لأول مرة منذ ربع قرن.. دبابات إسرائيل تقتحم جنين    عائلة أسيرة إسرائيلية ترفض حضور وزراء نتنياهو الجنازة    المملكة تهدي جمهورية بلغاريا 25 طنًا من التمور    الدكتور حسن الحازمي: يوم التأسيس السعودي قصة مجد تتجدد عبر الأجيال    القبض على مقيم بالمنطقة الشرقية لترويجه 3.4 كيلوغرام من مادة الشبو    15 حكماً يجتازون «دورة المستجدين» لكرة الهدف    القيادة تهنئ إمبراطور اليابان بذكرى اليوم الوطني لبلاده    فعاليات متنوعة احتفاءً بيوم التأسيس بتبوك    «عكاظ» تنشر شروط مراكز بيع المركبات الملغى تسجيلها    دامت أفراحك يا أغلى وطن    أمير القصيم يزور فعاليات "ذاكرة الأرض"    علماء صينيون يثيرون القلق: فايروس جديد في الخفافيش !    انخفاض درجات الحرارة وتكون للصقيع في عدة مناطق    8 ضوابط لاستئجار الجهات الحكومية المركبات المدنية    رحالة غربيون يوثقون تاريخ مجتمع التأسيس    ذكرى استعادة ماضٍ مجيد وتضحياتٍ كبرى    وزير العدل: لائحة الأحوال الشخصية خطوة لتعزيز استقرار الأسرة    لا إعلان للمنتجات الغذائية في وسائل الإعلام إلا بموافقة «الغذاء والدواء»    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. سمو ولي العهد يشرّف حفل سباق الخيل على كأس السعودية    تمنت للسعودية دوام التقدم والازدهار.. القيادة الكويتية: نعتز برسوخ العلاقات الأخوية والمواقف التاريخية المشتركة    لا "دولار" ولا "يورو".." الريال" جاي دورو    مذكرة تعاون عربية برلمانية    الصندوق بين الابتكار والتبرير    ضبط وافدين استغلا 8 أطفال في التسول بالرياض    رئيس "النواب" الليبي يدعو لتأسيس "صندوق" لتنمية غزة    جدل حول مصرع مصرية في الأردن.. انتحرت أم قتلت؟    تعزيز الابتكار في صناعة المحتوى للكفاءات السعودية.. 30 متدرباً في تقنيات الذكاء الاصطناعي بالإعلام    هيئة الصحفيين تدشن هويتها الجديدة    الداخلية تستعرض الإرث الأمني بأسلوب مميز    تدشين «مجسم يوم التأسيس» في القصيم    في ذكرى «يوم بدينا».. الوطن يتوشح بالأخضر    الاستثمار العالمي على طاولة "قمة الأولوية" في ميامي.. السعودية تعزز مستقبل اقتصاد الفضاء    ابتهاجاً بذكرى مرور 3 قرون على إقامة الدولة السعودية.. اقتصاديون وخبراء: التأسيس.. صنع أعظم قصة نجاح في العالم    مشروبات «الدايت» تشكل خطراً على الأوعية    موعد مباراة الإتحاد القادمة بعد الفوز على الهلال    جيسوس يُبرر معاناة الهلال في الكلاسيكو    "نيوم للهيدروجين الأخضر" تبني إرثاً مستداماً باستغلال موارد المملكة التي لا تنضب    النفط يسجل خسارة أسبوعية مع تلاشي المخاطر في الشرق الأوسط    الملك: نهج الدولة راسخ على الأمن والعدل والعقيدة الخالصة    الرافع للرياض : يوم التأسيس تاريخ عريق    نهج راسخ    الاتحاد يقسو على الهلال برباعية في جولة يوم التأسيس    جمعية رعاية الأيتام بضمد تشارك في احتفالات يوم التأسيس    افتح يا سمسم.. أُسطورة الآتي..    من التأسيس إلى الرؤية.. قصة وطن    125 متسابقاً يتنافسون على جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن.. غداً    وزير الشؤون الإسلامية: يوم التأسيس يجسد مرحلة تاريخية مفصلية في تاريخ مسيرة المملكة    «الفترة الانتقالية» في حالات الانقلاب السياسي.. !    فجر صناعة السيارات في السعودية    بنزيما: الاتحاد ليس قريبا من لقب الدوري    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالتخصصي ينجح في زراعة منظم ضربات القلب اللاسلكي AVEIRTM️ الحديث ل"ثمانيني"    الحياة رحلة ورفقة    فريق الوعي الصحي التابع لجمعية واعي يحتفي بيوم التاسيس في الراشد مول    «الدباغ القابضة» تتقدم بالتهاني لمقام خادم الحرمين وولي عهده بمناسبة ذكرى يوم التأسيس    الداخلية: ضبط (21222) مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لائحة الأحوال الشخصية تنظم «العضل» و«المهور» ونفقة «المحضون» وغياب الولي    الدولة الأولى ورعاية الحرمين    الهرمونات البديلة علاج توقف تبويض للإناث    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماجدة الرومي بكت وبشار زرقان أجبر السفير الاسرائيلي على الخروج . "مهرجان جرش" شهد حضوراً خليجياً ملحوظاً : بهجة العيد تغطي على صخب الشارع وغلاء الخبز
نشر في الحياة يوم 19 - 08 - 1996

كان برنامج "جرش" حافلاً هذا العام، ووجد الجمهور ما يرضي مختلف الأذواق والحساسيات. ماجدة الرومي وصباح فخري ومحمد المازم في المدرج الجنوبي، الفولكلور الشعبي والسيرك والزجل زغلول الدامور، المقام العراقي والغناء البديل مع الفنان السوري الشاب بشار زرقان... وصولاً الى المسرح مع "ريتشارد الثالث"، "ميديا"، "جوليا دومنا" الخزندار/ ميراي معلوف و "أليسار ملكة قرطاج" كركلا. واتسع المهرجان ايضاً للفنون التشكيلية في "قبو زيوس"، وللشعر الذي تمحور حول قانا، وللحلقة النقدية التي احتفت بعرار وسعدي يوسف ومحمود درويش.
لئن خلا "مهرجان جرش" الخامس عشر الذي خفتت أضواؤه اخيراً، من أية مشاركة اسرائيلية، فإنه لم يخلُ من "تحرشات" وحّدت المثقفين والفنانين الاردنيين والعرب. وكانت الارواح مشحونة بما قدم من شعر وأغنيات تستوحي جراح "مجزرة قانا" في الجنوب اللبناني، وألهبت الوجدان العام. وإذا بجمهور جرش ينحو الى مراجعة لحقيقة المواجهة مع الآخر، والقاعدة العريضة تتأمل مفردات "السلام" واستحقاقاته المفترضة بعين الريبة والحذر.
الهاجس السياسي إذاً، كان السمة الغالبة على مهرجان هذا العام الذي شهد حضوراً خليجياً منقطع النظير، حتى ان المسرح الجنوبي في مدينة جرش الاثرية امتلأ بالعباءات البيض. فأبناء الامارات العربية جاؤوا بالطائرات، خصيصاً، لحضور امسية الفنانين محمد المازم وأحلام.
أول "التحرشات الاسرائيلية" تمثل في حضور شمعون شامير، السفير الاسرائيلي في الاردن، حفلة بشار زرقان. لكن الفنان السوري رفض الغناء قطعياً، وطالب بمغادرة السفير او بإلغاء الحفلة. ولاحظ السفير تأخر الحفلة، فغادر القاعة متذرعاً انه كان يعتقد انها مخصصة لأمسية "كركلا" التي تقام فيه قصر الثقافة الذي يبعد عن المكان الذي تقام في أمسية بشار زرقان حوالي مئة متر.
وبالفعل توجه السفير الاسرائيلي الى أمسية "كركلا"، وحضرها في غمرة دهشة سيطرت على جمهور جرش. فأهل الفن والثقافة، من أردنيين وضيوف، كانوا يتوقعون من مصمم الرقص اللبناني عبدالحليم كركلا ان يرفض تقديم عرضه في حضور السفير الاسرائيلي. وغذّى موقف كركلا الاشاعات، والاجتهادات والتأويلات حول حقيقة ما جرى. وهناك من اشار الى ان الفنان لم يعلم بالأمر إلا في نهاية العرض، لكن كركلا علق على الموضوع بقوله: "هذا مسرح، ومن حق اي كان ان يأتي اليه". وعندما قصدته "الوسط" لاستيضاح حقيقة الأمر، أجاب: "لم أكن أعلم بحضور السفير، ثم انني لا علاقة لي بالسياسة".
وفي أمسية المطرب المصري مصطفى قمر، لاحظ بعض الحاضرين مشاهداً يرتدي قميص "تي شيرت" كتب عليها بالعبرية: "سلاح الجو الاسرائيلي"، فثار غضبهم وطالبوه بخلعه. وما كان منه إلا أن أمضى الحفلة عاري الصدر!
الحادث الثالث وقع خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده صباح فخري، وكان اشيع ان المطرب السوري تردد في المشاركة هذا العام تحسباً لوجود فرق وأعمال اسرائيلية. فأثناء رده على اسئلة الصحافيين، وقف احد الحاضرين سائلاً ثم عرّف عن نفسه "مطرباً في الاذاعة الاسرائيلية". هنا انتفض الصحافيون على الفور وطردوه من القاعة، وعادوا لاستئناف حوارهم مع نقيب الفنانين السوريين، وكأن شيئاً لم يكن!
دموع ماجدة الرومي
أحداث ثلاثة أشعلت حرارة المهرجان، وشكلت مقدمة لرفض اي مشاركة اسرائيلية محتملة في مواسم "جرش" المقبلة. وبخلاف ذلك سار المهرجان الخامس عشر على نحو يؤشر الى ترسخ مكانة هذا الملتقى السنوي، وازدياد اهميته.
والمهرجان الذي امتد طيلة سبعة عشر يوماً وشمل ما يزيد على مئة وخمسين فعالية ثقافية وفنية من مختلف انحاء العالم، افتُتح بأمسية للفنان الاردني ربحي رباح الذي استقطب جمهوراً كبيراً ملأ المدرج الجنوبي اكبر مدرجات جرش. لكن الصحافة المحلية اعتبرت انها أمسية اردنية "بالاسم فقط"، مشيرة الى ان أداء الأغنيات يندرج ضمن الاطار المصري.
وعلى المدرج الجنوبي نفسه انهمرت دموع ماجدة الرومي التي قدمت سبعاً من اغنياتها الجديدة، توزعت ما بين بلاغة الشجن، والتقاط اشواق المحبين ولهفتهم المرتبكة، وبين عناق عذاب الوطن، تضميد جرحه النازف. فبعد ان قدمت المطربة اللبنانية اغنياتها الاولى، اخذت جمهورها الى قانا فغنت من كلمات هنري زعيب وألحان ايلي شويري: "أين ستهربون من ردة الغضب/ في صدر شعب كامل يحترف الغضب.../ فكلنا جنوب/ وكلنا ثوار/ وكلنا حدوده/ دماؤنا الاسوار"، كما غنت "ست الدنيا" قصيدة نزار قباني المهداة الى بيروت، والتي تعلن ان "الثورة تولد من رحم الاحزان".
واذا كان ثمة من مفاجأة شهدها المدرج الجنوبي هذا العام، فقد أتت من الامارات العربية المتحدة، عن طريق محمد المازم. جدد هذا الفنان ذائقة الجمهور الذي انقطع عن الاغنية الخليجية، فقدم مع مواطنته الفنانة الناشئة أحلام أمسية جرشية ناجحة، عززت بشكل غير مباشر سعي الاردن الى اعادة العلاقات الاردنية - الخليجية الى مجاريها الطبيعية بعد حرب الخليج.
وعلى الرغم من ان اختيار ادارة المهرجان للفنانين والمطربين يهدف الى ارضاء مختلف اذواق جمهور جرش، فإن كثيرين انتقدوا مشاركة المطرب المصري الشاب مصطفى قمر.
وانبرت اوساط ادارة المهرجان تبرر مشاركة المطرب مصطفى قمر، مذكرة انه يستقطب جمهوراً واسعاً، ويحقق للمهرجان عائدات مالية كبيرة. فرد المنتقدون والمتحفظون ان ضيفاً كصباح فخري، هو معلّم في الغناء، وبوسعه التوفيق بين الموقف الملتزم والمستوى الفني الراقي وتحقيق الرواج الشعبي، ولكن... "من دون تنازلات".
قدم صباح فخري، وعلى مدى امسيتين متتاليتين، عدداً من اشهر اغنياته، فتمايلت على انغامها حجارة جرش. وحلّق الجمهور الذي تجاوز الاربعة آلاف في فضاء الطرب، مع القدود الحلبية والموشحات الأندلسية. والفنان الذي يمتاز بتلاوينه الخاصة، وايقاعاته وصوته العذب، وروح مرحة جعلته ينخرط في رقص ايقاعي أخاذ ألهب حماسة الجمهور... سبق له ان خطف اضواء جرش سنة 1949.
شكسبير ومقامات عراقية
وعلى بعد خطوات من المدرج الجنوبي، يقع مدرج آرتيمس الذي احتضن هذا العام مسرحية "ريتشارد الثالث"، من تقديم فرقة "أودسكوكس". هكذا توهجت الروح الشكسبيرية في ليل جرش، وتشابكت اسئلة الوجود في اطار ميلودرامي تاريخي يستعيد مؤامرات ريتشارد دوق غلوستر المشوه وسعيه المحموم الى انتزاع العرش من أخيه، حتى لو كان الثمن نهراً من الدماء.
وفي مقابل التراث الدرامي الشكسبيري، اصغت حجارة آرتيمس وجمهوره لفرقة وجدة المغربية، وفرقة التراث الحلبي بقيادة صبري مدلل التي أجادت في تقديم القدود والاغاني الصوفية والمدائح النبوية والرقص التراثي. واستُكمل عقد التراث بفرقة حسين الاعظمي العراقية التي قدمت عدداً من القصائد الشعرية العربية من خلال المقامات العراقية.
وعلى المستوى المسرحي احتضن "مسرح آرتيمس" عملين مسرحيين جادين. الاول هو "ميديا" الذي أخرجه وشارك في تمثيله الفنان الاردني حكيم حرب. قدم حرب العرض المقتبس عن المسرح الاغريقي يوريبيدس في شكل فانتازي تجريبي متحرر من الزمان والمكان، ومتوغل في مشهدية بدائية عبّرت عنه الاسطورة باسقاطات غير مباشرة على الواقع الراهن.
اما الحدث المسرحي الأبرز، فكان عرض "جوليا دومنا" المستوحى من التراث الروماني. يدور العمل المونودرامي حول شخصية الامبراطورة السورية الاصل جوليا دومنا، زوجة الامبراطور الروماني الليبي الاصل الشهير سبتيموس سيفيروس. وتستعرض البطلة في آخر حياتها محطات حياتها الصاخبة، والملاحم التي عاشتها، شهوة السلطة، وحلم السيطرة على التاريخ.
هكذا جعل المخرج السوري الاصل شريف الخزندار شارك في كتابة النص بالتعاون مع فرنسواز غروند، وأرواد إسبر للنسخة العربية، من جوليا دومنا بطلة تراجيدية. وجسدت الممثلة اللبنانية ميراي معلوف تلك الشخصية، بأدائها الساحر وتكوينات جسدها، والطاقة الروحية الدرامية التي جعلتها تقدم الشخصية بكامل عنفوانها.
الساحة الرئيسية في المهرجان استقطبت هذا العام فرق الفولكلور الشعبي لمختلف المدن الاردنية، وكذلك الفولكلور الشعبي الفلسطيني والقطري والمصري الذي جسدته فرقة النيل، اضافة الى السيرك المصري، والسيرك البريطاني، وغيرها من الفرق والانشطة التي عكست تراث الشعوب المختلفة في العالم.
وفي غمرة طقس كهنوتي احتفالي شارك فيه آلاف الاشخاص، افتتح "مسرح جراسيا" للابداع في جرش. انطلق موكب الكاهنة العظيمة حارسة جراسيا من الساحة الرئيسية للمهرجان مروراً بشارع الأعمدة حتى ساحة المعبد حيث مدفن الكاهنة، لتبدأ بعدها فعاليات جراسيا التي تتوجه الى الكفاءات والمواهب الشابة. والاطفال ايضاً تابعوا باصغاء تام مسرحية "رباب والعقد الضائع" الكوميدية المقتبسة عن قصة "ليلى ذات الرداء الاحمر"، من اخراج واعداد عبدالله ابو هنية. كذلك قدم جراسيا مسرحية "كان يا مكان في هذا الزمان" عن قصة شعبية قديمة اعدتها وأشرفت على مسرحتها مارغو ملاتجليان، كما قدم غنام غنام في قالب فانتازي ساخر مسرحيته "الثور يا مولانا".
فخاخ العادي والمألوف
وازدان "قبو زيوس" هذا العام بأعمال تشكيلية لعدد من الفنانين الاردنيين الذين حصلوا على جوائز الدولة التقديرية والتشجيعية. كما استضاف القبو لوحات لفنانين من الامارات، ومعرضاً للازياء التراثية الاردنية والفلسطينية. وأينما توجهت في مدينة جرش ثمة فعالية وثمة نشاط يتحلق حوله الزائرون، فها هنا صناعة الزجاج في الموقد الناري، وهناك صناعة الخزف، وهنا معرض كتاب بقربه نسوة يصنعن مأكولات وحلويات شعبية، وأخريات يصنعن من القش قبعات وسلالاً، بأصابع ماهرة... وبعيداً عن جرش باتجاه العاصمة الاردنية عمان، ثمة شعر ونقد وموسيقى وغناء ومسرح وباليه.
والظاهرة اللافتة على مستوى القراءات الشعرية هذا العام، هو الحضور الطاغي ل "مجزرة قانا" التي ارتكبتها القوات الاسرائيلية خلال حملتها على الجنوب اللبناني التي اطلقت عليها اسم "عناقيد الغضب". ألهبت المجزرة مخيلة الشعراء فطفقوا يستعيدون مناخ الجريمة، من خلال ايقاعات لغوية وتصاوير فنية سقط بعضها في فخاخ العادي والمألوف، ونجا بعضها القليل من تلك الفخاخ. لكن القصائد كلها حازت على تعاطف الجمهور، وعلى تصفيقه في بعض الاحيان.
الظاهرة الثانية التي برزت في القراءات الشعرية، هي قدوم معظم الشعراء الى جرش محملين بدفاترهم القديمة. ما دفع بعضهم الى التساؤل عن جدوى المشاركة بقصائد منشورة في الصحف والدوريات، او في الدواوين التي هي اصلاً بين أيدي الجمهور الذي انتظر الجديد فكان نصيبه الخيبة.
أما الظاهرة الثالثة فهي ان الشعر راوح مكانه، وتوسل اللغة ذاتها، وغرف مفرداته من المعجم المكرور نفسه، إلا في حالات نادرة. هذه الحالات مثلها بعض شعراء قصيدة النثر، ومعظمهم من جيل شاب أعلن القطيعة مع راهن الشعر، على ما يبدو، وشرع يؤسس لرؤية بديلة ينعقد عليها الرهان.
قصيدة محمود درويش... الكترونياً
وإن تكن هذه حال الشعر، فما بالك بالنقد الذي تصدى لدراسة "الشعر العربي على ابواب القرن الحادي والعشرين"؟
الحلقة النقدية هذا العام تضمنت اربع ندوات. افتتحها الشاعر المغربي محمد بنيس الذي لم يقدم، كما كان مطلوباً منه، الاطار النظري لآفاق تطور القصيدة العربية الحديثة، بل استبدل ذلك بشهادة شخصية عن تجربته الشعرية وعلاقتها بالزمن، وسط ذهول الحاضرين وحيرتهم. فتحت عنوان "قصيدة التلاشي" شرع بنيس يتساءل عن الحرية التي تبتغي القصيدة امتلاكها، ناعياً في الوقت نفسه قدرة الشعر على تغيير العالم.
الناقد حسام الخطيب استبدل هو الآخر دراسته في شعر محمود درويش بدراسة سماها "النص المتشعب" او "النص الفائق" رصد من خلالها آفاق تطور القصيدة الغربية وصولاً الى "النص الالكتروني"، مطبقاً ذلك على قصيدة محمود درويش التي قال انها يمكن ان تُكتب الكترونياً لأنها "قصائد مستديرة لا بداية شكلية او نهاية شكلية لها. وقد أثارت هذه الدراسة موجة لم تتوقف من ردود الفعل. فكانت أكثر دراسات هذا الموسم اشكالية.
وتحت عنوان "قصيدة النثر والشعرية العربية الجديدة"، شرع حاتم الصكر يلملم فتات الحوار الذي تفجر حول هذه القصيدة التي ما يزال يتنازعها سؤال الشرعية. فهذه القصيدة، يقول الصكر تمتاز بقدرتها على جمع نقيضين شعر ونثر، إذ أثير الجدل حول المصطلح وكان يتعين ان ينصب الجدل حول المفهوم الذي تتمثل من خلاله اشكالية هذه القصيدة. وتناولت ثلاث دراسات قراءة تجربة أحمد عبد المعطي حجازي الشعرية، من خلال استراتيجية الخطاب الشعري عنده. تصدى لهذه النقطة الناقد صلاح فضل الذي وصف قصيدة حجازي بأنها تتضمن جهازاً مفاهيمياً مضمراً... علاوة على اشتمالها على خصائص فنية في شعره، فهو فردي دونما انعزال وممثل لجيله بنضج. وقدم علي جعفر العلاّق قراءة تطبيقية في قصيدة "طردية" التي وصفها بأنها سلسلة نسب شعري، هو "قصائد الصيد" التي تنشغل بمعاني الطراد ولذة الفوز.
عرار بين التراث والمعاصرة
أما الناقد الاردني عبدالله رضوان، فابرز من خلال مجموعة حجازي "مدينة بلا قلب" الملامح الكلاسيكية في تجربة الشاعر، وخلوها من التطور الدرامي، وعدم تجاوزها النمط الغنائي. فيما وصف مُعقبون بحث رضوان هذا بأنه استعادة لمقولات رجاء النقاش... حتى ان بعضهم طالب باستضافة "الاصل" اي النقاش بدلاً من تمثله المجتزأ!
الندوة الثالثة تصدت لقراءة تجربة الشاعر الاردني مصطفى وهبي التل عرار وبدأت بتمهيد نظري حول "مفاهيم الشعرية العربية" قدمه الناقد التونسي مصطفى الكيلاني تصدى هذا الاخير لمعالجة السمات الفنية لثلاث موجات في حركة النقد العربي المعاصر. وتوقف في الثالثة عند المقاربات الآتية: "البنيوية/ كمال أبو ديب"، "السوسيوتاريخية/ إلياس خوري"، "ما بعد البنيوية/ محمد بنيس"، الهرمونيتيكية/ محمد علي اليوسفي"، "المنهج المتعدد/ حاتم الصكر".
وفي بحثه "شعرية عرار بين الذاكرة والتجربة" وقف خليل الشيخ عند أفقين: أفق التراث وأفق المعاصرة. وكشف عن علاقة عرار الحميمة بالتراث، مشيراً الى ان شعره ينطوي على تماس حميم مع العصر، ويفضح محاولة للاشتباك معه.
وقام غسان عبدالخالق بدراسة مقارنة، على طريقة العقاد، بين شعر عرار وشعر أبي نواس من خلال المنهج النفسي. ووجد عبدالخالق تأثيراً واضحاً لأبي نواس على عرار، مخالفاً في ذلك معظم الدارسين الذين يحيلون تأثيرات عرار في معظمها الى عمر الخيام.
سعدي يوسف وريتسوس
وفي ندوة النقد الاخيرة رُصد بحثان لقراءة تجربتي الشاعرين سعدي يوسف وعمر أبو ريشة. قدم الاول فخري صالح، فيما تصدى للثاني ابراهيم خليل الذي كشف، بدءاً، عدم اقتناعه بالمحور الذي اسند اليه لدراسة هذا الشاعر، "فهناك في سورية من هم أهم منه كبدوي الجبل وممدوح عدوان" على حد تعبيره. ومع ذلك، برزت في شعر أبي ريشة، برأي خليل، صورة وملامح من الحداثة الشعرية.
فخري صالح اشار الى اتجاهين بارزين في تجربة سعدي يوسف الشعرية. يتمثل الاول في القصيدة المركّبة، والثاني في قصيدة التفاصيل اليومية التي بيّن صالح انها مستمدة بصورة اساسية من تأثيرات الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس الذي ترجم يوسف عدداً من قصائده في نهاية السبعينات، وهي قصائد أثّرت في تجربته وتجربة من تلاه من شعراء قصيدة النثر الجديدة. وباستثناء بحث فخري صالح الذي كُتب على عجل، كانت المشاركة "النقدية" الاردنية فقيرة، لا جدة فيها ولا ابداع، حيث الدوران في فلك الآخرين مثل ديدن الكتابات وهاجسها وطموحها!
وعلاوة على "مؤسسة عبدالحميد شومان" ودارة الفنون التابعة لها اللتين احتضنتا الشعر والحلقة النقدية، كان "المركز الثقافي الملكي" يحتضن الفنان السوري بشار زرقان الذي قدم امسيتين اطفأتا عطش الجمهور لأغنية مغايرة. اغنية "ترقى بذائقتهم وتسد ثقوبها" بتعبير الفنان الذي ينطلق في تجربة جديدة هي تقديم الاغاني لأول مرة على العود، بمعزل عن الفرقة الموسيقية، بحيث تحتل تلك الآلة مركز الثقل في عمله.
قدم زرقان نصوصاً مغناة جديدة لرابعة العدوية والشريف الرضي، ووعد بتلحين قصيدة للمتنبي ومختارات من ديوان محمود درويش الاخير "لماذا تركت الحصان وحيداً". لكن "الوسط" علمت ان درويش غير متحمس لاجراء اجتزاءات من شعره وهو ما دفع بشار للتريث في تقديم الاغنية ريثما يحصل على موافقة درويش. اما في امسيتيه، فسعى زرقان الى بلورة صوته الخاص وتنقيته من تأثيرات الآخرين. لكن استغناءه عن الايقاع المتمثل بالفرقة وبآلات: القانون والناي والتشيلو... أضعف عمله القائم اساساً على الايقاع.
وبينما كان بشار زرقان مستسلماً في المسرح الثقافي الملكي الى وهج الغناء الصوفي، كان عبدالحليم كركلا يشيد معماراً فنياً شاهقاً على مسرح "قصر الثقافة" من خلال حكاية "أليسار ملكة قرطاج". وقال مصمم الكوريغراف المعروف ل "الوسط" ان الحكاية هي "افضل عمل فني في العالم". الاستعراض يروي ملحمة الملكة اليسار التي تهرب في العام 2800 ق. م. من مؤامرات أخيها بيجماليون الذي يقتل زوجها، فتترك مدينتها صور الى تونس. وهنا يلتقيها ملك البربر وشعبه في احتفال طقوسي حمل توقيع فرقة "جيل جيلالة" المغربية التي حضرت الى بيروت، وعملت مع كركلا اسابيع متواصلة.
ويبقى ان مهرجان جرش بدا الحدث الاهم على المستوى الوطني فوق الساحة الاردنية. فإذا بأصداء العروض وأخبار الحفلات وفرحة العيد تطغى - موقتاً - على حديث غلاء اسعار الخبز. فالرأي العام هنا منشغل بالاحتقان الشعبي المتصاعد الذي خفف مهرجان جرش من غلوائه وحدته. الامر الذي خدم الحكومة، وفوّت الفرصة على المعارضة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.