وضع رئيس وزراء اسرائيل الجديد ايهود باراك، عناوين سياسة جديدة تختلف جذرياً عن سياسة سلفه، بنيامين نتانياهو، وترك الانطباع بأنه سيتجاوز سلفه الأسبق، اسحق رابين، في الجرأة على القيادة المبكرة. بذلك ساهم باراك، جذرياً، في مرحلة حسن النوايا حيث تتلاقى الرغبة والحاجة العربية والاميركية والاسرائيلية والروسية، للاستفادة من فسحة زمنية لتحقيق انجازات في عملية السلام للشرق الأوسط. التحدي الآن هو في تفاصيل ترجمة الأقوال الى أفعال بالشجاعة الضرورية وبالسرعة المطلوبة، والكرة أولاً في الملعب الاسرائيلي. انما هذا لا يعفي اللاعبين الآخرين من مسؤولية المساهمة الواعية في انضاج العملية السلمية. فالأطراف العربية مطالبة بوضع تصور عملي وواقعي لكيفية أسر الوعود الاسرائيلية وتفنيد تفاصيلها بهدف تحقيق السلام الشامل المنشود بدلاً من التسابق على المسارات التفاوضية بكراهية متبادلة ونوايا مبيتة. والإدارة الاميركية، التي يريد الجميع لها دوراً حيوياً، عليها الابتعاد عن الانحياز لحسابات سياسية محلية انتخابية، وتجنب اخطاء الماضي عندما غلّبت التكتيك الضيق على الاستراتيجية. أما روسيا فإن عليها الاختيار بين التغيب المعهود عن رعاية عملية السلام وبين المشاركة الفعلية. في البدء، لا بد من تسجيل أبرز المآخذ على رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد لاستبعاده العرب الاسرائيليين من حكومته الجديدة التي تضم 75 مقعداً وتحتوي المتطرفين والعلمانيين من اليهود. فالأقلية العربية في اسرائيل تتجاوز المليون وتشكل 20 في المئة من السكان يمثلها عشرة برلمانيين في الكنيست التي تضم 120 عضواً. وباراك نفسه تمتع بدعم ساحق من العرب الاسرائيليين أثناء حملته الانتخابية، وصوت لصالحه حوالى 95 في المئة منهم. فابتعاده عن العرب الاسرائيليين واستبعادهم من الحكومة لا يعكسان فقط افتقاره الولاء والعدالة، وانما اختياره نمطاً عنصرياً جلي الوضوح. وما لم يصحح باراك هذا الخلل فإنه يكشف عن جانب اساسي في شخصيته و"معدنه" ويفتقد تلك الجرأة والشجاعة التي يزعمها ويريد إبرازها على الصعيد الاقليمي. ففي استبعاد عرب اسرائيل من الحكومة جبن وعنصرية حتى وان كانت المبررات عملية وبراغماتية. من ناحية أخرى، وعلى الصعيد الأوسع لرسالة باراك الى الفلسطينيين، كان خطابه أمام البرلمان مطلع الاسبوع ملفتاً في نبرته الانسانية. تحدث عن "معاناة الشعب الفلسطيني" وتعهد بالعمل على وضع حد لها. عبر عن احترامه لألم الفلسطينيين معترفاً في الوقت ذاته بأن "الصراع المر بيننا سبب معاناة بالغة لشعبنا". بذلك أخرج باراك مخاطبة الفلسطينيين من الخانة المعهودة التي صنفتهم إما عدواً أو معتدياً، واسرائيل الضحية الدائمة. نادى بتصحيح "الاخطاء التاريخية" وتعهد بالعمل مع "القيادة الفلسطينية المنتخبة" التي يرأسها الرئيس ياسر عرفات "بشراكة واحترام لنجد معاً ترتيبات عادلة متفق عليها للتعايش، والحرية، والازدهار والجيرة الجيدة في هذا البلد المحبوب". ليس واضحاً ما عناه باراك عندما توجه الى الفلسطينيين بقوله "لجيراننا الفلسطينيين" أو بحديثه عن "الجيرة الجيدة في هذا البلد". ومن السابق لأوانه الاستنتاج ان كان يقصد الجيران في غزة والجيرة مع العرب الاسرائيليين، أو ان كان قصده التلميح باحتمال قيام دولة فلسطينية جارة لاسرائيل تحدد طبيعتها لاحقاً. الواضح ان باراك تعمد طمأنة الطرف الفلسطيني بأنه لا يعتزم إهمال المسار الفلسطيني من المفاوضات عند اعطاء المسارين السوري واللبناني الاهتمام الذي يستحقانه. قال ان أهمية المسارات "متساوية" وانه لن تكون هناك أولوية لمسار على حساب الآخر، وان المفاوضات ستسير على جميع المسارات معاً، وان "التوصل الى اتفاق نهائي مع الفلسطينيين وتحقيق السلام مع سورية ولبنان هدفان حيويان وطارئان ومتساويان في نظري". بهذا الكلام جسّد باراك، سباق المسارات كتعهد شفوي، ذلك ان ما تعهد به ينسف بدعة كان رابين اخترعها زعمت ان اسرائيل غير قادرة على "هضم" التفاوض على أكثر من مسار. فكلام باراك عن التوصل الى "اتفاق نهائي" مع الفلسطينيين يوحي بأنه لا يعتزم الاكتفاء بتنفيذ اتفاق "واي" ثم الاسترخاء الى حين استكمال المسارين السوري واللبناني من المفاوضات. وهذا مشجع، اذا ما اقترنت الأقوال بالأفعال. كذلك كلامه عن مركزية "السلام الشامل" مع جميع الجيران مصدر تشجيع، لا سيما وان باراك أعاد أساس التفاوض مع سورية الى مرجعية مدريد والقرارين 242 و338 اللذين ينطويان على مبدأ الأرض مقابل السلام، كما كرر اعتزامه على انهاء الوجود العسكري في لبنان في غضون سنة. وهو خاطب الرئيس السوري حافظ الأسد بلغة "احترام القوة" اذا جاز التعبير، عندما قال: "لقد كنا عدوين لدودين باسلين على الساحة الحربية. وقد حان الوقت لبناء سلام شجاع علني يضمن مستقبل وأمن شعوبنا وأطفالنا وأحفادنا". هذه بداية طيبة، حسب الرأي السوري، انما ما زالت الأمور في خانة "العموميات"، فدمشق ترحب بنبرة باراك وتوجهه، لكنها تتوقع الخطوة التالية ان تكون أكثر تحديداً وتفصيلاً، تتمثل في تلخيص باراك ما أنجزته خمس سنوات من التفاوض بين سورية واسرائيل ثم البناء عليها عبر حل النقاط التي لم يتم الاتفاق عليها بعد. فسورية لن تتراجع عن موقفها المصر على استئناف المفاوضات من حيث توقفت والبناء على ما تم انجازه. روسيا اعلنت دعمها الموقف السوري هذا، وكذلك أوروبا. والولاياتالمتحدة مقتنعة به بعدما أدركت ان لا مجال لاستئناف المفاوضات سوى من حيث توقفت. واشنطن مقتنعة ايضاً بأن ثقة باراك باستئناف المفاوضات مع سورية تعني ضمناً انه على استعداد لاستئناف المفاوضات من حيث توقفت. ولذلك فإن الادارة الاميركية مستعدة لتلخيص ما حدث في المفاوضات التي كانت واشنطن شاهداً عليها امام باراك، وحسب مسؤول اميركي، "سنعرض امامه أين وصلت الأمور، لكنه هو صاحب التقويم والقرار". والأرجح ان يتخذ باراك قرار استئناف المفاوضات من حيث توقفت. فهو أقر بتلازم المسارين السوري واللبناني، وبضرورة تحقيق انهاء الوجود الاسرائيلي العسكري في جنوبلبنان عبر البوابة السورية. وبما انه تحدث عن الانسحاب الكامل من لبنان في غضون سنة فإن باراك يعتزم بذلك استكمال المسار السوري من المفاوضات في غضون سنة ايضاً. الديبلوماسية السورية تدرك اهمية الاقرار بتلازم المسارين السوري واللبناني، وتكريس العلاقة العضوية بين سورية ولبنان عبر كفالة الوجود العسكري السوري هدوءاً على الحدود اللبنانية - الاسرائيلية بعد الانسحاب الاسرائيلي من جنوبلبنان. فهذا ليس فقط اعترافاً واقراراً اسرائيلياً، وانما اميركي ايضاً، بأن لبنان يشكل عمقاً استراتيجياً لسورية يجعله شبه "محمية" لها. ودمشق تتقن فن الأخذ والعطاء عندما تتوضح امامها الخطوط الاستراتيجية العريضة، ولذلك فإنها على استعداد للتفاوض على السلام باعتدال وللتوقيع مع اسرائيل على سلام سوية مع لبنان في غضون الفترة الزمنية المنشودة. أثناء عهد نتانياهو كانت الرسالة السورية الاساسية فرض الاعتراف بحتمية الترابط بين جنوبلبنان وهضبة الجولان، وإلا فإن البديل هو الغرق في المستنقع اللبناني الى حين انهزام الجيش الاسرائيلي وانتصار المقاومة. وهذا بدوره، حسب التفكير السوري حينذاك، كان يعزز منطق المقاومة باعتبار المقاومة، وليس عملية السلام، الوسيلة لتحرير الأرض، بغاية نشر هذا المنطق في المنطقة بكاملها. اليوم، تختلف الاستراتيجية والتكتيك معها. والكلام ليس عن تعزيز المقاومة المتمثلة في "حزب الله" وانما عن وسائل ضبطها وتحويلها الى حزب سياسي له مكانته "المدنية" ما بعد الانسحاب الاسرائيلي وتوقيع السلام. ما ليس واضحاً في أذهان أقطاب الادارة الاميركية هو: أولاً، إن كانت سورية قادرة فعلاً على ضبط "حزب الله" في الجنوباللبناني، أو ان كان سيفرز اكثر الانقسامات الداخلية الايرانية على الساحة الجنوبيةاللبنانية. ولذلك تطلب الإدارة الاميركية، وتتوقع، من سورية، السيطرة على الجنوباللبناني لإبقائه هادئاً. ثانياً، ان تطلب واشنطن، أو تتوقع، من دمشق ان تكف عن تقويض المسار الفلسطيني من المفاوضات عبر وقف الدعم للمجموعات الفلسطينية الرافضة للسلام ولعملية السلام والمعارضة للسلطة الفلسطينية والرئيس ياسر عرفات. وتلفت الادارة الاميركية الى التناقض بين استعداد سورية للتفاوض مع اسرائيل على مسارها وبين تقويضها المسار الفلسطيني عبر تشجيع المعارضة له واحتضانها مجموعات وأفراداً يتعهدون بالاطاحة بالعملية السلمية. ودمشق تفهم المخاطبة الاميركية لها، لكنها في انتظار خطوات ملموسة من اسرائيل قبل تفعيل اجراءات ضبط لغة "المقاومة" في أشكالها المتعددة، وفي ذهنها ايضاً المردود على الصعيد الثنائي مع الولاياتالمتحدة، بدءاً بحذف اسم سورية من قائمة "دعم الارهاب" وانتهاء بتعاون ومساعدات اقتصادية وأمنية. واحترازاً، فإن دمشق لا ترمي البيض كله في السلة الاميركية، ولذلك تتطلع الى روسيا ليس فقط بسبب حاجة سورية لقطع غيار للاسلحة أو لطائرات وصواريخ مضادة للدبابات، وانما ايضاً ليوازي الوزن الروسي الانحياز الاميركي التقليدي لاسرائيل ويخفف من أضرار هذا الانحياز. وبهذا ترمي دمشق الى تشجيع موسكو على تنشيط علاقاتها التاريخية مع الدول العربية، في اطار تفعيل دورها كأحد راعيي عملية السلام. وهذا هو الأفق الاستراتيجي لزيارة الرئيس حافظ الأسد لروسيا. فحسب القراءة السورية، حُجمت روسيا من البلقان ومن الطبيعي لها ان تتطلع جغرافياً وتاريخياً الى الدول العربية، ودمشق في وضع يمكنها من سند الدور الروسي بدلاً مما كانت عليه ايام الحرب الباردة من حاجة الى الاتكال عليه. فهذه مرحلة التحدث عن الشراكة وليس عن الاستقطاب. انها فترة التطلع الى انجازات سلمية كخيارات استراتيجية، فيما كانت الحرب الباردة فترة الحديث عن التكافؤ الاستراتيجي عسكرياً بين اسرائيل والعرب. والكلام اليوم يصب في خانة الاستفادة من فرصة تاريخية والتخوف من هدرها. وحدث ان كل اللاعبين، في لحظة نادرة، يرغبون بالتحرك الى الامام في غضون فترة زمنية قصيرة اقصاها 18 شهراً - موعد انتهاء ولاية الرئيس بيل كلينتون. فالأحداث والرغبات والتوجهات والقرارات والتنميات "تتآمر" في الاتجاه الايجابي. لكن الخوف يتربص بها، لأن سيرة منطقة الشرق الأوسط تفتح الشهية على السلبيات. انما سيرة المنطقة وقادتها ليست الوحيدة في معادلات عملية السلام. فواشنطن اليوم، بقرارها وبرغبة جميع الأطراف المعنية، باتت اكثر اللاعبين أهمية، فدورها حيوي في انقاذ عملية السلام أو... دفنها. وعليه، فإن بيل كلينتون يواجه التحدي الأكبر، اي السير على حبل مشدود بين تصميمه على انهاء ولايته بإنجاز تاريخي في عملية السلام وبين الاعتبارات السياسية المحلية ذات العلاقة بنائبه آل غور وفرصه في الانتخابات الرئاسية. هنا تبرز ناحية القيادة بمعناها الحقيقي والدقيق. بيل كلينتون تحت المجهر. كذلك ايهود باراك وحافظ الأسد وياسر عرفات. فالنوايا قد تكون طيبة، انما الشيطان في التفاصيل. وحكاية الشرق الأوسط تفاصيل بتفاصيل.