلستُ خلف الباب أَنظُرُ: هل أَنا هُوَ؟ هذه لُغَتي. وهذا الصوت وَخْزُ دمي ولكن المؤلِّف آخَرٌ… أَنا لستُ مني إن أَتيتُ ولم أَصِلْ أَنا لستُ منِّي إن نَطَقْتُ ولم أَقُلْ أَنا مَنْ تَقُولُ له الحُروفُ الغامضاتُ: اكتُبْ تَكُنْ! واقرأْ تَجِدْ! وإذا أردْتَ القَوْلَ فافعلْ، يَتَّحِدْ ضدَّاكُ في المعنى… وباطِنُكَ الشفيفُ هُوَ القصيدُ بَحّارَةٌ حولي، ولا ميناء أَفرغني الهباءُ من الإشارةِ والعبارةِ، لم أَجد وقتاً لأعرف أَين مَنْزِلَتي، الهُنَيْهةَ، بين مَنْزِلَتَيْنِ. لم أَسأل سؤالي، بعد، عن غَبَش التشابُهِ بين بابَيْنِ: الخروج أم الدخول… ولم أَجِدْ موتاً لأقْتَنِصَ الحياةَ. ولم أَجِدْ صوتاً لأَصرخَ: أَيُّها الزَمَنُ السريعُ! خَطَفْتَني مما تقولُ لي الحروفُ الغامضاتُ: الواقعيُّ هو الخياليُّ الأَكيدُ يا أيها الزَمَنُ الذي لم ينتظِرْ… لم يَنْتَظِرْ أَحداً تأخَّر عن ولادتِهِ، دَعِ الماضي جديداً، فَهْوَ ذكراكَ الوحيدةُ بيننا، أيَّامَ كنا أَصدقاءك، لا ضحايا مركباتك. واتُركِ الماضي كما هُوَ، لا يُقَادُ ولا يَقُودُ ورأيتُ ما يتذكَّرُ الموتى وما ينسون… هُمْ لا يكبرون ويقرأون الوَقْتَ في ساعات أيديهمْ. وَهُمْ لا يشعرون بموتنا أَبداً ولا بحياتِهمْ. لا شيءَ ممَّا كُنْتُ أو سأكونُ. تنحلُّ الضمائرُ كُلُّها. "هو" في "أنا" في "أَنت". لا كُلٌّ ولا جُزْءٌ. ولا حيٌّ يقول لميِّتٍ: كُنِّي! ..وتنحلُّ العناصرُ والمشاعرُ. لا أَرى جَسَدي هُنَاكَ، ولا أُحسُّ بعنفوان الموت، أَو بحياتيَ الأُولى. كأنِّي لَسْتُ منّي. مَنْ أَنا؟ أَأَنا الفقيدُ أَم الوليدُ؟ ألوقْتُ صِفْرٌ. لم أُفكِّر بالولادة حين طار الموتُ بي نحو السديم، فلم أكُن حَيّاً ولا مَيْتاً، ولا عَدَمٌ هناك، ولا وُجُودُ.