سلاح الجو الروسي ينقل الافيون الافغاني والصرب يبيعون بنات تشيخيا جيوش المرتزقة تغزو براغ ... وسجون ستالين خرّجت "المكتب السياسي" للعصابات اخطبوط المافيا يزحف على اوروبا الشرقية. عصابات الجريمة المنظمة من شتى المناشئ والملل و"التخصصات"، بقديمها الكلاسيكي وجديدها المجهول، تغزو اقطار الكتلة السوفياتية الزائلة وتعشش في طولها وعرضها، من فلاديفوستوك في اقصى الشرق الروسي حتى وارسو وبراغ على خطوط المواجهة السابقة مع الغرب الاطلسي في اوروبا. ومثل نبات شيطاني تنمو صاعدة، وتتصاعد معها معدلات الجريمة في قفزات مثيرة، وتتحول تجارة المخدرات والسلاح والقتل والاعتداء المسلح والابتزاز والدعارة والتهريب والسطو والاحتيال والغش والسرقة ظواهر عادية وجزءاً من الحياة اليومية. وفيما يضج الناس شكوى من انفجار العنف وتزعزع الامان، تنهمك المافيات في نشر مواقعها حول "منجم الذهب" الذي بدأت ارض هذا "العالم الجديد" تنشق عنه. موسكو تحولت مركزاً دولياً للجريمة المنظمة، وفي روسيا "مكتب سياسي" للعصابات، وأقامت المافيا حلفاً مع عصابات اميركية وأوروبية، وورّطت نصف رجال الشرطة والقانون. واذا كان العالم يتغاضى عن مافيا الصرب التي تخدع بنات تشيخيا لبيعهن في اسواق الرقيق الابيض، وعن سلاح الجو الروسي في طاجيكستان المنهمك بنقل الافيون الافغاني، فان نجاح اخطبوط المافيا الروسية في وضع يده على مواد نووية وتهريبها الى الخارج يثير قلقاً لدى الغرب. انه حلف بين العصابات التي تتنازع في منطقة وتوقع "معاهدة" لتقاسم النفوذ في مناطق اخرى، وكل شيء للتهريب والبيع: المخدرات والمتفجرات والسلاح والنساء... واليورانيوم المشع المستخدم في تصنيع القنبلة النووية! هزّ القاضي الايطالي المخضرم رأسه متحفظاً، ثم تحدث الى الصحافيين الذين امطروه بالاسئلة محذراً من "الانقياد الى الاوهام" في شأن حال المافيا الصقلية "كوزا نوسترا". فلا جدال في ان "أم المافيات" تمر في فترة صعبة وان رؤوسها انتهت الى السجون والمحكمة... "لكنها لا تزال قوية عسكرياً، والأهم ان عملياتها التجارية مستمرة بل افضل مما في السابق، لأن اسواقاً جديدة انفتحت امامها، خصوصاً في شرق اوروبا". كان القاضي يتحدث بعد واحدة من الحملات الموفقة التي شنتها الشرطة الايطالية في وقت سابق من السنة الجارية على اوكار "كوزا نوسترا" في مهدها الصقلي. وكانت ثلاث سنوات انقضت وقتها على بدء تدفق المافيا الايطالية والاميركية والغربية الاخرى على اوروبا الشرقية التي انفتحت ابوابها بين ليلة وضحاها بعد عقود طويلة من الانغلاق. فالاعاصير السياسية التي اجتاحت دول "المعسكر الاشتراكي" اواخر الثمانينات وعصفت بحكوماتها تباعاً، اسفرت بين امور اخرى عن اطاحة الحاجزين المنيعين اللذين كانا يواجهان كل محاولة تغلغل في تلك الدول: الستار الحديد الذي يفصلها عن العالم الخارجي، والاجهزة الامنية المهيمنة في كل مجالاتها الداخلية. وبتداعي الحاجزين لم تبق قيود تذكر على الحركة عبر حدودها ولا رقابة على ما يجري داخلها. قمة في سويسرا في هذه الاجواء المواتية هرع اقطاب الجريمة المنظمة الى المنطقة يستكشفون "مجاهلها"، ويقيمون الصلات، ويبنون المرتكزات، وينشرون الشباك. وتشير الدلائل الى ان جهودهم اتت اكلها عاجلاً، مستهلة ما يعتبره خبراء "المافيالوجي" مرحلة جديدة في تطور الجريمة الدولية ونقلت صحيفة "موسكو نيوز" 11/2/1993 عن الخبير الفرنسي في شؤون المافيا نيل روار ان هذه المرحلة بدأت صيف 1991، حين التقى زعماء المافيات الايطالية والسوفياتية والافريقية الجنوبية، وراء ابواب مغلقة في فندق "سافوي" في مدينة زوريخ السويسرية، وعقدوا اول اتفاق على اقتسام مناطق النفوذ في ارجاء ما كان الكتلة السوفياتية. وازداد الاقبال في الغرب على شراء مبالغ ضخمة من الروبلات وصلت احياناً حسب تقرير "موسكو نيوز" الى بلايين عدة من هذه العملة التي اشاح عنها الجميع وجوههم حتى فترة قصيرة. ويعتقد ان "الرواج" المفاجئ للروبل عائد اساساً الى سعي المافيا الاجنبية وفي مقدمها الايطالية الى استثمار هذه الاموال في الاتحاد السوفياتي سابقاً وقطف ثمار الانفتاح الاقتصادي والحرية الناشئة هناك. مزايا الكتلة الشرقية وما اسال لعاب اقطاب الجريمة المنظمة منذ البداية هو، في رأي الخبراء، تعدد المزايا التي تتمتع بها اقطار الكتلة الشرقية السابقة، والتي يصعب العثور عليها مجتمعة في اي رقعة اخرى من العالم. فهي من جهة تتيح امكانات فريدة لپ"غسل الاموال القذرة"، ولفتح طريق جديدة لتهريب المخدرات. وبعضها يشكل مصدراً لا ينضب للامدادات الرخيصة من السلاح الذي لا يكف الطلب عليه في السوق السوداء الدولية، وكذلك للمواد المشعة والمعادن النادرة و"الخامات الاستراتيجية" الاخرى. وهي ايضاً تنطوي على سوق بالغة السعة لكل البضائع المهربة والمغشوشة، ويمكن ان تتحول سوقاً واعدة للمخدرات. ويتهيأ من افتضح امره من رجال المافيا في بلاده الاصلية ولم يعد يستطيع التحرك فيها بيسر، لأن يعيش و"يعمل" بهدوء واطمئنان في الاقطار الاوروبية الشرقية التي تسمح قوانينها الجديدة باقامة الاجانب اذا اسسوا شركات فيها، وتسمح لهذه الشركات في سياق نشاطها التجاري بشراء العقارات والمشاريع المختلفة في صورة مباشرة او بأسماء مواطنين محليين في مقابل عمولات معينة. وتشتري عصابات المافيا احياناً ممتلكات في اوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي سابقاً، عبر شركات "وسيطة" اجنبية، ودفعت المافيا الايطالية عشرة بلايين مارك ثمناً للأبنية والمحلات المنتشرة في مركز مدينة لايبزغ الالمانية الشرقية تمهيداً لاتخاذها محطة اساسية تنطلق منها النشاطات الجهنمية للمافيا. وهذا المبلغ الباهظ اكبر من المساعدات التي تقدمها الدول الغربية مجتمعة الى روسيا. وكانت العصابات الباحثة عن مأوى جديد بعدما تعرضت لضربات قاسية في معاقلها الايطالية، وافتضح تلاعبها بتجارة الفاكهة والدخان في دول السوق الأوروبية المشتركة، ادركت وجود فرصة ذهبية اثر سقوط النظام الشيوعي في المانيا فقدمت عروضاً مغرية لأصحاب المحلات والمنشآت بواسطة شركات سويسرية. غسل الأموال القذرة ويحظى هذا الواقع باهتمام استثنائي لدى المافيا، لأنه يتيح حلّ مشكلتها الكبرى المتعلقة بمصير الاموال الهائلة التي تجنيها من العمليات التجارية غير المشروعة والنشاطات الاجرامية الاخرى. ومعلوم ان هذه الاموال التي يقدر حجمها بمئات بلايين الدولارات سنوياً، تبقى منبوذة ومعرضة للمصادرة اذا لم "تغسل"، اي تطمس اصولها المشبوهة عبر قنوات مصرفية معقدة، وتحوّل اموالاً حلالاً توظف في نشاطات اقتصادية مشروعة. وكان هذا يجري حتى وقت قريب من دون وجع رأس. لكن الولاياتالمتحدة وإيطاليا عمدتا في السبعينات والثمانينات الى تشديد الرقابة على العمليات المصرفية ومتابعة الحسابات المثيرة للشبهات، في اطار خطط لمحاربة المافيا. وازداد الوضع تعقيداً حين اتخذت اجراءات مماثلة في المانيا التي اضطرت المافيا قبل ذلك الى نقل عملياتها "الاستثمارية" الاحتيالية اليها، كما الى لوكسمبورغ وسويسرا. ووفق معلومات مكتب مكافحة الجريمة الاتحادي في بون، تمكنت المافيا الايطالية - الاميركية حتى اواخر الثمانينات من غسل 72 بليون مارك من اموالها الحرام في المانيا. واللافت ان هذا المبلغ يبقى على رغم ضخامته غير ذي شأن مقارنة بما تغسله "كوزا نوسترا" وحدها في ارجاء العالم، وتقدره مصادر الشرطة الايطالية بما يراوح بين 65 و85 بليون دولار سنوياً. وتعتبر احدى الصحف الالمانية ان انهيار الستار الحديد جاء بالنسبة الى المافيا، في ظروف التضييق المتزايد على حركة الاموال القذرة في دول المجموعة الأوروبية خلال النصف الثاني من الثمانينات، مثل "هبة من السماء". فمن برلين الشرقية حتى موسكو وما وراءها تمخضت الاوضاع الجديدة في شرق اوروبا عن فرص لا حد لها لكسر الطوق المضروب باحكام متزايد على تلك الاموال. وارتبط ظهور هذه الفرص اساساً بالاصلاح الاقتصادي الذي بوشر تطبيقه في كل الاقطار الشرقية، ويكمن جوهره في عملية التخصيص التي تعني بيع ممتلكات الدولة الى القطاع الخاص. وهذه العملية يتقرر في سياقها مصير ثروات لا تحصى هي كل ما تملكه هذه الاقطار، نظراً الى ان الدولة كانت المالك الوحيد عملياً في "المجتمع الاشتراكي". البازار الشرقي الكبير وهكذا "غيّر القراصنة وجهة ابحارهم، وانطلقوا على متن الاستثمارات الضخمة نحو البازار الشرقي الكبير الذي تباع فيه المصانع والمصارف والمباني والعقارات بلا حساب". واذا كان الحظ خالف محاولاتهم الاستحواذ على مشاريع مختلفة في شرق المانيا بقيمة 5،8 بليون مارك، فانه حالف جهودهم المماثلة في الاقطار الشرقية الاخرى التي تفتقر تماماً الى ما انزلته المانيا الموحدة الى الميدان في اقاليمها الشرقية من وسائل وخبرات وقدرات لمحاربة المافيا. وعلى رغم النقص الفادح في المعلومات الموثقة عن حجم "الغنائم" التي استولت عليها مجموعات الجريمة المنظمة في بازار التخصيص الشرقي، يعتقد مراقبون ان ما نجحت في وضع يدها عليه حتى الآن وغسلت من خلاله مبالغ طائلة من اموالها الحرام، ربما كان حوّلها واحداً من اكبر المالكين في المنطقة بأسرها. وينسب الى اوساط مطلعة في موسكو ان "شركات تجارية" محلية تتعاون مع "شركاء" اجانب استطاعت ان تعيد ضخ 17 بليون دولار خارج روسيا بصفتها اموالاً مطهرة! ويذكر ان مجلة "ريسيرتش ريبورت" نقلت في 14/6/1993 عن نائب الرئيس الروسي آنذاك الكسندر روتسكوي حين رأس لجنة "مكافحة الفساد" في نيسان ابريل الماضي ان المافيا تسيطر على حوالي 40 في المئة من الانتاج الروسي، وان مواد خاماً وأموالاً تزيد قيمتها على 40 بليون دولار هُربت من البلاد الى مصارف في الخارج. وتعزى نجاحات المافيا الى تضافر عوامل مختلفة. فمن جهة لا توجد غالباً قوانين تتعلق بغسل الاموال القذرة تحديداً، وتنص على كونه جريمة يعاقب عليها. والمثير ان بعض كبار المسؤولين في النخب الحاكمة الجديدة في بلدان المنطقة لا يظهر حماسة الى اصدار مثل هذه التشريعات، بل ان بينهم من يبارك تدفق العملات الصعبة على بلاده حتى في صورة استثمارات مافياوية. وارتباطاً بغياب القوانين تنعدم الرقابة على العمليات المصرفية، ولا يترتب على البنوك الابلاغ عن الودائع التي تتجاوز حداً معيناً، او الشكوك التي قد تنشأ في صدد اصول بعضها. وفي النهاية تعجز السلطات ذات العلاقة عن تكوين صورة - مهما كانت تقريبية - عن حركة الاموال الحرام. وهناك من جهة اخرى هزال الاجهزة التي يفترض ان تواجه تحركات المافيا وتقطع طريقها. ففي الشرطة كما في المصارف وسائر اجهزة الدولة، يفتقر العاملون الى الخبرة في التعامل مع "ذوي الياقات البيض" والجريمة المنظمة، ويبدي كثيرون منهم، مع انخفاض رواتبهم وصعود نفقات المعيشة وشيوع ظاهرة السعي الى المال بأي وسيلة، استعداداً متزايداً للارتشاء والفساد. والاخطر ان الفساد يصل الى المفاصل العليا لأجهزة الدولة، ومن بينها مكاتب الوزراء احياناً، ما تستغله المافيا الى اقصى الحدود لتنفيذ خططها المتصلة بغسل الاموال القذرة. وقبل انفجار الصراع الاخير بين الرئيس الروسي بوريس يلتسن والبرلمان تراشق الساسة المتنافسون على زعامة روسيا بالاتهامات التي تتعلق بالتورط في علاقات "مشبوهة". وكان نائب الرئيس خصمه اللدود روتسكوي، اشار في نيسان ابريل الماضي الى ان اثنين من اشد الوزراء تأييداً للرئيس ساعدا "جماعات شبيهة بالمافيا" كي تحكم قبضتها على البلاد، فأصدر المدعي العام تعليماته للبدء بالتحقيق في قضية الوزيرين. وجاء رد معسكر يلتسن قبل اشهر حين اكدت "لجنة مكافحة الفساد" التي عينها الرئيس ووضع على رأسها وزير العدل، ان روتسكوي "على علاقة" بملايين الدولارات المهربة من روسيا والمودعة في احد المصارف السويسرية. وطالبت بتسريح عدو آخر ليلتسن هو ابرز رجال القانون الروس، المدعي العام فالنتين ستيبانكوف. وبعيداً عن الاتهامات اكدت "موسكو نيوز" 7/6/1993 ان هناك امثلة تثبت ان موظفين روساً رفيعي المستوى هبوا مراراً لنجدة زعماء المافيا حين ضاقت بهم سبل النجاة من عقوبة اكيدة ونجح احد اعضاء "المكتب السياسي" للمافيا الروسية الملقب بپداتو الطشقندي في تجنيد مسؤولين كبار ساهموا في تبرئته واطلاقه بعدما دفع لأربعة من اعضاء لجنة التحقيق الخماسية "اتعابهم". وذكرت الصحيفة مثالاً اهم وهو خفض حكم السجن الصادر على "قيادي" بارز آخر هو يابونيتس من 14 الى 10 سنين اثر تدخل عضو في المحكمة الروسية العليا. وعارض مكتب المدعي العام قرار وزارة الداخلية ملاحقة المجرم الذي يعيش الآن في اميركا. وفي سياق الحديث عن العلاقات الوثيقة بين المافيا وبعض الروس النافذين، يذكر ان ابناء الأمين العام السابق للحزب الشيوعي السوفياتي ليونيد بريجنيف اتهموا بالتعامل مع أباطرة المافيا. وازداد اخيراً عدد الضباط الكبار الذين دينوا بتقديم "خدمات" ثمينة للمافيا. وقبل فترة قصيرة اعتقل قائد احدى القواعد الجوية الرئيسية في شرق البلاد، اللواء فلاديمير روديونيف مع نائبه بتهمة شحن مواد مهربة الى الصين في طائرات عسكرية روسية، كما جاء في تقرير نشرته صحيفة "ذي تايمز" 28/1/1993 وأشارت مجلة "ريسيرتش ريبورت" 14/6/1993 الى تقارير نشرت اوائل هذه السنة وأفادت ان ثلاثة جنرالات اودعوا عائداتهم من صفقات بيع سيارات ولوازم عسكرية بلغت قيمتها 17 مليون دولار، في مصارف اميركية وسويسرية وفنلندية. ورأى مراقبون ان ظل المافيا الكريه يخيم على المغامرة، اذ يستبعد ان يقدم العسكريون الثلاثة تلقائياً على عمل كهذا لو لم يحظى برعاية المافيا. ويبدو ان حلقات الاجرام المنظم تعتمد اكثر فأكثر على خدمات سلاح الجو الروسي. ونقلت "موسكو نيوز" 10/9/1993 عن مصادر مطلعة ان الطائرات العسكرية الملحقة بالقوات الروسية المرابطة في طاجيكستان منهمكة بنقل الافيون الافغاني الى داخل البلاد. اما عن تغلغل المافيا في جهازي القانون والشرطة فحدث ولا حرج. وحسب احصاءات رسمية، بلغت نسبة رجال القانون والشرطة الروس الذين تورطوا مع العصابات المحلية 50 في المئة العام الماضي. الطريق البلقاني الجديد وهناك مؤشرات الى ان المافيا تستثمر ذلك كله في سعيها الى ضمان تدفق المخدرات المهربة الى اسواقها التقليدية في الغرب، من دون عوائق. وتصادف ان الحث على شق طريق جديد لتهريب المخدرات بعد وقت قصير من انهيار الستار الحديد، عندما قطع اندلاع الحرب في يوغوسلافيا "الطريق البلقاني" لنقل المخدرات الآسيوية من تركيا الى اوروبا الغربية واسكندنافيا. وأفلحت سريعاً في فتح طريق بديل يمتد الى الشمال قليلاً، وتقطع فروعه الكثيرة اقطار اوروبا الشرقية والوسطى: بلغاريا ورومانيا وهنغاريا وسلوفاكيا وتشيخيا وبولندا. وبين ليلة وضحاها تحولت بودابست وبراغ ملتقيي طرق رئيسيين لتجارة المخدرات في اوروبا. وبجانب "الطريق البلقاني الجديد" باشرت المافيا استكشاف طرق بديلة لتهريب السموم الثمينة من مصادرها في "المثلث الذهبي" الذي يضم بورما وتايلند ولاووس، وفي الخط الآخر المكون من باكستان وأفغانستان وإيران، الى اسواقها في الغرب عبر جمهوريات "الاتحاد السوفياتي" مباشرة، يشجعها انتشار زراعة المخدرات في هذه الجمهوريات في السنوات الاخيرة. ويقدر حجم الهيرويين الذي يهرب سنوياً عبر الطريق البلقاني الجديد الى غرب اوروبا بپ150 طناً، اي نحو مجموع الانتاج العالمي من هذه المادة المخدرة الذي وصل عام 1991 الى 156 طناً. وينقل نحو 70 في المئة من الكميات المهربة، وفقاً لخبراء مكافحة المخدرات، عبر اراضي تشيخيا التي يحبذها المهربون ممراً لبضاعتهم نظراً الى موقعها الجغرافي الملائم في قلب اوروبا، اضافة الى "ضعف اداء" سلطاتها الجمركية. صراع على تشيخيا وبفضل موقعها القريب من المانيا، صارت براغ محطة رئيسية على "الطريق البلقاني" الذي تسلكه المخدرات المهربة الى اوروبا الغربية والدول الاسكندنافية وهي المرشحة الاكثر حظاً بين عواصم اوروبا الشرقية لتكون المركز الاول لمافيا المخدرات الاوروبية وفق تقديرات "ذي صانداي تايمز" 15/8/1993. ويزور براغ ممثلون عن المافيات الايطالية التي تبدي اهتماماً متزايداً بالمدينة. وتحتكر العصابات الروسية تجارة المخدرات والسلاح وغسل الاموال وتنفذ معظم عمليات السرقة في تشيخيا. لكنها تواجه الآن منافسة شديدة من المافيات الايطالية والبولندية والالبانية والصينية الوافدة حديثاً الى البلاد، حسب تقرير للصحيفة البريطانية. وغدت المدينة مرتعاً للعصابات الاجنبية التي برز كل منها في مجال اجرامي معين، اذ يسرق الرومانيون والبلغاريون السيارات الغربية ويزيفون اوراقها قبل بيعها في بولندا او روسيا. ويعمل الاتراك والالبان في تحميل شحنات المخدرات ونقلها اما ابناء صربيا والجبل الاسود فيخدعون بنات تشيخيا بعروض عمل كاذبة ويبيعونهن في اسواق الرقيق الابيض اليونانية او الايطالية او الالمانية. ويستورد الكولومبيون الكوكايين من بوغوتا عن طريق العاصمة البلغارية صوفيا فيما يتاجر الاوكرانيون بالسلاح. وتفيد الصحيفة البريطانية ان الشرطة التشيخية تعتقل اسبوعياً متهمين بسرقة او تهريب مادة "سيمتكس" المتفجرة التي اشتهرت تشيكوسلوفاكيا السابقة بصناعتها. ولم يزد مجموع ما صادره الجمركيون التشيخيون السنة الماضية من الهيرويين على 123 كليوغراماً من عشرات الاطنان التي يعتقد انها نقلت سراً عبر اراضي البلاد. ويعزو الخبراء عجز سلطات الجمارك الفاضح الى فساد الكثير من رجالها وتخلف وسائلها المادية والتكنولوجية وعدم كفايتها. لكنهم يعتقدون ان هذا وذاك ينطبقان بدرجة اكبر على جمارك معظم الاقطار الاوروبية الشرقية الاخرى، ومنها مثلاً رومانيا المعروفة بفساد بعض شرطة جماركها والتي تحولت لهذا السبب خصوصاً معبراً تفضّله مافيات اميركا الجنوبية لتهريب مخدراتها الى اوروبا الغربية. وعلى رغم التفاوت في حجم الرشاوى التي تشتري بها المافيات سكوت الجمركيين في الاقطار الشرقية عن المخدرات المهربة، يعتقد ان معدلها لا يزيد كثيراً عن 1500 دولار، وهو المبلغ الذي ذكر تقرير صحافي من فيلينيوس انه يكفي ل "اقناع" موظف الجمارك العادي في ليتوانيا بإغماض عينيه. ويشير الخبراء الى ان ملايين الدولارات التي تنفقها المافيات على الرشاوى كل سنة، لا تشكل اكثر من قطرة في بحر الارباح الهائلة التي تجنيها من تجارة المخدرات. فمردود هذه التجارة يقدر ب 500 بليون دولار سنوياً، اي ما يزيد على مردود تجارة النفط. "مافيا وطنية" وتستعين المافيات الغربية في نشاطها المتسع في اوروبا الشرقية بالمافيا البلقانية ذات الخبرة في اوضاع المنطقة وبالمافيات المحلية الناشئة التي بدأت تتكون بعد اطاحة الحكم الشيوعي وضرب اجهزته القمعية، وما نجم عن ذلك من "فراغ امني" ودفعهم الى التحرك بجرأة متزايدة الى تشكيل مجموعات منظمة في بعض الحالات. ومع استشراء الجريمة وتضاعف معدلاتها مرات في السنوات القليلة الماضية، خصوصاً في الميدان الاقتصادي، وتحت تأثير "مثال" المافيات الايطالية والبلقانية، التي فرضت حضورها في الحياة اليومية بسرعة لافتة، بدأت تظهر في كل دول المنطقة مافيات "وطنية"، تطور بعضها بسرعة فائقة ومدّ نشاطه خارج حدود بلاده. وسادت براغ وصوفيا وبودابست وبوخارست اوضاع تذكّر بالافلام السينمائية عن المافيا في الولاياتالمتحدة ابان الثلاثينات، على حد ما نشرت صحيفة "دي فيلت" الالمانية. لكن موسكو بقيت في الصدارة، اذ تحولت هذه المرة مركزاً دولياً للجريمة المنظمة. فالمافيا الروسية تجاوزت مثيلاتها في شرق اوروبا على كل الصعد في سرعة النمو وسعة الانتشار وقوة النفوذ ووحشية العنف وكثرة الشبكات. و"اشترت" المافيا الروسية موظفين صغاراً وكباراً في جهازي القانون والشرطة ودوائر حكومية اخرى. وكشف النائب الاول لوزير الشؤون الداخلية ميخائيل ايغوروف في تصريح نشرته "ريسيرتش ريبورت" 14/6/1993 ان عدد العصابات التي لاحقتها السلطات المعنية عام 1992 وصل الى 4 آلاف عصابة تشكّل معاً 228 "اتحاداً" يضم الواحد منها مجموعة من المجموعات الاجرامية المستقلة. اما عدد "اتحادات" المافيا السوفياتية فلا يقل عن 600 اتحاد تمارس نشاطاتها الجهنمية في 29 دولة اضافة الى بلدان الاتحاد السوفياتي السابق. وارتبط الف من العصابات الروسية، كما نشرت "موسكو نيوز" 11/2/1993 بالمافيا الدولية التي عمدت هذه السنة الى تمتين "صداقتها" مع المجرمين الروس. ويتعاون بعض مجموعات المافيا الروسية مع عصابات اميركية واوروبية وينسق مع اباطرة المخدرات الكولومبيين. وتفيد مصادر الشرطة في موسكو ان في روسيا اليوم عشرات المافيات التي يتشكل بعضها على اساس قومي كالمافيا الشاشانية والمافيا الاوسيتية فيما يُعرف بعضها وفقاً لمدن المنشأ مثل المافيا الموسكوفية والمافيا البطرسبورغية. وتحمّل الصحافة المحلية مسؤولية الجزء الاكبر من الجرائم التي تشهدها البلاد الى "المافيا القوقازية" وغالبية اعضائها من ارمينيا واذربيجان وجورجيا او من الجمهوريات الروسية الحاصلة على حكم ذاتي مثل داغستان وشيشان. ويرى مراقبون اجانب ان اعتى المافيات السوفياتية هي الروسية وان اتهام القوقازيين بالعبث بالبلاد مرده خصوصاً العداء العرقي الذي يكنّه الروس لجيرانهم المسلمين. ولا يعني هذا ان المافيات الاخرى بريئة بل تكثر الادلة على قسوة العصابات الشاشانية التي يقول الروس ان 3000 من اعضائها يعملون في موسكو ويتحكمون بعالمها السفلي. وتهرّب هذه العصابات غالباً المواد المشعّة والاسلحة والمتفجرات والمخدرات وتدير شبكات الدعارة وينشط كثير منها في دول اوروبا الشرقية الاخرى. ويعتقد ان اتساع رقعة عمليات المافيا الروسية كان احد اسباب اقبال المافيا الاوروبية الغربية على التعاون معها. لكن اخطر ما تمارسه المافيا الروسية هو تهريب كميات متزايدة من المواد النووية المشعّة الى الخارج. واجهضت الشرطة الالمانية العام الماضي، وفق دراسة اعدتها مجلة "ريسيرتش ريبورت" 14/6/1993 ما يزيد على مئة محاولة لبيع مواد مشعّة هُرّبت من الاتحاد السوفياتي، مثل اليورانيوم والسيزيوم والبلوتونيوم ومصدره روسيا او اوكرانيا. ويخشى الغربيون ان تأتيهم كميات اكبر من هذه المواد مع بدء روسياواوكرانيا بتفكيك ما لديها من سلاح نووي. والروس ليسوا وحدهم متورطين في تجارة المواد المشعة، بل تضطلع المافيا الليتوانية بنشاط لا بأس به في هذا المجال. واشتهرت المافيا الروسية بتميزها و"عراقتها" وتقاليد الزعامة التي تراعيها منذ العشرينات حين ظهرت طبقة "القيادات" في معسكرات الاعتقال والسجون الستالينية. ويقدّر عدد زعماء العصابات الكبيرة ب 228 بينهم حفنة من اقطاب الجريمة تعرف ب "المكتب السياسي" وغالبية اعضاء هذه النخبة من النافذين جاءت من جورجيا الى موسكو حيث عاشت عقوداً تمرست خلالها بالاجرام. وتؤكد معلومات المدعي العام الروسي وسلطات الامن الايطالية قيام تحالف بين عصابات الجريمة المنظمة الغربية والروسية. ويتعاون الجانبان في غسل الاموال القذرة، وفي تهريب المخدرات والخامات الاستراتيجية التي اخذت تزدهر منذ اصبحت حدود روسيا "واهية مثل ورق التواليت" حسب تعبير مسؤول كبير في الداخلية الروسية! وكان رئيس لجنة البرلمان الروسي لمكافحة الجريمة والفساد اصلانبك اصلاحانوف ارسل الى الايطاليين اشارات تحذير من نوع آخر: "اذا لم تعقد حكومتانا اتفاقاً لمحاربة الجريمة المنظمة في اسرع وقت، صدقوني ان ايطاليا ستشعر سريعاً بأنفاس المافيا الروسية خلف رقبتها. ولتعلموا ان مافياويينا مستعدون للتحول ارهابيين وارتكاب اي جريمة بأسلوب احترافي في مقابل مكافأة تقل كثيراً عما يتقاضاه القتلة المحترفون. وليس اسهل من ان يتوجهوا اليكم في ايطاليا كرسل عاديين ويقتلوا ثم يعودوا". ويبدو ان الايطاليين ادركوا بسرعة جدية هذا التحذير، وفي الاسبوع الثاني من ايلول سبتمبر الماضي وصل وزير داخليتهم نيكولا مانتشينو الى موسكو ووقع مع نظيره الروسي اتفاق تعاون لمحاربة المافيا . في غضون ذلك حذّر المدعي العام لمدينة فلورنسا الايطالية ييير لويجي من عواقب انهيار السلطة المركزية في الجمهوريات "السوفياتية" في الوقت الذي تتحكم عصابات الاجرام بجيوش من المرتزقة المدربين المزودين احدث الاسلحة، والمستعدين لتصفية الحسابات في ما بينهم ومهاجمة سلطة الدولة. وتفيد تقارير صحافية ان مئات من البنادق والرشاشات من طرازي "جليل" و"عوزي" الاسرائيلية "تسربت" الى ايدي مهربي المخدرات نتيجة "تواطؤ واسع النطاق" بين سلطات بعض جزر البحر الكاريبي ووسطاء من ميامي وبنوك بنمية. واللافت ان اسم اسرائيل يرتبط بجوازات سفر يحملها كثير من رجال المافيا الروسية والاوكرانية الناشطين في اوروبا الشرقية. ونقلت صحيفة "ذي صانداي تليغراف" 7/3/1993 عن مصادر اميركية ان منظمات يهودية مارست ضغوطاً على وزارة العدل الاميركية لئلا تسلط الضوء بقوة على المافيا الروسية ونشاطها في الولاياتالمتحدة خوفاً من ان يعرقل ذلك الهجرة اليهودية من روسيا الى اسرائيل. واستناداً الى تقرير نشرته اخيراً صحيفة في براغ "تتسلح" غالبية رؤوس "المافيا الموحدة" للجمهوريات "السوفياتية" الناشطة في العاصمة التشيخية، بجوازات سفر اسرائيلية. ويتصدر هؤلاء وهم جميعاً اوكرانيون "رجل اعمال" يدعى موغيلوفيتش تمتد صلاته الى اسرائيل والولاياتالمتحدة ويدير اعماله "التجارية" من بودابست حيث مقره الرئيسي. ومن هناك ايضاً يأتي معظم الاموال التي يتصرف بها و"ينظفها" في تشيخيا. ويؤكد مسؤولون في الشرطة المحلية ان موغيلوفيتش واعوانه المقربين يسيطرون على "جيش" من حوالي 3 آلاف أوكراني وروسي وشاشاني وجورجي ينشطون في اطار الجريمة المنظمة في براغ. وفي العاصمتين التشيخية والهنغارية كما في عواصم بولندا ورومانيا وسلوفاكيا وبلغاريا وروسيا، تقف السلطات عاجزة تقريباً في مواجهة امثال موغيلوفيتش و"جيوشهم". فالشرطة في هذه الاقطار تعاني شح المصادر المالية وتشكو تخلفها عن المجرمين المحترفين المزودين أحدث الوسائل التكنولوجية والذين "يسبقوننا دائماً خطوة واحدة على الاقل" كما يقول ضابط شرطة بولندي. ويضيف: "انهم يحلقون بطائرات كونكورد فيما نستخدم نحن سيارات ويركب القضاة عربات تجرها الخيل". ولهذا السبب ايضاً يفلح اخطبوط المافيا في الافلات من المطاردة، ويلف اذرعه حول ضحاياه الجدد في الشرق الاوروبي وجمهوريات "الاتحاد السوفياتي".