كادت أكبر عملية سطو في التاريخ أن تنجح، وكاد أنطونيو أورلاندو أحد زعماء المافيا في جزيرة صقلية أن يسجل اسمه في كتاب غينيس للأرقام القياسية. ذلك أن عصابة المافيا التي يتزعمها والتي تشكل أحد فروع "كوزا نوسترا" المسيطرة على جزيرة صقلية، خططت لتضع يدها عبر الانترنت على كامل موجودات حساب صندوق مالية الجزيرة المفتوح لدى مصرف صقلية الوطني. وتقدر أوساط الشرطة أن موجودات الحساب كانت تتجاوز 2000 مليار لير إيطالي أي ما يزيد عن مليار و200 ألف دولار أميركي، كاد أورلاندو الملقب ب "جياني" أن يحولها بكبسة زر إلى حسابه الخاص، ويحطم الأرقام القياسية لعمليات السطو بواسطة الانترنت أو من دون الانترنت لولا الصدفة التي شاءت أن يصل صدى العملية الى آذان شرطة مكافحة المافيا فنصبت له شركاً وقع فيه مع جميع الضالعين بالعملية. كيف بدأ التخطيط لعملية السطو، وكيف فشلت؟ بدأت العملية تختمر في رأس جياني بعدما أعلن الاتحاد الأوروبي عن تخصيص مساعدات مالية لصقلية لتطوير منشآتها هيكلية و رفع مستوى الحياة فيها، وهي المساعدات المخصصة لبعض المناطق الفقيرة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وبلغت حصة جزيرة صقلية 2000 مليار لير إيطالي، تدفع في شهر آذار مارس من العام 2000 بتحويلها إلى حساب أمانة صندوق المنطقة في مصرف صقلية الوطني. وعلم جياني من بعض العملاء المدسوسين في الإدارة، أن استعمال هذا المبلغ وتحريك الحساب لن يتم قبل شهور بسبب عدم التصويت على موازنة الصرف المتعلقة بهذا المبلغ. وخطط جياني لسحب المبلغ كاملاً بعملية واحدة عبر الانترنت. فشكل "فريق عمل" متخصص من عشرين شخصاً، بينهم أربعة موظفين في البنك مهمتهم قرصنة نظام عمل كومبيوتر المصرف بشكل يسمح بإدارته من الخارج ، وثلاثة عاملين في شركة الاتصالات والهاتف الإيطالية لتأمين "توصيلة" الانترنت خلال العملية. وتشك الشرطة بضلوع بعض الأشخاص العاملين في صندوق التنمية في الجزيرة. وبعد فترة من التدريب أصبح فريق العمل جاهزاً لكبسة الزر التي كان من المفترض أن تجعل اسم جياني يدخل في كتب تاريخ الجرائم وعمليات السطو المذهلة، وذلك بتحويل مجمل قيمة حساب صندوق الجزيرة إلى حساب رئيس المافيا. غير أن "فريق الياقات البيضاء" الذي يتألف عادة من محامين ورجال أعمال يعملون لحساب المافيا، وهو الفريق الذي كان مكلفاً إيجاد "حسابات استقبال"، أي حسابات مصرفية متعددة يتم نقل الأموال إليها بالتوالي لإضاعة أثر الأموال والتمويه عن وجهتها النهائية، فشل في التوصل إلى فتح حساب لاستقبال هذا المبلغ الضخم، نظراً الى أن عملية فتح حساب بمبالغ ضخمة، عملية صعبة جداً، على خلاف ما يبدو للوهلة الأولى، خصوصاً في ظل الإجراءات الجديدة التي اتخذت لمكافحة عمليات "غسل أموال" الجريمة والمخدرات. وعلى أي مدير مصرف التأكد من هوية الأموال ومصدرها حالما تتجاوز قيمتها مبلغاً معيناً حسب البلدان عشرة آلاف دولار في بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وفي معظم الدول حالما يتجاوز المبلغ خمسين ألف دولار فكيف الأمر حين تبلغ قيمة التحويل أكثر من مليار دولار ! وحتى في حال التأكد من مصدر الأموال، فإن على المصرف قبل أن يوافق على فتح الحساب بالمبلغ المرتفع أن يحاول ايجاد منافذ تثمير لهذه المبالغ، حى لا تبقى مجمدة في حسابه فلا تعطي أي مردود فيما يكون هو مضطراً لتسديد فوائد على المبلغ يتم حساب الفوائد شهرياً في بعض حالات الحسابات الضخمة. ولهذا أوجدت المصارف نظام محاصصة لطرح عروض بالمبالغ المتوافرة والتي تفيض عن قدرة المصرف الاستثمارية، مما يسمح بمشاركة المخاطر والفوائد، وهكذا يجد كل مصرف مصلحته باقتطاع المبلغ اللازم لاستثماراته. ويتم هذا عبر نظام "أنترانت" المخصص للمصارف وهو بخلاف أنترنت غير مفتوح للجمهور ويعمل في حلقة مقفلة. وقد طرق فريق المافيا أبواب عدد من المصارف في محاولة لفتح حساب، ولعل أحد هذه المصارف أو بعضها طرح هذا المبلغ عبر نظام المحاصصة. وقد أثارت قيمة الطرح حشرية موظف في مصرف في سنغافورة، فأرسل إشعاراً إلى لجنة مكافحة غسل الأموال في بلاده، فقامت هذه بوضع الملاحظة على شبكة أنترنت لاطلاع بقية اللجان في الدول الأخرى على هذه المحاولة، وهذا عمل روتيني تقوم به كل الدول ويشبه عمل الأنتربول. ولكن في غياب أي تبليغ عن عملية سطو أو حادث يتعلق بمثل هذا المبلغ الضخم، ذهبت الملاحظة ضحية النسيان ،مثلها مثل ملاحظات كثيرة تحملها بيانات الشرطة ومكاتب المكافحة في العالم. غير أن المافيا تابعت بحثها عن مصرف في أوروبا ، وبدأت الإشاعات في أوساط العاملين في هذا المضمار تتحدث عن عملية ضخمة قيد التحضير، وتواترت هذه الأخبار الى ان بلغت اذان الشرطة الإيطالية. وصادف أن تذكر أحد المفتشين أنه قرأ الملاحظة القادمة من مصارف عدة، فأخطر المكتب المكلف بمحاربة المافيا بالأمر. وبدأت المتابعة المقربة للمحادثات بين فريق عمل المافيا والمصارف التي تطرق أبوابها، من دون أن تتوصل الشرطة الى معرفة مصدر هذا المبلغ الضخم. وبعد فترة قررت الشرطة "تسهيل الأمر" للمافيا للكشف عن هذا المصدر، فأوعزت لأحد فروع مصرف "بنكو دي روما" قرب مدينة بولونيا، بقبول فتح الحساب، وأرسلت أحد مفتشيها المتخصصين ليحل مكان مدير البنك. فبدأت خيوط العملية تنكشف أمام رجال الشرطة العاملين وراء مكاتب المصرف، بعدما طلب رجال المافيا تحويل هذا المبلغ مباشرة لدى وصوله إلى مصرف "بنكو سبيريتو سانتو إي كومرسيالي" البرتغالي، حيث يقوم أحد عملاء المافيا المتواجدين في هذا المصرف واسمه كارلوس توريلو بتحويل المبلغ مباشرة أيضاً إلى فرع المصرف في لوزان في سويسرا. وطلب فريق "الشرطة العامل في المصرف" ضمن محاولته معرفة مصدر الأموال تحويلات بسيطة ، فقامت المافيا بتجربة نظام القرصنة، ونجحت بتحويل مبالغ بسيطة. وعند ذلك أدركت الشرطة أهمية عملية السطو وهدفها، فاتخذ قرار على أعلى المستويات السياسية بإكمال "العملية" وعدم القبض على أعضاء العصابة قبل اتمام عملية القرصنة، بشكل يسمح بالقبض على جميع المشاركين، وكشف نقاط ضعف النظام المصرفي المعمول به تحسباً لعملية أخرى. غير أن المافيا كانت حريصة على أن "لا تضع بيضها في سلة واحدة" لذا كانت تفاوض مصرفاً آخر. وصادف أن "بنك الفاتيكان" المعروف باسم "مؤسسة الأعمال الدينية"، وهو مصرف يعمل في مجال الاستثمارات، وافق على فتح حساب للعملية، ربما لأن إدارته رأت عرض المبلغ على شاشة المحاصصة، فقررت دخول العملية على اعتبار أن "بنك دي روما" قد أخذ مجمل الاحتياطات القانونية. ووصل هذا الخبر إلى الشرطة، فتخوف القائمون على العملية من أن تكون المافيا تفاوض مع أكثر من مصرف وأن تفلت زمام العملية من يدها، فعجلت بانهاء العملية بالقبض على أفراد العصابة وعددهم واحد وعشرون، على رأسهم جياني. لكن نجاح الشرطة بوضع اليد على العصابة قبل أن تقوم بعمليتها لا يمنع من طرح السؤال حول الخطر الذي يهدد حسابات المصارف من أنواع القرصنة الجديدة التي بدأت المافيا تهيء نفسها للدخول إلى معتركها. فبعدما كانت السرقات على شبكة الانترنت تعد بالمئات أصبحت الآن بالآلاف وهي بازدياد مطرد، غير أن وصول منظمات إجرامية متمكنة مالياً وتقنياً مثل المافيا الإيطالية و"زميلتها" المافيا الروسة يغير الكثير من المعطيات ويعطي لمعاني الجريمة على شبكة العنكبوت أبعاداً جديدة وحدها الأيام يمكنها أن تظهر خطرها على الاقتصاد العالمي