بعد 22 سنة من الاحتلال، وسنة من "وعد" ايهود باراك، و13 ساعة من المناقشات، اتخذ 23 وزيراً إسرائيلياً قراراً بالانسحاب من لبنان بحلول 7 تموز يوليو من العام 2000، وذلك قبل 6 أيام من اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت. وتطرح هذه الخطوة مجموعة من الأسئلة التي قد تتبلور أجوبة عنها في الأيام والأسابيع المقبلة. أولاً، ما هي طبيعة القرار الإسرائيلي؟ حسمت تل أبيب أمرها وقررت انتشار وليس انسحاب جيشها على الحدود الدولية؟ مع لبنان. وهي تفضل أن يحصل ذلك باتفاق. وأوضح باراك، لاحقاً، أنه في حزيران يونيو، وإذا تبين ان لا اتفاق في الأفق تجتمع الحكومة ثانية للبحث في كيفية الانتشار وليس في المبدأ. ثانياً، لماذا اتخذت الحكومة الإسرائيلية هذا القرار، وما المواقف في داخلها؟ لا شك ان ضغط المقاومة حاضر في خلفية القرار 547 قتيلاً إسرائيلياً منذ 1982 حسب احصاء "الأمهات الأربع" الذي يشبه، إلى حد ما، خطوات مماثلة سابقة. لقد باتت كلفة الاحتلال المذكورة أعلى من كلفة الخروج المحتملة. وتراجعت الجدوى الأمنية للشريط الحدودي. إلى ذلك، فإن باراك معني بأن يلتزم موعداً محدداً يلقى هوى شعبياً وهو محمي عن يمينه بعد موافقة الحكومة السابقة على التنفيذ المشروط على قرار مجلس الأمن الرقم 425. ومع أنه عبّر، ومع غيره من المسؤولين، عن مخاوف ما بعد الانتشار، فإن ضغط الروزنانة عليه دفعه إلى التعجيل في اعلان الموقف. وشكلت اجتماعات الحكومة، على مرحلتين، مناسبة لعرض آراء الوزراء. فوزير البنية التحتية ايلي سويا شاس يعارض اتفاقاً مع سورية، لأنه سيكون "بارداً" كما الحال مع مصر، وأيده وزير الصحة شلومو بن ازري. ورد باراك وديفيد ليفي بالقول إن السلام مع مصر له مغزى استراتيجي وليس المطلوب البحث عن "قصة حب". وأيدهما وزير النقل اسحق موردخاي في هذه الوجهة. أما وزير السياحة امنون شاحاك فشكّك بإمكان التوصل إلى اتفاق مع دمشق في ظل اشتراط الانسحاب الكامل ولم يوافقه وزير العدل يوسي بيلين على ذلك، معتبراً ان إسرائيل أمام "فرصة نادرة" لسلام شامل. ثالثاً، ما معنى الاجماع في اتخاذ القرار؟ يجب القول إن الاجماع نادر في اقتراعات الحكومات الإسرائيلية، وان هذه هي المرة الأولى التي يحصل فيها، في عهد باراك، وأمام قضية حساسة. ويدل استعراض المواقف السابقة على وجود تمايزات. فهناك وزراء يطالبون بتسريع الانسحاب وعدم ربطه باتفاق، وهناك من يؤيد موقف باراك. ولقد كان الاجماع ممكناً، لأن الصيغة المعتمدة مفتوحة على الاحتمالين. ويستند هذا الاجماع إلى آخر أبعد عمقاً. فالمعارضة اليمينية تطالب هي الأخرى بخروج سريع. ولكنها تفعل ذلك على لسان مهندس غزو لبنان ارييل شارون، مصحوباً بشرطين: الأول، هو اشتراط عدم الاتفاق مع سورية على الجولان، والثاني الاعلان المسبق عن "لائحة ردعية" يمكن اللجوء إليها في حال استمرت العمليات بعد الخروج. لقد كان لافتاً ان الأصوات الانتقادية الوحيدة هي التي تساءلت عن سبب التأخير في اتخاذ القرار. وذهب الوزير اسحق كوهين إلى المطالبة بالبراءة اللاحقة للضابط ايلي غيفا الذي رفض الخدمة في لبنان عام 1982. رابعاً، ما صلة هذا القرار بالمفاوضات مع سورية؟ لقد خيّم هذا السؤال على مناقشات الحكومة الإسرائيلية، وهو مطروح بقوة في لبنان نفسه. وإذا كان هناك من اعتبر ان الإعلان يفيد ان الاتفاق مع دمشق بات جاهزاً، فإن رأياً مخالفاً برز. فصحيح ان المفاوضات مع سورية مستمرة بواسطة الأميركيين، وليس هناك ما يمنع ان تكون متقدمة. ولكن التوجه إلى الانسحاب من لبنان هو، في الحقيقة، رسالة ضغط أكثر منه رسالة ايجابية. لقد أرفقه الإسرائيليون بإصرار على رفض الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران يونيو. غير ان الضغط ليس حاسماً ولا يقطع الطريق أمام الجهد الأميركي. فما أعلنته الحكومة الإسرائيلية يفضل الانتشار باتفاق ويعني ذلك أنه يعطي لهذا الجهد فرصة يمكن التقرير بعدها. ويمكن القول، بلا خوف من المجازفة، إنه لو كان الاتفاق مع سورية ناجزاً، وانه لو كانت إسرائيل حسمت أمرها بالانسحاب الكامل من الجولان، لكانت المفاوضات مع دمشق استؤنفت وتقدمت على قرار الخروج الغامض من لبنان. ومع ذلك، يمكن القول بأن قنوات الاتصال لم تنقطع بين دمشق وواشنطن، وبين العاصمة الأميركية وتل أبيب. غير أن المعلومات المتوافرة تسمح بالتأكيد أن الاتفاق ليس منتهياً. فالخلافات ما زالت قائمة حول أمرين على أقل تقدير. أولاً، لم تغادر إسرائيل موقفها القائل بأن الحدود النهائية مع سورية هي في مكان ما بين حدود 1923 وخطوط 4 حزيران، مع ما يعنيه ذلك من أرجحية لها في ما يخص توزيع حصص المياه. ثانياً، لم يتم التوصل إلى تفاهمات راسخة في ما يخص مرحلة ما بعد الانسحاب المحتمل. ويتضمن ذلك بقايا خلاف حول إدارة محطة الانذار، وحول الصلة بين خطوات الانسحاب وخطوات السلام، وحول عمق الترتيبات الأمنية على جانبي الحدود. إن القرار الإسرائيلي بخصوص لبنان ليس قطعاً للمفاوضات مع سورية، ولا هو تعبير عن وصولها إلى نهايتها. إنه في مرحلة وسط. أي أنه "الطلقة الأخيرة" لدى إسرائيل من أجل تغليب التسوية لمصلحتها في ربع الساعة الأخيرة. فباراك يدرك، بتأكيد هذا الالتزام، انه يرمي بأوراقه الأخيرة على الطاولة، فإما ان يتراجع الموقف السوري بعض الشيء وإما يصبح باب الاحتمالات مفتوحاً. خامساً، ما الموقف اللبناني الرسمي؟ لا يسع لبنان الرسمي والشعبي إلا الترحيب بأي انسحاب إسرائيلي، ولقد كان رئيس الوزراء سليم الحص واضحاً في ذلك. غير أن بيروت، أيضاً، تفضل انسحاباً باتفاق وذلك في سياق ادراكها لايجابيات التلازم مع المسار السوري. غير أن هذا التفضيل سيتعرض إلى امتحان إذا ما انتهى الأمر بانكفاء أحادي الجانب. والرد على هذا الامتحان يكون بعدم الدخول في أي مفاوضات ثنائية، وبإبقاء قدر من الغموض يحيط بالموقف اللاحق، وبالتذكير بالمشاكل المتبقية بين لبنان وإسرائيل: القرى السبع، المياه، التعويضات، خصوصاً بقضية حق الشعب الفلسطيني في العودة. سادساً، ما موقف المقاومة؟ المعروف ان "حزب الله" يرفض الإجابة عما سيكون عليه سلوكه في حال أقدمت إسرائيل على انسحاب من لبنان، باتفاق أو من دون اتفاق. وهو يعتبر أن هذا الرفض ورقة تفاوضية مهمة. والذين يقابلون الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله يعرفون أنه بات يملك كل الأجوبة على كل الأسئلة المحتملة حول السلوك بعد الانسحاب. وتتقاطع هذه الاجوبة عند ما يسميه الإسرائيليون "الغموض غير البناء". فهو يؤكد من جهة أن الانسحاب انتصار للمقاومة من غير أن يحسم في ما إذا كانت ستستمر بعده. ويكرر، باستمرار، ان حزبه لن يلعب أي دور أمني في المناطق الذي تجلو عنها إسرائيل. ولوحظ في ندوة أخيرة عقدها مركز الدراسات السياسية اللبنانية في بيروت، ان المسؤول الأميركي السابق ادوارد دجيرجيان اعتبر موقف نصرالله الخاص بالتأكيد على الدور الأمني للجيش اللبناني، بمثابة اعلان عن انتهاء عمل المقاومة بعد الجلاء. غير أنه وجد من أوضح له ان هذا هو الوضع القائم الآن وهو لا يعني بأي حال انتفاء العمل المسلح. سابعاً، ما هو مصير لجنة المراقبة لتفاهم نيسان؟ إن هذه اللجنة لم تمت بدليل أن إسرائيل ترفع إليها الشكاوى. ولكن ذلك لا يعني أنها ستجتمع فور طلب لبنان ذلك. لقد قام رئيسها بالتناوب بجولة شملت سورية ولبنان وإسرائيل، ولم يطرح في خلال اللقاءات مطالب واضحة بتعديل قواعد اللعبة. غير أن طلباً من هذا النوع تم تسريبه عبر زوار وفدوا إلى العاصمة اللبنانية في الأيام الأخيرة. وتركز الطلب على اقتراح هدنة غير معلنة لمدة شهور تقوم خلالها إسرائيل بالانسحاب. والمعروف ان المسؤولين اللبنانيين رفضوا التعهد بذلك، معتبرين ان قرار الحكومة الإسرائيلية يتضمن احتمال ان يكون مناورة. ومما يؤكد هذا الطلب ما قاله وزير الخارجية المصري عمرو موسى في مقابلة تلفزيونية. فلقد ذكر ان مستشار باراك داني ياتوم زاره في مصر ليطالبه بنقل رسالة إلى لبنان فحواها ان الهدنة مرغوب فيها لتسهيل الانسحاب. وكان جواب موسى ان لجنة المراقبة هي الإطار المناسب لاقتراح هذه الفكرة. قد تجتمع اللجنة في أي وقت كان. وسيكون مهماً مراقبة السلوك الإسرائيلي فيها، إذ أن باراك عند قصف المنشآت الكهربائية، أعلن موتها ثم تراجع عن ذلك. وليس مستبعداً ان يحاول الإسرائيليون تحويلها من إطار للتحكيم في الشكاوى المقدمة إليها حول خرق قواعد اطلاق النار، إلى إطار للمطالبة بوقف النار أصلاً مع ما في ذلك من خرق للتفاهم الذي ينظم القتال ولا يطالب بإنهائه. ثامناً، أي ضوء تلقيه التطورات الأخيرة على المواقف الأوروبية؟ لقد فوجئ اللبنانيون والعرب بالمواقف التي اتخذها كل من رئيس الوزراء الايطالي ماسيمو داليما ووزير الخارجية البريطاني روبن كوك ورئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان، ونقل عن رئيس الوزراء اللبناني سليم الحص أنه خاض نقاشاً مستفيضاً مع الايطالي، وانه نجح في جعله يعدل موقفه. ولكن ينقل أيضاً ان داليما أبلغ الحص ان ما يقوله هو موقف أوروبي وليس ايطالياً فحسب. لقد أدت تصريحات جوسبان إلى عاصفة من ردود الفعل في بيرزيت وبيروت والعالم العربي، لكنها فجرّت أزمة في فرنسا لأن الرجل خرق قواعد اللعبة السياسية في ظل التعايش مع الرئيس جاك شيراك. وأتاحت هذه الأزمة كشف معلومات عن سر التصريحات التي أدلى بها المسؤول الاشتراكي. وتقول هذه المعلومات ان باراك أبلغ جوسبان بأن الحكومة الإسرائيلية متجهة لاتخاذ قرار الانسحاب، وبأنها تخشى من التطورات اللاحقة على ذلك، ولهذا السبب فإن جوسبان عندما تحدث لم يكن يشخّص الأمر الواقع، بل كان يوجه رسالة عما سيكون الموقف الفرنسي في حال استمرت العمليات بعد الانسحاب. ولا يتردد مريدو جوسبان في القول بأنه اخطأ التعبير، ولكنهم يبررون ذلك بأن المطلوب منذ الآن إفهام اللبنانيين والسوريين ان باراك سيحظى بتأييد واسع إذا اضطر إلى رد عسكري بعد أي هجوم تتعرض إليه إسرائيل غداة الانسحاب. تاسعاً، ما هي وظيفة الاجتماع الذي عقده وزراء خارجية الدول العربية في بيروت؟ لقد تقرر هذا الاجتماع في ظل تصعيد إسرائيلي لفظي ضد لبنان أعقب التصعيد العسكري. وإذا كانت مصر والمملكة العربية السعودية القوتين الدافعتين وراءه، فإن القصد منه توجيه رسالة إلى إسرائيل بأنها ليست حرة بأن تفعل ما تشاء، وبأنها ستلقى رداً إذا خرقت تفاهم نيسان، بما يوحي أنها لا تقيم اعتباراً للآخرين. وكان القصد، أيضاً، تنبيه الأميركيين إلى أنهم بالغوا في تغطية الموقف الإسرائيلي. ولوحظ ان القاهرة والرياض تعمدتا التركيز على دعم وحدة المسارين السوري واللبناني، وعلى الاشارة بوضوح إلى موقف ايجابي من المقاومة. كما لوحظ، أيضاً أنهما أعادتا ادراج الموقف التضامني العربي مع لبنان في سياق التمسك بالعملية السلمية. ولذا كان مقدراً لاجتماع الوزراء ان ينحو هذا المنحى. غير أن باراك سعى إلى تطويق ذلك، فلقد وجد صيغة ملتبسة للاعتراف ب"وديعة رابين". ثم اردف ذلك بقرار حكومي يلزمه الانسحاب من لبنان. ولقد أدى ذلك إلى إحداث نوع من "التغيير الوظيفي" في انعقاد مجلس الجامعة. لم يعد في الامكان الاحتفاظ بالنبرة نفسها ضد إسرائيل، وان كان ممكناً الابقاء على الدرجة العالية من التضامن مع المفاوضين العرب. وهناك من يقول إن التطورات الأخيرة جعلت الاجتماع يخدم في تحقيق هدفين لم يكونا محسوبين: الأول، هو تسليف لبنان موقفاً عربياً يجعله يلتزم سقفاً محدداً في حال انسحبت إسرائيل. والثاني، ابداء تضامن مع سورية لا يجعلها تخشى فقدان ورقة الضغط العسكرية من جنوبلبنان. ولذلك لوحظ ان الرئيس اللبناني اميل لحود، وبعد إعلان القرار الإسرائيلي، علق على انعقاد مجلس الجامعة بالتركيز على أولوية الوحدة بين المسارين وعلى ان الدعم العربي هو لسورية ولبنان معاً. إن الإطار العام لهذه الأسئلة والأجوبة يدفع إلى الاستنتاج التالي: إن قرار الحكومة الإسرائيلية هو ادخال المنطقة في لعبة روليت روسية. فإذا كان مصحوباً بقرار جدي بالانسحاب من الجولان يكون المسدس فارغاً، وإن لم يكن الأمر كذلك، فإن وضع المسدس على الصدغ محفوف بالمخاطر لكل بلد في المنطقة، وربما للمنطقة كلها