لا أعرف السبب الذي دفعني منذ الصبا المبكر الى عشق الأردن. ربما كانت التسمية نفسها وهي تنقسم الى قسمين متماثلين يبدأ كل منهما بالضم وينتهي بالتسكين المشدد. كل من الراء في الوسط والنون في الختام تترك على طريقتها صدى مفتوحاً على القليل من الهواء المتسرب بين الحلق واللسان في الحالة الأولى، وعلى ترجيع للنون الساكنة شبيه بقرع سماء أخيرة على بوابة الأرض في الحالة الثانية. وقد يعود هذا العشق من بعض زواياه الى أغاني فيروز التي أخرجت الأردن من الصحراء الى الماء وربطت بينه وبين النهر الذي تعمد فيه المسيح وجرت على ضفاف روافده بعد ذلك حروب هي الأقسى والأكثر تأثيراً في مسيرة التاريخ. بات النهر المنسوب الى الأردن رمزاً لمياه لا تكف عن تجديد قداستها في التراب والذاكرة والدم ورمزاً لجسر عودة لا يعود من خلاله أحد، وحدّاً خشبياً فاصلاً بين تلويحتين احداهما مثقوبة بالرصاص وأخرى بالحنين. ليس هذا فحسب بل لأن الأردن كان يرمز منذ الصغر الى بداوة خالية من الفظاظة متصلة بالجنوب الذي نشأت فيه عبر أغان شعبية وحداءات وأهازيج وعبر قصص "غبيشة" ونمر العدوان التي تجمع بين شفافية العشق وبسالة المواجهة مع الاحتلال. أو عبر قصة صادق الحمزة الثائر الجنوبي اللبناني الذي فر من وجه الفرنسيين بعد مقاومة ضارية ليختفي بشكل غامض في ناحية من نواحي إربد. ثمة شيء آخر يعطي للأردن مذاقه الخاص هو كونه المكان المفتوح على الحلم أو على الموت، على القداسة أو على النسيان، على الفرح أو على الفاجعة. انه الشفير المشرف على الانهدام الأرضي للروح العربية الخائرة والمرتفع المطل من علٍ على الأندلس الجديدة. هناك ظفر موسى بالنظرة الأخيرة الى "أرض الميعاد" قبل أن يخذله جسده على قمة جبل نيبو، وهناك أراق الأنباط أكثر أحلامهم رقة فوق الصخور الوردية لجبال البتراء، وهناك عبر المسلمون من فوق ذراعي جعفر المقطوعتين باتجاه الفتح، وهناك أودع أبو ذر الغفاري صلواته الأخيرة من أجل الخبز والعدالة، كما أن هذا البرزخ البري الطويل المتصل عبر احدى خاصرتيه بلهيب الصحراء والملطف من الخاصرة الأخرى بهواء البحر يتيح لساكنيه دماثة في الخلق وصلابة في الإرداة وسماحة في العروبة وانفتاحاً على الرياح المختلفة. والناظر الآن الى عمان يدرك مدى التطور والاتساع العمراني اللذين تصيبهما المدينة الرابضة على جبالها السبعة سنة بعد أخرى، مستفيدة بالطبع من حروب الجوار المتكاثرة من جهة ومن دينامية أهلها وإيمانهم بالمستقبل من جهة أخرى. * * * استعاد مهرجان جرش الثامن عشر للثقافة والفنون هذا العام الكثير من الحيوية والألق اللذين افتقدهما في العام الفائت بسبب المرض المتفاقم لملك الأردن الراحل وانعكاس ذلك على مجمل الأنشطة والحفلات. وكما جرت العادة منذ سنوات طويلة فقد انشطر المهرجان الى شطرين شبه منفصلين أحدهما من نصيب جرش والآخر من نصيب عمان. الأول فني غنائي وفولكلوري والأخر شعري ونقدي وثقافي. غير أن تأخر الأنشطة الثقافية عن مثيلتها الفنية بما يقارب الأسبوع الكامل يتيح للوافدين في وقت مبكر أن يتواصلوا مع شطر المهرجان الآخر والأكثر شعبية بالطبع من ثقافة النخبة ومطولات الشعراء. كانت مصر ضيفة المهرجان هذا العام وفقاً لتقليد جديد تم ارساؤه من قبل المنظمين ويقضي بأن تفتتح المهرجان في كل دورة من دوراته دولة مختلفة تكون عربية مرة وأجنبية مرة أخرى. وكان من حظ الشعر بالطبع، وهو العاثر الحظ في الأغلب، أن يتولى النشاط الافتتاحي للفعاليات كلها عبر شاعري مصر عبدالرحمن الأبنودي ومحمد أبو دومة. لكن ما منع تلك الأمسية المميزة من الاكتمال هو اختلاط حابل المهتمين بنابل الفضوليين والمتفرجين الذين ما أن أضاءت الملكة نور الشعلة وقصت شريط الافتتاح حتى هرعوا الى البساط الوحيد المقام على المسرح الشمالي وفي ظنهم أنهم سيستمعون الى حفلة طرب أو سيستمتعون بوصلة رقص! لقد أكدت الأمسية بالطبع أن الشعر هو عدو الأمكنة المفتوحة والجمهور المفتوح وأنه صديق الصمت والأعماق والجدران المغلقة، على رغم أن الأداء المميز والظرف اللافت لكل من الأبنودي وأبو دومة أنقذا الأمسية من الفشل ونقلاها بنجاح الى بر الأمان. كانت مدرجات جرش خلال ثمانية عشر يوماً مسرحاً لعشرات الفعاليات والعروض الغنائية والمسرحية والموسيقية. الأغنية العربية توزعت هذا العام بين الحضور الأنيق والشفاف لماجدة الرومي وبين الشجن المبتل بالحنين في صوت هاني شاكر. أما عاصي الحلاني فقد كان التعبير الأكثر سطحية وفجاجة عن الخفة والارتجال المختبئين وراء عباءة الفولكلور على رغم أنه وفر للحشود التي تبعته المساحة الأوسع للرقص والتمايل والترويح عن النفس. لم تكن الأعمال الأخرى التي قدمت على سوية واحدة، ولا ينبغي لها بالطبع أن تكون. ذلك أن جرش لا يدعي لنفسه أنه مكان لتجميع العباقرة والمتفوقين فحسب بل كثيراً ما يكون مختبراً للتجارب الفنية وفرصة لاكتشاف المواهب التي تبحث عن فضاء ملائم لنمو براعمها الوليدة. ومع ذلك فإن أعمالاً عالمية وعربية ذات شأن تسنى للجمهور أن يتابعها بشغف كالفلامنكو الإسباني وباليه بحيرة البجع الروسية ومسرحيتي "رجلان من فيرونا" لشكسبير و"السندباد على برج ايفل" لسعدي يونس وفرقة عبدالحليم نويرة المصرية والفرقة اليابانية وغيرها العشرات ممن لا قبل لمتابعتها جميعاً. الأمسيات الشعرية العشر التي أقيمت في عمان توزعت بين مؤسسة شومان والنادي الأرثوذكسي والنادي الأهلي وأمانة عمان وأتاحت لكل شاعر من الشعراء العرب المشاركين فرصتين اثنتين لإلقاء الكثير من قصائده واختبار علاقته بالجمهور. وإذا كان من الصعب تتبع الشعراء المشاركين كلاً على حدة فإنه من اليسير أن نلاحظ التفاوت الواضح بين التجارب والمستويات ودرجة التفاعل مع الجمهور الذي بدا ذكياً ومتابعاً وشديد الحساسية ازاء ما يسمعه. ولم يكن مفاجئاً بالطبع أن يتألق الكثير من الشعراء المكرسين من ذوي التجارب الناضجة كمحمد علي شمس الدين ونزيه أبو عفش اللذين أثبتا كل على طريقته أن الشعر الكثيف والعميق يمكن له عبر الأداء المتمكن والحضور الواثق أن ينتزع الإعجاب والإصغاء والتصفيق. فلقد بدا شمس الدين في أمسيتيه وكأنه يرتل شعره أو يغنيه، على تعبير الشاعر الفلسطيني المتوكل طه، في حين راح أبو عفش يأخذ بيد جمهوره الى أكثر أماكن الشعر سوداوية ووحشة. كما لم يكن مفاجئاً بالقدر نفسه الحضور المتميز للتونسي يوسف رزوقة والمغربية وفاء العمراني أو للشعراء الأردنيين من ذوي التجارب اللافتة كيوسف عبدالعزيز وزهير أبو شايب وحبيب الزيودي ومحمد ناجي عمايرة وعبدالله رضوان وغيرهم. غير أن المهرجان بالمقابل لم يخل من مفاجآت شعرية حقيقية جسدها شعراء جدد وواعدون كزياد العناني ومحمد عبيد اللات وحكمت النوايسة أو شعراء مخضرمون تجاوزوا أنفسهم بشكل ملحوظ كخالد محاوين وأحمد المصلح وسلوى النعيمي وسلوى السعيد والمتوكل طه. وليس من قبيل المبالغة في شيء القول أن مستوى الشعر الذي قدم هذا العام في قاعات عمان كان على وجه الإجمال متميزاً ومرضياً الى حد بعيد. الحلقات النقدية التي انعقدت قبيل أمسيات الشعر بوقت قصير لم تتح للنقاد المشاركين الوقت الكافي لتقديم مداخلاتهم أو للخوض في نقاشات معمقة، ولا هي أتاحت لشعراء الأمسيات القلقين على حضورهم وأدائهم الفرصة الملائمة للمشاركة أو الاستماع مما يجعلنا نتمنى على ادارة المهرجان اعادة النظر بهذا الأمر والفصل بين الشعر - النقد بما يتيح لكل منهما أن يأخذ ما يستحقه من الوقت والاهتمام. ومن الضروري الإشارة الى أن الدورة الحالية لمهرجان جرش سميت دورة عرار تيمناً بشاعر الأردن الراحل الذي ولد قبل قرن كامل وعلى رغم أن المهرجان جاء بعد شهر ونصف فقط على الاحتفال بالمئوية في عمان واربد فإن تجربة الشاعر كانت موضع اهتمام واسع من خلال أوراق وبحوث قدمها نقاد كثيرون كزياد الزعبي الذي حقق ديوان عرار "عشيات الوادي اليابس" ورشيد العناني وخليل وسليمان الأزرعي وغيرهم. ومع ذلك فإن شاعراً كبيراً كعرار يستحق المزيد من البحث والتنقيب والتأمل في تجربته النادرة على الصعد اللغوية والفنية كافة. إذ لم يحدث منذ الشعر الجاهلي تقريباً أن اهتم شاعر عربي بالأماكن والجغرافيا ومواطىء العيش والقلب كما فعل وهبي التل. فهذا الشاعر يؤلف عبر شعره وطناً كاملاً من الرؤى والأطياف وقصاصات العيش والحنين. وقلما يحيلك شاعر الى الشغف بالأماكن التي احتفى بها، باستثناء بدر شاكر السياب، بقدر ما يفعل عرار في شعره وحياته. إضافة الى ذلك فهو شاعر شغف وشهوات وصعلكة ولذائذ وتمرد وحواس. انه باختصار عاصمة الوجدان الأردني وقطب رحى ذلك القوس الأرضي الممتد من المفرق شمالاً الى العقبة في أقصى الجنوب. موضوعات عدة أخرى تناولتها الحلقات النقدية بالتحليل والنقاش من بينها ورقة مميزة لوجيه فانوس بعنوان "الناقد العربي المعاصر وتحديات العولمة" وأخرى لإبراهيم السعافين بعنوان "الشعرية والنثرية بين قيد المصطلح وفوضى الاستخدام". لا يمكن الحديث عن جرش بمعزل عن المهرجان الظل، وربما الأمتع، الذي يقام صباح مساء في أروقة وغرف فندق "القدس" الذي يستضيف الشعراء والنقاد ويتحول الى محطة دائمة للمرح والدعابات والنقاشات والنميمة البيضاء! ولعل الوجه الأجمل للمهرجان ليس الشعر، الذي كثيراً ما تثخنه جراح المنبرية والخطابة، ولا النقد، الذي يحتاج بدوره الى المزيد من النقاش المعمق والهادىء، بل كونها الفسحة الوحيدة التي تتيح لأبناء الأمة الضالين أن يتواصلوا بشكل حميمي وأن يتخففوا قليلاً من عناء حياتهم الشاقة ومكابداتهم اليومية المضنية. ثمة أصدقاء أردنيون رائعون أتاحوا لمهرجان جرش أن يكون ما هو عليه عبر العمل الدؤوب والبذل الصامت والمتواصل. وفي طليعة هؤلاء السيدة ليلى شرف التي لم تكتف بما تبذله من جهود مريرة في الإشراف والتنظيم بل تثابر بشكل يومي على حضور مختلف الندوات والأمسيات، وأكرم مصاروة، مدير المهرجان، بحيويته المعهودة ودماثة حضوره وجريس سماوي الذي يوزع عذوبته بنجاح بين القصيدة والوظيفة ويتنقل بخفة بين ألغام الشعراء ومزاجيتهم المفرطة. كما لا يمكن الحديث عن جرش من دون الحديث عن النشاطات الموازية التي أقيم بعضها في جامعة فيلادلفيا وبعضها الآخر في جامعة البتراء حيث تحولت هذه الأخيرة من خلال الحضور الطيفي الحميم للصديقين خالد الكركي وسمير القطامي الى واحدة من أجمل الندوات وأكثرها احتفاء بالشعر. قد يكون هناك الكثير للتحدث عنه لو أمكن للذاكرة أن لا تخون والمقام أن يتسع. فهناك من الصداقات الرائعة ما يستدعي المزيد من الاستفاضة وهناك من الخصومات والمكائد الصغيرة والحيل والطرائف ما لا مجال للغرق في تفاصيله. لكنك تغادر عمان بالمرارة نفسها التي يغادر فيها الأحبة حبيباتهم. فهذه المدينة ما أن تزورها للمرة الأولى حتى تنشب في داخلك أظافر من ورد وصداقة ورغبات. انها مدينة جسدها من حجر وقلبها من شغف ودموع. لذلك فهي تتشبث بعشاقها المغادرين تشبث النساء بالمرايا والرجال بالقطارات المزدحمة. وحين تعود الى بيروت تكتشف أنك لم تغادر مدينة لتستقبلك أخرى. فقد سبق لك أن قلت ان بيروتوعمان ليستا سوى ضفتين لقلب واحد حتى لو كانت الأوطان تطوى كالثياب لوقع فم أولاهما على وجنة الثانية.