لندن ضد بريطانيا في مناسبة الصدام الدائر بين الحكومة والمزارعين، ركزت الصحف البريطانية على درجة الافتراق الحاصل بين العاصمة لندن وباقي انحاء البلاد. وهذا، في واقع الحال، من سمات التطور الاقتصادي والاجتماعي الراهن الذي يجعل عالمنا "عالم مدن كبرى" أكثر منه عالم دول وبلدان. فلو كانت مدينة لندن دولة قائمة بذاتها، لكان ناتجها الاقتصادي أرفع من نواتج أي من السويد وفنلندا وهنغاريا، ولفاق اجمالي ناتجها المحلي للفرد الواحد المعدلَ الوسطي للناتج البريطاني ب2500 جنيه استرليني 4 آلاف دولار. فخدمات البيزنس والمال ترقى الى 38 في المئة من النشاط الاقتصادي للندن قياساً ب25 في المئة لسائر بريطانيا، لكن الصناعة وتوابعها تنخفض الى 11 في المئة في العاصمة قياساً ب21 في المئة وطنياً. وإذا كان 12 في المئة من مجموع السكان مقيمين في لندن، فإن 18 في المئة من مطاعم البلد تقع فيها. وينتمي واحد من كل أربعة في وسط لندن الى مجموعة اثنية، فيما تهبط النسبة وطنياً الى واحد من كل عشرين. أما أسعار البيوت فكانت سرعة ارتفاعها في العاصمة خلال 1994 - 1999 ضعفها في باقي المملكة المتحدة. وإذا بلغ المعدل الوسطي لسعر البيت المنفصل عن جواره 293 ألف جنيه استرليني في لندن، فإن المعدل الوسطي لبيت مماثل في باقي البلد ينخفض الى 145 ألفاً علماً بتدنّيه في مناطق كويلز الى 94 ألفاً. ولئن انفقت الحكومة في مجال النقل العام 677 جنيهاً على الفرد الواحد في مدينتها الأولى، فإن انفاقها في مناطق أخرى قد يهبط الى... 75 جنيهاً. ضد سيطرة الرجال لئن ارتبطت فكرة "الفحولة" أكثر ما ارتبطت بالعالم اللاتيني، لا سيما أميركا اللاتينية، فإن نيكاراغوا بزّت سائر بلدان الكرة الأرضية في هذا المجال. الأرقام المخيفة تقول ان نصف نساء نيكارغوا ضُربن ويُضربن من أزواجهن، فيما ربع مجموع الاناث تعرضن، مرة أو أكثر، لمحاولة اغتصاب بيتي. نساء نيكاراغوا ورجالها "التائبون" أطلقوا أخيراً حركة جديدة ضد سيطرة الرجال. الهدف: كسر الاضطهاد عن المرأة وانهاء هذه الصورة البشعة لبلادهم وعنها. أما الرجال المنضمون الى الحركة فيضيفون شعوراً حاداً بالذنب إذ أن انضمامهم تكفير عن ذنوب ارتكبوها في مراحل سابقة. ولا يتردد هؤلاء التائبون في التأكيد على أن مصدر العيب الفحولي كامن في قوة الرجل واعتداده بهذه القوة، ومن دون تحطيمهما يبقى التقدم مستحيلاً. ويبدو، في خلفية الحركة ان الحدث الذي لعب دوراً مهماً في اطلاقها كان انكشاف فضيحة الحاكم السانديني السابق دانيال أورتيغا. فقد تبين ان هذا "المناضل الثوري" اغتصب ابنة زوجته وهي في الحادية عشرة، وظل يغتصبها سنوات طوالاً، فلم يرتدع عن انتهاكه الا بعد سقوط سلطته واعلان الضحية عما حصل لها في مؤتمر صحافي كان له أثر مدوّ. وهذا ما يفسّر، ايضاً، ان نسبة كبيرة من تائبي الحركة الجديدة هم مناضلون سابقون في الحركة الساندينية، مرتدّون حالياً عنها وعن زعيمها. هايدر والمثقفون ربما كان المثقفون، قبل العمال المهاجرين، من يتصدّر لائحة الكراهية التي يحملها زعيم "حزب الحرية" النمسوي يورغ هايدر. والحال ان الكثيرين من بارزيهم سارعوا الى الانضمام الى آلاف المتظاهرين في شوارع فيينا اعتراضاً على اشراك الحزب المذكور في الائتلاف الحكومي. أما حجتهم البسيطة فهي: خوفهم من سياسة تفضي الى "اندثار الثقافة". فليسوا قلةً رموز النخبة الذين غدوا يهددون علناً بمغادرة البلد لأن حياة الفنان أو الكاتب، في ظل "حزب الحرية"، لا تطاق. آخرون أعلنوا استعدادهم للتخلي عن جنسياتهم، فيما ألغى بعض الموسيقيين عقوداً كانت مبرمة مع مؤسسات حكومية. ما يحصل، اذن، لا يعوزه الشبه بما حصل في الثلاثينات حين فرّ فنانون ومثقفون بالجملة من فيينا خوفاً من صعود النازية عندهم. وها هو جيرار مورتيار، مدير مهرجانات سالزبورغ الذي اصطدم من قبل مع هايدر، يستعد للانتقال الى المانيا للعمل مديراً لمهرجانات برلين. أما إيوان هولندر، مدير الأوبرا الرسمية في فيينا، فهدد بالاستقالة التي عللها بالتالي: "لأنني لا أطيق هذا الائتلاف". آخرون كثاداوس تيدي روباك الذي يدير احدى أهم غاليريات سالزبورغ وهو معروف بصداقته لفنان "البوب" الأميركي الراحل أندي وارهول قال انه سيغادر الى باريس، فيما صرح المنظّر الفني روبرت فلِك بأنه أتمّ استعداداته للتخلي عن جنسيته النمسوية. وبدوره كان "حزب الحرية" قد هدد بقطع المعونات الرسمية عن الفنون، وهي خطوة ستكون بالغة التأثير على الفنانين اذ لا يوجد في مجالهم قطاع خاص يلجأون اليه. وما يخافه هؤلاء أن توضع الحياة الثقافية من الآن فصاعداً في عهدة ديماغوجيين وشعبويين، وأن يُترك أمرها للرقابة والرقيب. ولهذا ما أن أعلِن عن الائتلاف حتى ارتفعت أعلام سوداء على بعض المباني والمقار الثقافية في العاصمة. بيد أن هذا الوضع الحالك لم يحل دون ظهور أصوات تطالب بالبقاء والصمود داخل البلد، ولو أنها لا تزال في الأقلية. فالرأي الغالب يرفض استسهال الأمر ورد موقف هايدر من الثقافة والمثقفين الى أطوار ومراحل سابقة. ففي خطبه صوّر زعيم "حزب الحرية" الفنانين بالكسالى والذين يبددون المال العام، داعياً الى تقديم المعونات للفن الذي تستسيغه الجماهير فحسب. وفي 1992 انتقد بشدة مسرحية للكاتب النمسوي الراحل توماس بيرنهارد موضوعها عدم تعلّم النمسا من ماضيها النازي، فقال: "هناك حدود لحرية الفن"، رافضاً دعمه حين "يعارض الدولة ويعارض إرادة الشعب". وفي وصف موجز لموقف هايدر وحزبه من الثقافة، رأى الكاتب والناشر ريتشارد برِم "ان حزب الحرية يفتقر الى التعقيد والحذلقة الثقافيين. وهايدر مهتم فقط بدعم الفولكلور وتقديم الصورة الريفية لفيلم "صوت الموسيقى" Sound of Music بصفتها صورة النمسا. أما تصوره الجماعي عن المجتمع فلا يدع مكاناً للتفكير بالفنان كفرد". وهذا الكلام يكاد يكون صدى لأحكام صحيحة سبق أن قيلت في هتلر وموقفه من الثقافة. مركز بومبيدو: الزمن مركز جورج بومبيدو أعيد افتتاحه في باريس بعد عامين من الاصلاحات والأشغال. وهو الآن مركز خدمات فنية وبصرية بما فيها معرض مكرّس لموضوع... الزمن، بعنوان "الزمن... أسرع" في ترجمة أخرى: "الأزمنة... بسرعة". هذا المعرض المستمر حتى 17 نيسان ابريل المقبل، يتوجه الى المسائل الفلسفية والعلمية الكبرى حتى ان بعض النقاد اعتبروه متحفاً علمياً وفلسفياً. فهو مصمم بما يجعل الجمهور العام على شيء من الإلفة مع هذه المسائل ومع أدواتها التقنية، بما فيها ساعة صينية قديمة يحركها الماء، وروزنامة غالية فرنسية قديمة تعود الى القرن الأول. لكن النقد الأبرز الذي وجه الى المركز القديم - الجديد انه خلا من اللوحات، ليقتصر على المنحوتات والصور والأفلام والأشياء. وهذا الغياب يدل الى ضعف أساسي في التعامل الحالي مع ثنائي الفكر والفن والعلاقة بينهما. ذاك ان اللوحات تستدعي، أكثر مما عداها، مسألة الزمن. فإذا اختلفت طريقتها عن الطريقة المباشرة التي تؤديها الساعات أو الجماجم، إلا أنها تبقى خير ما يمثل تحول النظر الى الفسحات والمجال العام. وهذا يبقى من أبرز مضامين الزمن وتقلّب أطواره. "حرب افريقيا العالمية الأولى" "الكونغو وتسع أمم تقع حولها تجلس فوق ما يمكن أن يكون أغنى رقعة في هذا الكوكب: هناك ماس ونفط واورانيوم وذهب والكثير من الماء وأرض خصبة وطبيعة عجائبية. لكنها اليوم أيضاً أرض أكبر المعارك في التاريخ الافريقي، وموضوع صراع سُمّي حرب افريقيا العالمية الأولى. الاخصائيون يقولون ان افريقيا لم تتعرض لمثل هذا النزاع منذ الأيام الكولونيالية. عشرات الآلاف ماتوا. مئات الآلاف اقتُلعوا من بيوتهم. الفيَلة والغوريلات تُسلق لإطعام الناس. الاقتصادات التي تشارك الناس الوباء ونقص التغذية، تموت. ست دول خارجية تقاتل داخل الكونغو وحدها، بما في ذلك 35 ألف جندي على الأقل، رجالاً وصبيةً، يتنازعون لعدد محيّر من الأسباب. بعض الجيوش متحالف مع القوات المتمردة لاطاحة رئيس الكونغو لوران كابيلا. جيوش أخرى تدافع عنه. تسع حكومات في الكونغو تصارع لاطاحة حكومات البلدان المجاورة، وتقريباً كل واحد ينهش ثروات الكونغو". هكذا بدأ تحقيق كتبه عدد من الصحافيين ونشرته "نيويورك تايمز" و"انترناشونال هيرالد تريبيون" في صدر صفحتيهما الأولىين. وجها الاندماج الصدارة في عالم المال والسياسة والأفكار أيضاً لا تزال لخبر اندماج "مانزمان" الألمانية في "فودافون اير توتش" البريطانية: والسبب ولادة لاعب عالمي جديد يبلغ زبائنه عشرات ملايين البشر. انه نجم أوروبا الأول في عالم الاتصال. الحدث يقول الشيء الكثير عن "أمركة" ثقافة البيزنس الأوروبية، ومن ثم ديناميات الرأسمالية المعاصرة وتقنيات الاتصالات التي تحركها، ناهيك عما يقوله في صدد تراجع الدولة الوطنية والمحاولات الحثيثة لكيانات فوق - وطنية كالاتحاد الأوروبي، للصمود. هذا الاندماج الأكبر حتى الآن في تاريخ الشركات يخلق كائناً يمسك ب22.8 في المئة من السوق في أوروبا الغربية، ولديه فيها 150.19 مليون مشترك، كما يسيطر على 14.1 في المئة من سوق الولاياتالمتحدة، وله فيها 65.01 مليون مشترك. وقد جاءت هذه الصفقة بعد اندماج "تايم وارنر" الإعلامية في "أميركا أوف لاين" للانترنت، لتحمل البشير والنذير في رزمة واحدة. فأما البشير فمصدره تعاظم القدرة على احداث تطورات علمية واتصالية أكبر، يرافقها اختصار لعدد من الوحدات والوظائف، ما يخفض، نظرياً، أكلاف الاستخدام. وأما النذير فمصدره الحاجة الى التشريع ووضع القيود أمام سيطرة الاحتكارات على العالم وقراره. والسباق لا يزال على أشده بين هذين الوجهين.