ربما كنا نحن العرب ننتمي إلى تلك الأمم التي لا تستطيع العيش دون اساطير، فتاريخنا القديم والحديث هو تاريخ معاناة وانعطافات تبدو في أحيان كثيرة من النوع الذي لا يحتمل، والاسطورة في معنى أساسي من معانيها هي أن تجعل العقل الإنساني يحتمل ويتفهم مفارقات الواقع التي لا تحتمل، وذلك بغض النظر عن الجوانب السلبية الناتجة عن هيمنة الأساطير والرموز والأبطال على مخيلة البعض ووعيه، وشيوع نزعة إعلامية تروج لثقافة تريد تحويل المجتمع ذاته إلى خادم مفتون بالأساطير والرموز كتعويض عن بؤس الحاضر. لكن وعلى خلفية الحاجة الشعورية للجانب الايجابي في نشوء وتكون الأساطير، خصوصاً ونحن بصدد اسطورة واقعية هي اسطورة أم كلثوم، فقد تابعت المسلسل المصري المكرس لحياتها والذي اذيع خلال شهر رمضان المنصرم، بشغف وقلق. بشغف لأنني من عشاق أم كلثوم وعز عليّ أن اكتشف جهلي شبه المطبق بوقائع وتفاصيل حياتها، وهذا ما شدني إلى متابعة الأحداث أكثر. وبقلق لأن أم كلثوم امرأة وانعام محمد علي مخرجة المسلسل امرأة أيضاً، فيصبح نجاحه ضرورة مضاعفة، إذ أن ذلك سيعزز من مكانة المرأة العربية وجدارتها وأحقيتها بالحرية والمساواة وتصدر الأحداث، لأننا نحن العرب بدون ادراك هذه الحقيقة سنظل نراوح ضمن مفاهيم التخلف حتى الألفية الرابعة في أقل تقدير. لكن المسلسل تأليف الكاتب المبدع محفوظ عبدالرحمن نجح وبجدارة. نجحت إنعام محمد علي في تقديم عمل فني طويل ومحتشد بالأحداث والتفاصيل، مفعم ومثير للمتابعة والتأمل، ولم يكن من السهولة تجنب النزعة العاطفية والمبالغات والاستطرادات الممكنة الوقوع في عمل كهذا لولا ادراكها العميق لأهمية ما تقوم به. قبل سنوات، وخلال مهرجان دمشق السينمائي، جمعتني لقاءات شخصية متتالية مع المخرج الراحل صلاح أبو سيف ومن آرائه المهمة التي تخطر على بالي الآن، قوله حين سألته عن تجربته الطويلة في التعامل مع مستويات مختلفة من الممثلين، قوله: "ليس هناك ممثل جيد وممثل رديء، هناك مخرج جيد ومخرج رديء". هذه المقولة ذات الدلالة المهمة تصبح ضرورية هنا، لأنها تشير إلى أهمية الجهد الذي بذلته إنعام محمد علي مع مجموعة من الممثلين لم تعط لغالبيتهم من قبل الفرص الفنية القادرة على إظهار قدراتهم ومواهبهم التي بدت واضحة في هذا المسلسل، حيث استطاعوا نقلنا إلى المشاهد العريضة والجوانب والتفاصيل المهمة لعصر أم كلثوم، وربما لا أكون مبالغاً إذا قلت إنهم جعلونا نعيش هناك فعلاً، وباستغراق في الأداء المثير للاستغراب في شدة صدقه أحياناً، فقد كانت صابرين مفاجأة حقيقية كممثلة أدت دوراً ليس من السهولة تحقيقه بهذه السوية. ولا اعتقد بأن الموهبة والذكاء وحدهما كافيان للقيام بمغامرة تمثيل دور أم كلثوم، بل ان الذي يبدو هو أن صابرين تمتلك أيضاً تلك البراءة الكبيرة التي لا بد منها لكل فنان حقيقي في مغامرات كهذه، لكن إنعام محمد علي لم يكن في وسعها أن تعيد اكتشاف صابرين لوحدها، بل كان لا بد لها من إعادة اكتشاف جميع الممثلين تقريباً، وبشكل أكثر وضوحاً تلك المجموعة التي رافقت أم كلثوم طوال حياتها، كالشخصيات التي أدت أدوار عائلتها وعوائل الذوات التي رحبت بها ورعتها، إلى جانب القصبجي أحمد راتب وأحمد رامي كمال أبو ريا والشيخ أبو العلا رشوان توفيق وزكريا أحمد محمد كامل وبيرم التونسي سامي عبدالحليم ومحمد عبدالوهاب عبدالعزيز مخيون خصوصاً في الحلقات الأخيرة، ومنيرة المهدية نادية رشاد ووجدي هيكل أحمد شاكر ومجموعة الممثلين ككل، حيث شكلوا جميعاً ما يمكن ان نسميه هنا ب"مجتمع أم كلثوم" الذي من خلاله أعادت المخرجة اكتشاف عصر أم كلثوم بشخصياته ورواده كطلعت حرب وفكري أباظة ومصطفى أمين وغيرهم من رواد الثقافة ومؤسسي الحياة المصرية الحديثة. لقد أعاد المسلسل إلى عصر أم كلثوم، إلى أغانيها الاخاذة وشخصيتها الفذة باعتبارها أحد أهم أساطير الواقع العربي في القرن العشرين .