عشيّة افتتاح الدورة الثامنة عشرة من "مهرجان جرش الدولي" لم يخفِ الشاعر الشعبي المصري عبد الرحمن الأبنودي غضبه، من عدم تجاوب الجمهور، بل انّه اضطر إلى التهديد بالانسحاب كي يستحوذ على الاهتمام. وقد دفع ذلك إلى التساؤل حول طبيعة الجمهور، وحاجاته ومتطلّباته. لكنّ التظاهرة الأردنيّة العريقة، نجحت مع ذلك في تجاوز المصاعب، وتعويض الانحدار الذي استبدّ ببرنامجها في الموسم الماضي. وها هي تنهض من كبوتها وترضي جمهورها... الا في الشعر. أما نجوم الطرب، فقد صنعوا ألق المهرجان ونجاحه: هاني شاكر انهمر دمعه وهو يغني لفلسطين، وراشد الماجد تبادل الوجد مع "جمهور لا يعوّض"... و"الوسط" كانت حاضرة في الكواليس، وعادت بهذه الانطباعات. عوّض مهرجان جرش الذي اطفأ شعلته في السادس من الشهر الجاري الخسارة المادية والانتكاسة الشديدة اللتين تعرض لهما العام الماضي، بسبب مرض العاهل الاردني الراحل، وتلوث مياه الشرب، وسوء الاحوال الاقتصادية للمواطنين... فقد تضافرت تلك الاسباب لتحول دون نجاح الدورة الماضية، فيما جاء برنامج الدورة الثامنة عشرة متنوعاً وثرياً، وانتصرت التظاهرة العريقة لمعايير الجودة والجمال والذوق الرفيع. وعلى رغم المفاجآت المأسويّة التي طالعتنا هذا الصيف، فقد تمكّن المهرجان من مواصلة نشاطاته متجاوزاً الألم والحزن عبر الفنّ والابداع... كان الحدث الاول وفاة العاهل المغربي الملك الحسن الثاني في بداية المهرجان، ما اقتضى تعطيل فعالياته لمدة يومين. وما أن استؤنفت النشاطات حتى دهمتنا أزمة الكتاب والادباء المضربين عن الطعام والمعتصمين في مقر رابطة الكتاب الاردنيين. فقد اختار هؤلاء الأدباء الرازحين تحت عبء البؤس والبطالة، أن تتزامن حركتهم الاحتجاجيّة مع انطلاق المهرجان "كي يحققوا اكبر قدر من تضامن زملائهم الشعراء والنقاد والصحافيين العرب المشاركين في المهرجان" على حد تعبير رئيس رابطة الكتاب فخري قعوار. وكان رحيل الشاعر عبد الوهاب البياتي في اواخر ايام المهرجان ثقيلاً على المثقفين الذين نعوه في قصائدهم وكتاباتهم وفي تصريحاتهم للصحافة الاردنية والعربية. عناق ملتهب واجه "مهرجان جرش" تلك التحديات، مواصلاً شقّ طريقه الذي بدا منذ الوهلة الاولى مسيجاً بالمفاجآت. وقد أمسك مسؤولو المهرجان بقلوبهم في الامسية الاولى للمطربة اللبنانية ماجدة الرومي حينما واجهت، على غير العادة، المدرج الجنوبي والجمهور لا يكاد يملأ نصف المقاعد الحجرية في المسرح الذي بني في المدينة الاثرية قبل زهاء الفي عام. ولكن حدس الرومي، وثقتها بادائها الرفيع، واجتهاد الجمهور القليل العدد نسبياً قلب الموقف، على الفور، الى حالة ابتهاج. وتعززت تلك الحالة في الامسية الثانية التي زاد فيها عدد الجمهور، وزادت معه دفقات السحر والعذوبة والدفء من صوت الرومي التي ما ان اعلنت اهداء حفلتيها، لا حفلتها الاولى كما اعلنت سابقاً، لصالح مؤسسة الحسين الخيرية التي انشئت في اعقاب رحيل العاهل الاردني، حتى كانت الملكة نور الحسين تتسلل من خلف الكواليس وتفاجىء المطربة اللبنانية بباقة ورد وعناق ملتهب صفق لصدقه وتلقائيته الجمهور طويلاً. ولم تكن لفتة الملكة نور الحسين تلك هي الوحيدة من هذا النوع في المهرجان الأخير، فقد حرصت من قبل على افتتاح المهرجان وايقاد شعلته بنفسها يرافقها نجلها الامير حمزة بن الحسين الذي اعتمر، كما كان يفعل ابوه - الكوفية الحمراء. وكان بمعية الملكة والامير بعض الوزراء، والسفير المصري في عمان، لأن الدورة خُصص جزؤها الأكبر لاستضافة ابداعات من مصر بفنانيها وأدبائها وشعرائها. معرض الحِرَف اليدوية، وبانوراما الفن التشكيلي المصري المعاصر، كان المحطة الثانية للملكة نور بعد حفل الافتتاح مباشرة، حيث افتتحت المعارض المصرية التي اقيمت في قبو زيوس الاثري، واشتملت على انجازات الفن المصري في ميادين الرسم والحفر على المعادن، وفنون الارابيسك، والعديد من المقتنيات الفنية التي لم يتسع لها المكان فظلت حبيسة الصناديق كما صرح بذلك ل "الوسط" المشرف العام على المعرض المصري. أصوات شعريّة لافتة وبعد التجول في قبو زيوس، كان جمهور يملأ المدرج الشمالي، في انتظار انطلاق امسية الافتتاح الشعرية التي أحياها الشاعران المصريان عبد الرحمن الابنودي ومحمد ابو دومة. لكنّ الشاعرين قدّما امسية متواضعة المستوى. فقد بدا واضحاً أن الجمهور لم يأت لسماع الشعر، وانما للدردشة والتعليق، ما اغضب الابنودي وجعله يهدد بالانسحاب في حال لم يلتزم الجمهور الهدوء والانضباط! ولعل الافتتاح الهزيل بالشعر اصاب بعدواه حلقتي الشعر والنقد في جرش. إذ شهدت هذه الدورة اعتذارات وتغيبات عدّة من شعراء كبار كان يعوّل عليهم المهرجان كثيراً، فخذلوه في اللحظة الاخيرة. هكذا بدت الأمسيات المخصّصة للشعر باهتة، في معظمها. لكن لا بدّ هنا من الاشارة إلى بروز بعض الشعراء المتميّزين: نزيه ابو عفش، شوقي بزيع، محمد علي شمس الدين... كما برزت أصوات أردنية جريئة في خطابها وفي انخطاف بنية قصائدها باتجاه حقول عذراء في الحداثة العربية. بين الشعراء الاردنيين الذين لفتوا الانظار، نشير إلى زياد العناني، حبيب الزيودي، زهير ابو شايب، يوسف عبد العزيز، رانة نزال، موفق ملكاوي وسواهم من شعراء عوضوا غياب زملاء عرب جعلت "النجومية" بعضهم يترفّع عن المجيء، على رغم أنّه كان يصرّ على المجيء ومنح ادارة المهرجان وعوداً مسبقة ومؤكدة بالمشاركة. كان من الغائبين: جورج جرداق، عبد الرزاق عبد الواحد، ميسون صقر، وجوزيف حرب... أما الحلقة النقدية فقد خصصت أكثر بحوثها لدراسة الآثار الشعريّة للشاعر الأردني مصطفى وهبي التل عِرار، في مناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية الاولى لميلاده. واسهم في ذلك عدد من النقاد العرب: خليل عودة فلسطين، رشيد العاني لندن، وجيه فانوس لبنان... وناقشت الحلقة، الى ذلك بحوثاً قرأت تجارب ثلاثة شعراء اردنيين آخرين: تيسير سبول الذي رصدت الرؤية الشعرية لديه من خلال بحث بعنوان "الوعي الشقي... تراجيديا الصحراء". في حين اختير ديوان الشاعر امجد ناصر "مرتقى الانفاس" كنموذج لقصيدة النثر في الاردن، وخضع ديوان "من اقوال الشاهد الاخير" للشاعر حيدر محمود سفير الاردن في تونس لدراسة تطبيقية كشفت "الحيف الذي لحق بالشاعر على مستوى الدراسات النقدية الجادة". ولئن استقطب الشعر عدداً لا بأس به من الجمهور، فان الحلقات النقدية كانت تعاني من فقر مدقع في الاقبال، حتى بدت احياناً قاعة "منتدى شومان"، حيث تقام الندوات، خالية الا من الصحافيين والمصورين! أين اختفى الجمهور؟ ببساطة ذهب الى جرش، وتجشم عناء رحلة تبلغ 45 كيلومتراً شمال العاصمة عمان، لا ليصغي الى الشعر، وانما ليتدافع على ابواب المدرج الجنوبي للقاء نجومه المفضّلين. وكان نجوم جرش هذا العام كفيلين بارضاء أذواق الجمهور: هاني شاكر بغنائه العاطفي الرصين، راشد الماجد بلونه الخليجي المفضل لدى قطاع واسع من الاردنيين والمصطافين في الاردن، وعاصي الحلاني الذي اشعل اكف جمهوره من المراهقين والمراهقات "بالقليل من الغناء والكثير من الضجيج" حسب تعليق الصحافة الاردنية. واذا كانت ماجدة الرومي اضاءت نفوس جمهورها بجمرة الحب، فان هاني شاكر جعل دمعه، وهو يغني لفلسطين والقدس، زيتاً لتلك الجمرة التي استحالت قنديلاً علقه المطرب السعودي راشد الماجد على ناصية المسرح الجنوبي. راح راشد الماجد يتبادل وجمهوره المحتشد، الذي لم يُبق مكاناً للصحافيين، النجوى والرقص الايقاعي الانيق من جمهور كان يبدو انه يحفظ اغنياته عن ظهر قلب. وقد حدا ذلك بالفنّان ان يقطع احدى اغنياته مخاطباً الجمهور: "يجب ان اصفق لكم، فانتم جمهور لا يعوض" وعلى رغم هذا الثناء على الجمهور، فقد تركه الماجد يتلوى ظمأً إلى المزيد من الاغنيات. مسك ختام المهرجان وقد وصف كثيرون حفلتيْ الماجد بمسك ختام المهرجان، مذكرين بختام مهرجان العام الماضي الذي احياه المطرب السعودي عبد المجيد عبد الله. ولم يكن غناء المطربين العرب وحده ما يجذب الجمهور، بل امتلأ المدرج الشمالي خلال أمسيتين كان الاعتقاد السائد أنّهما تتوجّهان إلى النخبة: الاولى خصصت لفن الفلامنكو الاسباني العريق، والثانية أحيتها فرقة باليه الكرملين التي قدمت للمرة الاولى في الوطن العربي رائعة تشايكوفسكي "بحيرة البجع". وضع الموسيقار الروسي عمله هذا في العام 1876، ويروي في اربعة فصول حكاية شعبية المانية بطلتها اميرة عذراء تدعى أوديت، تتحول بجعة بكيد ساحر شرير سرعان ما يحول اصدقاءها بجعاً أيضاً، الى ان يأتي الخلاص على يد الامير سيغفريد الذي يقع في حب أوديت. ولا بد من الاشارة إلى الفرقة اليابانية التي استقطبت بعروضها العذبة المدهشة جمهوراً قضى وقتاً لا ينسى في مسرح ارتميس. لكن المشاهدين انفضّوا عن الرباعي الموسيقي البولوني لاحياء ذكرى شوبان، ومع ذلك فقد بقي عددهم أكبر من اولئك الذين حضروا عرض مسرحية "السندباد على برج ايفل" للمسرحي العراقي سعدي يونس بحري. خيبة سندباد نظّر بحري جيداً في مؤتمره الصحافي لفكرة المسرحية حين وصفها بانها "ترصد معاناة سندباد اثناء ترحاله بين دول اوروبا"، مستفيداً في ذلك من "الموروث الاسطوري". لكن واقع المسرحية كان بعيداً عن تلك المعطيات النظرية. وبدا الممثل في لعبة المونودراما مهرجاً أخرق اكثر منه كوميدياً ساخراً، إذ استخدم تقنية "البروجكتر" بطريقة بدائية، وبدا انه لم يجرِ بروفات كافية قبل تقديم عمله الذي لم يقوَ على متابعته إلا عدد قليل من المتفرّجين. وقدّم المهرجان مسرحية أردنية بعنوان "نساء بلا ملامح"، كتبها العراقي عبد الامير شمخي، واخرجها زيد القضاة، وشارك في تمثيلها: مجد القصص، أحمد العمري، سماح فائق، ومرام ابو الهيجاء. وكان هذا العرض مفاجئاً لجهة اداء الممثلين أحمد العمري تحديداً بدوره المركب. وهذا الاداء الشديد الاتقان، زادت من تماسكه موسيقى وليد الهشيم. وبرزت أيضاً في جرش مواهب اردنية، تحتاج الى كسر شرنقة محليتها والانطلاق الى الفضاء العربي. ولا مندوحة في هذا السياق من استعادة الاداء المتفوق للمطربة الاردنية قمر بدوان التي احيت امسية عذبة في اطار المعهد الوطني للموسيقى. والأمر نفسه ينطبق على المطرب عمر العبدلات على المدرج الجنوبي. وكان للجمهور نصيبه من الفرق الاردنية التراثية: الحنونة، النادي الاهلي للفلكلور الشركسي، الروزنا، السلط، جامعة عمان الاهلية... وهذه الفرق تثير عادة اقبال الجمهور وحماسته وتجاوبه واستقباله الحاشد. تحيّة إلى كوكب الشرق وفي غمرة زهو المهرجان بمصر وفنونها قدمت فرقة الموسيقار الراحل عبد الحليم نويرة امسية غنائية، على المدرج الشمالي، جاءت بمثابة تحيّة إلى أم كلثوم كوكب الشرق في مئويّتها. وتفصل بين المدرج الشمالي والمدرّج الجنوبي الساحة الرئيسية وشارع الاعمدة، أي رئة المهرجان. ففي ذلك الحيّز الحيوي احتشد جمهور عائلي كثيف نظراً لمجانية العروض فيهما، وعدم قدرة اكثر العائلات الاردنية حضور حفلات "الجنوبي"، إذ يبلغ ثمن بطاقة الدخول 8 دنانير نحو 12 دولاراً للشخص الواحد. وقدمت في الساحة الرئيسية وشارع الاعمدة، فقرات مكثفة ومبتكرة، استرعت انتباه افراد الاسرة مثل عروض الفرق الاردنية والاجنبية الغنائية، والافلام السينمائية "مستر بين" على سبيل المثال، ورشة رسومات للاطفال، الرسم على الوجوه، العروض المسرحية للاطفال، وقصص الراوي وصندوق العجب، فضلاً عن المعارض التراثية والفولكلورية. واذا كان مهرجان جرش الثامن عشر لم ينجز - كعادته - الكتاب السنوي لفعاليات المهرجان، فقد اكتفى ربما باصدار "الكتابة والمتخيل" الذي ضم اوراق الحلقة النقدية في المهرجان الماضي، وتناولت موضوعي: المهجرية الجديدة والادب النسوي المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. وكما كانت مصر ضيفة هذا العام، فإن اسبانيا ستكون ضيفة العام 2000، حسب ما أعلنه مدير المهرجان اكرم مصاروة الذي وعد ان يكون المهرجان المقبل حافلاً بالمفاجآت، ويليق باستقبال الالفية الثالثة