ما زالت غالبية المؤسسات المالية الدولية تعاني من الانعكاسات التي خلفتها ازمة الاسواق الآسيوية، قبل 3 سنوات تقريباً، وما اعقبها من هزات ارتدادية طالت الاسواق الناشئة الاخرى، في روسيا وأميركا اللاتينية وغيرها. وتمثلت هذه الانعكاسات على المؤسسات المالية الدولية بصورة رئيسية، في تخلف الدول المعنية عن سداد الالتزامات المترتبة عليها. ويعتبر البنك الاوروبي للاستثمار الذي تساهم فيه دول الاتحاد الاوروبي، احد ابرز المتضررين من انهيار النظام المالي الروسي، بعدما عجزت موسكو عن سداد الاقساط المستحقة عليها، وهو ما ألحق بمؤسسة مالية دولية اخرى، هي البنك الدولي، خسائر من الصعب حتى الآن تقدير حجمها. وعلى غرار البنك الدولي والبنك الاوروبي، فإن "بنك التنمية الاميركي" يواجه هو الآخر مشاكل، ولو متفاوتة، في تحصيل الاقساط المستحقة له على غالبية دول أميركا اللاتينية، نتيجة النقص القائم لدى هذه الدول لتوفير ما تحتاجه من القطع الاجنبي، ثم نتيجة الارباكات المالية التي تعرضت لها على صعيد الماليات العامة. وتشير التقديرات المتوافرة الى ان اجمالي الديون التي تأخر تحصيلها للمؤسسات المالية الثلاث منذ العام 1996، بات يتجاوز ال6 مليارات دولار، وتتوزع بصورة رئيسية على دول، مثل روسيا والبرازيل، الى الدول الآسيوية، خصوصاً أندونيسيا. واذا ما تم احتساب الاقساط المستحقة لمؤسسات دولية وإقليمية اخرى، مثل "بنك التنمية الياباني" و"بنك التنمية الافريقي" وغيرها، فإن اجمالي الديون التي تأخر سدادها، بات يتجاوز بسهولة ال28 مليار دولار، من دون النظر في قيمة الديون التي اعيدت برمجة سدادها، في اطار اتفاقات ثنائية، لاعتبارات سياسية ومالية مختلفة. ومن وجهة نظر أنريك إيغلاسياس، رئيس مجلس ادارة "البنك الاميركي للتنمية" الذي وصلت القروض التي منحها الى دول مختلفة الى حوالي 6.6 مليارات دولار، حتى نهاية العام الماضي، فإن الظروف والتحولات الاقتصادية التي حصلت في السنوات الثلاث الاخيرة، باتت تفرض على مؤسسات التمويل الدولية البحث عن صيغ جديدة لضمان تحقيق الاهداف القديمة، وفي ابرزها مساعدة الدول الناشئة على زيادة فرص التنمية بكلفة تنافسية مع ضمان استرداد القروض والمساعدات. وبالفعل، بدأت العناوين الرئيسية للاسلوب الجديد الذي تتجه المؤسسات الدولية الى اعتماده، تشكل بصورة اكثر وضوحاً. ومن بين هذه العناوين، ما يتصل بها بحرص المؤسسات والصناديق العالمية على ربط القروض الميسرة والمساعدات التي تنوي منحها للدول النامية عدا التزام هذه الدول ببرامج تصحيح هيكلي لأوضاعها الاقتصادية والمالية، وهو ما يفسره رئيس البنك الدولي جيمس وولفنسون بالحاجة الى اوضاع مالية ونقدية اكثر استقرار، لضمان استمرار اعمال التنمية. ويقول خبراء البنك الدولي، ان ما تعرضت له المكسيك قبل 5 سنوات، كان احد اهم الدروس التي يتوجب تعلمها، اذ تبين ان الفورة المالية التي حققها هذا البلد ما لبثت ان انهارت فجأة، لأنها افتقرت دائماً الى الاساس الاقتصادي السليم، ولأنها اتكلت على ما يعتبره هؤلاء الخبراء، التوظيفات العابرة، وهي التوظيفات التي سعى اصحابها الى الافادة من المردود المرتفع للفوائد المكسيكية. الى هذا الاعتبار، يرى وولفنسون ان النجاح في اصلاح البنية الاقتصادية والمالية سيفتح الطريق امام قيام استثمارات متوسطة وطويلة الاجل، على خلاف ما كان عليه الوضع سابقاً، عندما كان معظم التدفقات المالية الى الاسواق الناشئة، مجرد اموال ساخنة تبحث عن ايرادات سريعة. وطبقاً لهذا الاستنتاج، فإن البنك الدولي، الى جانب مؤسسات مالية دولية اخرى، مثل "بنك التنمية الاسلامي" مقره جدة، و"البنك الاوروبي للاستثمار"، بدأ يتجه بصورة اكثر بروزاً الى زيادة تعاونه مع القطاع الخاص، في الدول المعنية، بدلاً من الاتكال على حصر التعامل مع المؤسسات الحكومية. وفي هذا السياق، من المتوقع ان تزيد مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي من مساهماتها الاستثمارية بالتعاون مع القطاع الخاص في الدول المعنية. وتسمح قوانين المؤسسة بإقراض الشركات التجارية، وفقاً لدراسات الجدوى الخاصة بالمشروعات التي يتم تمويلها. كما تسمح لها قوانينها بالدخول مساهماً في هذه المشروعات، او تحويل قروضها الى مساهمات، وهو ما بدأت المؤسسة اعتماده في مناطق كثيرة في العالم، من بينها الشرق الاوسط حيث تقوم بتمويل مشروعات خاصة، في قطاعات متنوعة، مثل الاسكان والبنية التحتية والصناعة، وان كان القاسم المشترك الوحيد في ما بينها هو الطابع التنموي. ومن وجهة نظر مسؤولي البنك الدولي، فإن الجهد الاساسي يجب ان يتركز في العقود المقبلة على تشجيع التدفقات المالية الخاصة الى الدول النامية، كأحد المصادر الاساسية لتمويل خطط التنمية المستديمة، لسببين على الاقل: الاول، ان القطاع الخاص بات اكثر كفاءة، في ظل الاقتصاد المعولم، على التأقلم مع احتياجات النمو، وهو ما يعني انه بات بإمكان الدول المعنية الاتكال على التدفقات المالية الخاصة لضمان تحقيق النمو المطلوب على المدى الطويل، خصوصاً بعدما اصبح بإمكان هذه التدفقات التوظيف في قطاعات البنية الاساسية. اما الثاني فهو انه سيكون من المستحيل على الاقتصادات الناشئة الاستمرار في الاتكال على المساعدات والقروض الحكومية، في ظل توجه الدول المانحة الى اعادة النظر بسياساتها المالية الخارجية. وفي هذا السياق، تشير التقديرات التي اعدها البنك الدولي الى ان اجمالي التدفقات المالية الحكومية، وذات الطابع الحكومي، الى الدول النامية لم يتجاوز ال48 مليار دولار العام الماضي، في مقابل 277 ملياراً، قيمة التدفقات المالية الخاصة الى هذه الدول. وطبقاً لما تقوله دراسات اعدها "البنك الاوروبي للاستثمار" حول استراتيجيته للقرن المقبل، فقد تبين انه سيكون من شبه المستحيل على المؤسسات الدولية والاقليمية الاستمرار في اتباع منهجها التقليدي في الاقراض، وهو المنهج الذي يركز على تحويل مشروعات البنية التحتية، فيما ثبت، وفق الدراسات نفسها، انه سيكون بمقدور القطاع الخاص، مدعوماً من المؤسسات التنموية، توفير التمويل اللازم، شرط تأمين الاستقرار الاقتصادي والقانوني، وهو ما يتوجب التركيز عليه