عاشت بيروت يوماً عربياً كانت تحتاج إليه، وهو يوم تميز بكل ما يتميز به الوضع العربي هذه الأيام. لقد كان التضامن حاضراً بمجرد الحضور وعلى مستوى رفيع، واستمر في الصيغة النهائية للبيان الختامي. وكذلك كانت التمايزات موجودة ومعها الحساسيات المتنوعة. ولعل الجديد هو أن الميل إلى التضامن غلب الميل إلى اظهار الخلافات، وهو الأمر الذي لاحظه المندوب الفلسطيني فاروق القدومي أبواللطف فخاطب رئيس الجلسة، وزير خارجية عمان، بلهجة مزجت الجد بالمزاح، معاتباً اياه على تأخير كلمة فلسطين، ومسجلاً بعبارات تأييد، الأولوية المعطاة لدعم لبنان. تعرّض المؤتمر بين نقطة الانطلاق ونقطة الوصول إلى ضغط من جهتين. فحين تقرر نقله إلى بيروت كان الجو في المنطقة ملبداً بغيوم داكنة. فإسرائيل توالي التصعيد والاعتداء، ويهدد وزير خارجيتها ديفيد ليفي بإحراق كل ما تطاله يداه. ويعطل ايهود باراك اجتماعات لجنة مراقبة "تفاهم نيسان"، وتتعثر المفاوضات مع سورية، ويدخل المسار الفلسطيني في نفق مظلم، ويتم تجاهل ردود الفعل العربية، وتقدم مادلين أولبرايت ثم ليونيل جوسبان تغطية للتطرف الإسرائيلي. ويقترع الكنيست على قانون الجولان في قراءة أولى... الخ. أمام هذا التدهور الذي يمكنه ان يقود إلى انفلات الوضع من أي ضابط كان لا بد من توجيه رسالة إلى باراك فحواها "لست وحدك". وكان من الطبيعي أن تكون قوى الاعتدال العربي هي المهتمة أساساً بهذه الرسالة حتى لا يحرجها الجموح الإسرائيلي أمام رأي عام شرع يتساءل عما يجري. غير أن الساحة لم تكن خالية للإسرائيليين. فلقد بادر المحور السوري - اللبناني إلى القيام بهجوم مضاد تمحود حول الآتي: أولاً - ربط استئناف المفاوضات على المسار السوري بإقرار جدي وواضح من الجانب الإسرائيلي بالوديعة الرابينية، وبأن المدخل إلى سائر العناوين الأخرى هو البدء بترسيم الحدود. ثانياً - التمييز بين الموقف الذي أعلنته حكومة إسرائيل في شأن لبنان وبين القرار 425. ويقود ذلك إلى الترحيب بالانسحاب واعتباره انتصاراً للمقاومة وإلى رفض الانجرار إلى ترتيبات أمنية أو مفاوضات من أي شكل كان. ثالثاً - التمسك بلجنة "تفاهم نيسان" والدعوة إلى استئناف اجتماعاتها في ظل رفض أي تعديل على قواعد عملها. رابعاً - رفض تحمل أي مسؤولية عما يحصل بعد انسحاب من طرف واحد. وجرى في هذا السياق التركيز على خصوصية الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان واحتمال تحوله إلى وجود متفجر في حال بدا ان مشكلة اللاجئين لن تعرف حلاً. ويقول وزير لبناني ل"الوسط" إن هذا الموقف اسيء تفسيره. ويضرب مثلاً على ذلك ما جرى عندما دمرت إسرائيل الاسطول الجوي المدني اللبناني، رداً على عملية فدائية في مطار... اثينا. خامساً - التمسك بتلازم المسارين في إطار البحث عن تسوية شاملة لأزمة الشرق الأوسط. لقد عقد الاجتماع العربي في بيروت في ظل هذه الأجواء والتي يمكن تلخيصها بغلبة التفاؤل في شرم الشيخ وغلبة الارتياب في بيروت. ولعل مصر هي الأكثر تعبيراً عن تعايش هذين المناخين وذلك بحكم مسؤوليتها العامة ودفعها لنقل الاجتماع إلى بيروت، وكذلك رعايتها للمسار الفلسطيني. ولقد كانت البصمات المصرية واضحة على المجرى العام للقاءات في العاصمة اللبنانية. لقد أصرت القاهرة على أن يكون البيان الختامي داعماً للبنان بقوة وأن يكون المدخل إلى ذلك تبني ورقة العمل التي قدمتها بيروت. وعلم ان وفوداً عقدت اجتماعاً جانبياً توافقت فيه على المطالبة ب"تخفيف اللهجة"، فتولى عمرو موسى الرد عليها، داعياً إلى ابقاء الأمور على حالها ومع تعديلات بسيطة. وفي السياق نفسه كان واضحاً ان مصر، وغيرها، لعبت دوراً في ألا يأتي البيان بمثابة تسكير لنافذة الفرص المفتوحة أمام التسوية وإحراج لدول عربية لا تملك التراجع عما اتخذته من خطوات في مجال تطبيع العلاقة مع إسرائيل. ونجح عمرو موسى في استبدال عبارة "دعوة الدول العربية إلى الامتناع عن المشاركة في المفاوضات المتعددة" بعبارة تتحدث عن "إعادة النظر". ولعل هذا هو التعديل الأبرز الذي تعرضت له ورقة العمل اللبنانية. ولوحظ ان البيان الختامي الذي تبنى مجمل المطالب اللبنانية، امتنع عن ايراد فقرة خاصة بدعم المقاومة، وفضّل ادراج ذلك في بند يركز على الموقف اللبناني الرسمي. لا يجوز ل"اجماع" البيان المذكور ان يغطي على تمايزات فعلية ظهرت في خطابات المندوبين. وتركز ذلك على السلوك الواجب اتباعه في حال تطورت الأمور إلى انسحاب إسرائيلي أحادي من دون اتفاق. وعبّر الوزير موسى بوضوح عن ان بلاده تعتبر هذه النتيجة انجازاً للمقاومة ولبنان لا يجوز معها استمرار أي عمل مسلح عبّر الحدود، خصوصاً إذا كان الانكفاء الاسرائيلي تطبيقاً للقرار 425. وعبر المسؤولون اللبنانيون المدعومون من سورية عن موقف مختلف بعض الشيء يبدأ بالتشكيك بالنيات الإسرائيلية ليحيط سلوك ما بعد الانسحاب بغموض مفتوح على امكانية التسامح مع أي مسعى فلسطيني لطرح قضية حق العودة بالقوة. وعكست هذه التمايزات نفسها في البيان الختامي نفسه عبر تسوية "لفظية" لا تخلو من براعة. فالبيان قال في معرض دفاعه عن المقاومة إنها نتيجة للاحتلال وليست سبباً له. فهل يعني ذلك ان انتفاء السبب يجعل النتيجة لاغية حكماً؟ وكذلك تقصد البيان ان يشير إلى ان عدم حل قضية اللاجئين هو، عملياً، قنبلة موقوتة ضد لبنان. وهكذا حصلت بيروت على ما تريد لجهة التشديد على تبني موقفها من موضوع اللاجئين، ولكنها لم تحصل على ما اوحت انها تريده لجهة احتضان حق الفلسطينيين في العمل المسلح في حال تطورت الأمور لمصلحة تنفيذ "حل إسرائيلي" لهذه القضية. لقد حصل لبنان، بمجرد انعقاد المؤتمر، على دعم معنوي وسياسي مؤكد، غير ان التجارب السابقة تدفع المؤمن إلى ألا يلدغ من جحر مرات متكررة. ولذا فإن جواً من الشك أحاط بإمكانية تقديم دعم مادي، كما بامكانية ان تتم فوراً "إعادة النظر" بالعلاقات مع إسرائيل. غير أن الحصيلة العامة للاجتماع، كما لخصها مسؤول في الجامعة العربية، هي "ان هذا هو أفضل الممكن في الوضع العربي الراهن". كانت هذه الظروف المحيطة بنقطة الانطلاق، والواضح ان باراك تحرك بسرعة من أجل ألا تحيط العناصر نفسها بنقطة الوصول. قرر، متأخراً، الاعتراف بأن اسلافه قدموا "الوديعة" الشهيرة إلى الأميركيين في ما يخص الاستعداد لترسيم الحدود انطلاقاً من خطوط 4 حزيران يونيو. ودفع حكومته بعد اجتماعين "ماراثونيين" إلى اتخاذ القرار بتثبيت موعد تموز يوليو للخروج من لبنان باتفاق، وهذا أفضل، أو من دون اتفاق. وقدم تنازلات من أجل إعادة تحريك عجلة التفاوض مع الفلسطينيين، فاعطاهم حق النظر الجزئي في تعيين مساحة ال1.6 في المئة من الأرض المنتقلة إلى المنطقة أ، وأوصى باستعداد للانسحاب، حسب المرحلة الثالثة، بما يتجاوز الواحد في المئة، ووعد باجراءات لبناء الثقة اطلاق أسرى، التعجيل في فتح الممر الشمالي، تحويل العائدات الجمركية إلى السلطة.... ولعل الأهم من ذلك كله انه تجاوب مع مسعى أميركي - مصري ووافق على انتقال مفاوضات المسار الفلسطيني إلى واشنطن، الأمر الذي يعني تدخلاً أميركياً كان يرفضه في السابق. وإذا كان فعل ذلك لأسباب عدة، فلا شك ان اكتشاف "خلية الطيبة" لعب دوراً في دفعه إلى هذا الاتجاه باعتبار ان إسرائيل عاشت حال رعب كان يمكن ان تتحول جزئياً ضده نتيجة مسؤوليته عن الجمود. والمعروف أنه لم يكن مستعداً لأمر من هذا النوع في ظل ازدياد متاعبه الداخلية. وتصاحبت هذه الخطوات الرسمية مع تكثيف التسريبات الإعلامية حول اقتراب موعد استئناف المفاوضات مع دمشق التي اريد لها ان تشكل قنبلة دخانية تدفع أي لقاء عربي إلى تخفيف اللهجة كثيراً، وربما ابداء تفاؤل مبالغ فيه بالنيات السلمية لباراك