القرار الذي اتخذه الرئيس السوري حافظ الاسد ورئيس وزراء اسرائيل ايهود باراك باستئناف المفاوضات بين سورية واسرائيل بهدف الوصول الى اتفاق سلام، كان مثار تعليقات شتى في الدوائر السياسية ووسائل الاعلام. فهو من جهة اولى قرار مهم في مسألة مركزية تشغل الرأي العام العالمي، وهو من جهة ثانية قرار مفاجئ اسقط المقولة التي سبقته من ان المساعي بين الجانبين وصلت الى الطريق المسدود. وما من شك ان كلاً من الرئيس الاسد وباراك أجريا حسابات دقيقة حسابات جيو-استراتيجية وهما عسكريان - اصلاً - يجيدان هذا النوع من الحسابات، وقررا في ضوء هذه الحسابات، استغلال الفرصة المتاحة، اي الظرف المناسب، والعودة الى طاولة المفوضات. وطبيعي ان لكل من الرجلين نظرته واسبابه ومبرراته لمثل هذا الخيار. واذا كان الهدف البعيد الجامع بينهما، هو السلام الشامل والعادل، كما يقال، فان اسباب ومبررات العمل التفاوض للوصول اليه هي اما مختلفة واما متناقضة. فالزعيم السياسي عندما يجري حساباته لاتخاذ قرار ما، فانه يأخذ في الاعتبار ما يمكن ان يحققه هذا الامر من مكاسب لبلاده ارباح وما يمكن ان يجنبها من كوارث خسائر في مرحلة تاريخية معينة. يضاف اليه، في مثل هذه الظروف والحالات، ان لدى المسؤولين في الجانبين مبررات وحوافز معروفة او يمكن استنتاجها وفي المقابل هناك مبررات وحوافز تظل طي الكتمان باعتبارها جزءاً من الديبلوماسية الدولية السرية. فما هي خلفيات قرار ايهود باراك والمبررات القريبة والبعيدة التي جعلته يوافق على استئناف المفاوضات مع سورية. هناك تسعة مبررات او دوافع: 1 - في خطة رابين: فلقد جاء باراك الى السلطة في اسرائيل وانتخب من الاسرائيليين باكثرية 56 في المئة باعتباره امتداداً لخط اسحق رابين اي خط السعي الى السلام مع جيران اسرائيل لا سيما مع سورية، واغتيل رابين على يد احد المتطرفين اليهود بسبب هذا الخيار. وان العمل في هذا الاتجاه من جانب باراك يعكس من جهة رغبة الذين انتخبوه، ويمثّل من جهة ثانية تحدياً اخلاقياً وسياسياً شخصياً. 2 - اخراج سورية من دائرة الصراع العربي - الاسرائيلي. وبحسب معهد جافي للدراسات الاستراتيجية فان هذا الهدف يشكل العنصر الثاني، من حيث الاهمية بعد التنسيق الاستراتيجي الكامل مع الولاياتالمتحدة من مكونات استراتيجية باراك. فهو يدرك ان امن اسرائيل القومي يتعرض لخطرين اساسيين: مصر في الغرب وسورية في الشرق. وبعد اخراج مصر من دائرة الصراع في السبعينات على يد مناحيم بيغن، فهو يود ان يحقق الانجاز ذاته مع سورية على الجبهة الشرقية كي يصبح اي احتمال بشن الحرب على اسرائيل شبه مستحيل. اكثر من ذلك، كي يصبح ارساء حجر الزاوية لعهد جديد من السلام في الشرق الاوسط امراً ممكناً. ذلك ان السلام مع سورية هو مفتاح السلام مع العديد من الدول العربية "بما يجعل الشرق الاوسط متصالحاً مع ذاته"، كما يقول بيريز، ويشرع الباب للتعاون الاقتصادي الاقليمي ويسيل لعاب الرأسمالية اليهودية. وعند باراك لا ينفصل مفهوم السلام عن مفهومه لامن اسرائيل باعتباره احد ابرز القادة العسكريين في اسرائيل، وبهذه الصفة لديه صدقية لدى القاعدة الشعبية في بلاده. أزمة مجتمع 3 - احتواء ازمة المجتمع الاسرائيلي. ان اختيار باراك عنواناً جديداً لمعركته الانتخابية ولخياراته السياسية تحت شعار "اسرائيل واحدة" بديلاً للشعار التاريخي حزب العمل، هذا الاختيار يخفي في الحقيقة واقعاً معاكساً تماماً هو واقع اسرائيل المشرذمة التي يحاول باراك ان يراها او يتصورها او يجعلها موحدة. فلقد انتهى زمن الاندماج الوطني ولم يعد قالب الصهر الاسرائيلي Le Melting-pot يعمل كما في السابق في الاربعينات والخمسينات من خلال المدرسة والجيش. لقد انتهت مقولة خلق مجتمع متجانس بمجرد كونه مؤلفاً من يهود. وبعد نصف قرن على قيام اسرائيل فانها تجتاز "مرحلة انتقالية تضطر فيها الى اعادة تعريف الرابط الوطني". ومن دون الدخول في تفاصيل هذه المسألة، وهي كثيرة، يمكن القول ان الآباء المؤسسين لاسرائيل لم يعطوا الاهمية الكافية للهويات الدينية والاثنية والثقافية والايديولوجية. ولم يعد الامر مقصوراً على حزبين العمل واللكيود، ولا على كتل رئيسية: الاشكناز والسفارديم والمهاجرين الروس والعرب، بل تعداها الى 33 حزباً شاركت في الانتخابات النيابية الاخيرة الكنيست 15 منها 22 حزباً تشارك للمرة الاولى! وهذا يعطي صورة عن المجتمع الاسرائيلي، بل عن ازمة هذا المجتمع، والذي يحاول باراك ان ينقذه من نفسه في الوقت المناسب. 4 - استباق التحدي الديموغرافي. ذلك ان النظر قليلاً الى الامام عشرون سنة وليس اكثر يضع باراك امام حقيقة ديموغرافية صعبة، وهي ان العرب سيصبحون الاكثر في فلسطين الانتداب وبنسبة 52 في المئة الى 56 في المئة وحتى في داخل اسرائيل داخل الخط الاخضر، فان العرب الذين يمثلون الآن 17 في المئة 970 الفاً من اصل 4.9 مليون يهودي سيشكلون ما بين 21 الى 26 في المئة العام 2025 وهم متمركزون في غالبيتهم في شمال اسرائيل. وستقفز نسبة العرب في القدس من 29 في المئة الى 38 في المئة عام 2020. ان كل المعنيين بمصير اسرائيل ويرون بعيداً يدركون انها ستخسر "معركة المهود" مهما سعت لتقليص الفارق الديموغرافي بواسطة المهاجرين الروس، وان هذه الاقلية اليهودية ستكون او ستصبح اشبه بغيتو يعتمد التمييز العنصري للدفاع عن وجوده ما لم يسرع فيستبق التحدي الديموغرافي ويقيم السلام مع العرب. 5 - اتقاء سلاح الدمار الشامل. هاجس آخر يشكل خطراً على اسرائيل هو سلاح الدمار الشامل، بدءاً بالصواريخ مروراً بالقنابل الكيماوية والبكتريولوجية، وصولاً الى القنبلة الذرية. فالى متى، وبأي ثمن، يمكن منع العرب من امتلاك مثل هذه الاسلحة؟ هذا سؤال يقض مضاجع المخططين الاستراتيجيين في اسرائيل وباراك بالذات الذي يردد دائماً: "كيف نستطيع ان نواجه زعيماً متطرفاً في المنطقة قرر ان يستعمل سلاح الدمار الشامل ضدنا؟" ان امتلاك اسرائيل 200 قنبلة ذرية في مواجهة العالم العربي 14 مليون كلم2 هو اقل خطراً وفعالية من امتلاك العرب قنبلتين ذريتين في مواجهة اسرائيل 20 الف كلم2 ان السلام وحده يجمّد هذه الامكانية الى حدها الادنى وان لم يلغها تماماً ويلجم التوق المحموم الى امتلاك سلاح الدمار الشامل في المنطقة ويقلل من فرص استخدامه… بانتظار الاستغناء عنه وتدميره لدى استتباب السلام. 6 - الخروج من المستنقع اللبناني. ذلك ان الرأي العام الاسرائيلي بحسب استطلاعات الرأي يعتبر ان القضية التي تعنيه في الدرجة الاولى هي خروج الجنود الاسرائيليين من جنوبلبنان، وذلك لسببين اساسيين: الاول: مقدار الخسائر البشرية التي الحقتها المقاومة بالجنود الاسرائيليين على الجبهة الوحيدة المشتعلة منذ نحو عشرين سنة. الثاني: ان المسؤولين الاسرائيليين من اليمين واليسار يعلنون ان لا مطالب اقليمية لهم في لبنان، مما يزيد من تساؤل الشارع الاسرائيلي عن معنى وجود ابنائهم في المستنقع اللبناني. لهذا اعلن باراك والتزم امام الشعب الاسرائيلي انه سيسحب جنوده من جنوبلبنان قبل تموز يوليو عام 2000. ومثل هذا الانسحاب الذي لا رجعة عنه، يفترض اتفاقاً مسبقاً مع سورية ولبنان، لان البديل لذلك سيكون بالتأكيد مواجهة شاملة في حال تم الانسحاب وتخطت اعمال المقاومة الحدود الدولية لاسرائيل. 7 - السلام مع الرئيس الاسد: بعد طول تردد، حزمت اسرائيل امرها واعتبرت ان افضل السلام الممكن ان تعقده مع سورية هو سلام مع الرئيس الاسد. وترددها عائد في الحقيقة الى نصائح هنري كيسنجر السابقة واللاحقة والقائلة ان مصلحة اسرائيل الثابتة تكمن في اقامة السلام مع الاكثرية العربية السنية وليس مع "حلف الاقليات". ولقد وجدت ان الرئيس السوري زعيم صعب وخصم عنيد لاسرائيل، ولكنه حين يلتزم بأمر فانه يحترم التزامه، وان لديه من التجربة والصدقية ما يجعل السلام معه رهاناً مضموناً. وهذا ما يفسّر صفات الاطراء للرئيس الاسد التي رددها باراك في اكثر من مناسبة. التفسير المزدوج 8 - تأمين الحلول الوسطى في الامور الاجرائية. من ذلك رفع مستوى التمثيل لدى الجانبين المتفاوضين. وهو مطلب اسرائيلي منذ ايام رابين وبيريز وذلك بمشاركة رئيس الوزراء الاسرائيلي ووزير الخارجية السوري باعتباره ممثلاً شخصياً للرئيس الاسد. ومن ثم اجتهاد الديبلوماسية البريطانية في الوصول الى حل تطلبه سورية في موضوع "وديعة رابين" او ما يسميه ايتامارا رابينوفيتش نقل عن كيسنجر بالغموض البناء، بالموافقة على "استئناف المفاوضات من حيث توقفت في آذار مارس 1996" ويكون لكل من الطرفين تصوره وتفسيره لمحتوى هذا التوقف واسبابه، وهي بالتالي صيغة تحتمل تفسيراً مزدوجاً يرضي سورية ولا يغضب اسرائيل. 9 - اخيراً الشهية الى الدعم المالي الاميركي بعد السياسي، بحيث اصبحت اسرائيل تتحدث عن دعم اميركي - اوروبي كثمن لانسحابها من الجولان وجنوبلبنان. وبدأت تطرح ارقاماً تتراوح ما بين 16 و20 مليار دولار في وقت اعلن الرئيس كلينتون ان اميركا وشركاءها "سيموّلون عملية السلام". هذه هي باختصار بعض المبررات والحسابات التي اجراها باراك للدخول في عملية السلام. وقد تكون جزءاً من الصورة الكاملة لما جرى ويجري خلف الكواليس. ولكنها تعطي صورة اكثر وضوحاً عن طبيعة الموقف الاسرائيلي وابعاده وعن الاسباب العميقة التي تجعل السلام حاجة اسرائيلية، وتجعل باراك يختار الظرف المناسب لاستئناف مفاوضات السلام