-1- لا أحد يشك للحظة واحدة، بأن الشغل الشاغل لمعظم زعماء وقادة المنطقة، بما فيها من كتل وأحزاب ومنظمات، وجبهات تقدمية ومركزية، وأصولية، ومحافظة، هو معالجة القضايا المزمنة والمستجدة التي تواجه بلادهم وشعوبهم، كالاستعمار والاحتلال، ومناطق النفوذ، وترسيم الحدود، والمياه، وقضايا الحرية والتحرر، والتضامن العربي، والإخاء الإسلامي، والوحدة، والديموقراطية، والتعددية الحزبية، والتكافل الاجتماعي، والحفاظ على البيئة، والثروات الوطنية، ومكافحة الإرهاب والتلوث والأمية الثقافية، وتعقيدات العولمة، والتكيّف مع متطلبات ومعطيات الألفية الثالثة للميلاد، وهي وإن كانت مهمات وقضايا تنوء بحملها الجبال، فإن بعض الزعماء العرب يحب تعدد القضايا كتعدد الزوجات. وعلى رأس هذه القضايا جميعاً هي قضية "فلسطين"، فهي ثابتة كالشمس وكل القضايا الأخرى تلف وتدور حولها. ولذلك حتى لا يدهمهم الوقت، أو يأخذها منهم أي شاغل، وتتجاوزهم وتتجاوزها ايقاعات العصر المتسارعة، فهم: في مكاتبهم الرسمية في جلساتهم الخاصة في قيلولتهم الغدائية عند استقبال أو وداع الوفود الرسمية أو الشعبية وأثناء تسلم أو تقديم أوراق الاعتماد وفي رياضتهم الصباحية حتى وهم يقفون دقيقة صمت على روح هذا أو ذاك أو يضعون أكاليل الزهور على قبر الجندي المجهول أو يجرون محادثات بالغة الدقة في أية بقعة من بقاع العالم، لا بد وأن يشرد أحدهم للحظات، ويتذكر ولو بلاطة من مخيم "قلانديا"، أو كريفونة من بساتين يافا أو حيفا، ثم يهز رأسه ويعود إلى محدثه أو مرافقه. وهم محقّون في ذلك، فهذه القضية، على الرغم من بعض التشوهات التاريخية، والتجاعيد الجغرافية التي لحقت بها هنا أو هناك، وعلى الرغم من توالي السنين والمقابر، في داخلها وحولها، وعدم ثبات طاولة النخاسة التي تقف عليها صيفاً شتاءً، ما زالت تحتفظ بكثير من عناصر السحر والجاذبية والإثارة. ولذلك فهم، في نهاية كل دوام، يتركون كل القضايا الأخرى، بملفاتها وحواشيها وأرقامها، وتسلسلها، في مكاتبهم الرسمية أو في خزائنهم، أو بين أيدي مستشاريهم ومعاونيهم، ويصطحبون معهم ملف القضية الفلسطينية، وحدها دون سواها، إلى بيوتهم وغرف نومهم، وأسرتهم، حتى ساعة متأخرة من الليل. إن هذا الارهاق اليومي المستمر، والسهر المتواصل معها وإلى جانبها عاماً بعد عام، وجيلاً بعد جيل، يؤدي في أغلب الأحيان إلى الوهن والشيخوخة المبكرة، وهم في ذروة النضج الوطني والفحولة القومية. ويبدو أن أميركا أدركت هذه الحقيقة أخيراً ولذلك صارت كلما دعت إلى تنشيط عملية السلام تغرق المنطقة بحبوب وصناديق "الفياغرا"! -2- بعد أن قرأت مقطعاً لأحد شعراء الحداثة ورأيت مشهداً من آخر فانتازيا تاريخية وأطلعت على الآثار الجانبية لكل أنواع المهدئات واستمعت إلى موجز للأنباء وإلى أغنية "عدت يا يوم مولدي" لفريد الأطرش وأشعلت لفافة، ونظرت للحظة إلى الافق البعيد... سارعت فوراً للاتصال ببنك الدموع الاحتياطي في السماء وطلبت قرضاً طويل الاجل... لأنه لم يعد في عيوننا من هذه المادة ما يكفي لمسلسلات وأخبار "فضائية واحدة" فرحّب بي الملاك المختص بهذه الأمور أيما ترحيب ولكنه، وكنوع من الشكليات طلب "ضماناً" ما... لسداد هذا القرض في حينه: ذهباً، أرضاً، تاريخاً، انتصاراً، اختراعاً. فكتبت له على الفور: سنرهن عندكم ما هو أغلى من الذهب. والأرض، والعلم، والشرف، والنصر: حكّامنا. ولا تعيدوا لنا أيّاً منهم مهما كان ذلك عسيراً علينا حتى نسدّد كل ما علينا حتى آخر دمعة. وقد ضمنت الرسالة صورة جامعة لهم وهم مبتسمون، متلاصقون، متكاتفون. وقد أعادها إليّ على الفور، وقد كتب على ظهر المغلف: مرتجع مع الشكر. ثم ما هذه المناظر؟ بل ما هذا المزاح الثقيل! ألا تخشى عقاب ربك يا مجرم لأنه يمهل... ولا يهمل.