يعدّ الرئيس الجيبوتي السابق حسن غوليد ابتيدون اكبر الرؤساء المعمّرين في القارة الافريقية ومنطقة الشرق الاوسط. ومع انه تجاوز الثمانين الا انه يتمتع بذاكرة قوية تجعله شاهداً على أحداث عصره. مما يزيد اهمية شهادته على الحوادث التي عاصرها وشارك في كثير منها، خصوصاً معركة استقلال جيبوتي وانضمامها الى جامعة الدول العربية والمنظمات الاقليمية والدولية الاخرى. واكتسب غوليد مزيداً من الاحترام لدى شعبه وشعوب المنطقة العربية والافريقية بعدما حرص على انتقال السلطة منه الى خَلَفه الرئيس اسماعيل عمر جيلي باسلوب ديموقراطي خلا من العنف والتسويف، الامر الذي يجعله رمزاً سياسياً مهماً في تاريخ منطقة القرن الافريقي. فتح الرئيس غوليد دفاتره ل"الوسط" بعدما ارتاح من عناء الحكم ومشاغله وكشف كثيراً من الاسرار واللقاءات والذكريات والتجارب. وكانت حصيلة ذلك اللقاء الآتي: هل راودتك فكرة ان تصبح رئيساً لجيبوتي؟ - الوطني الغيور لا يتجاوز طموحه عند بداية نضاله عن تحقيق الاستقلال والتخلص من الحكم الاجنبي فلم أمنِّ نفسي بحكم البلاد بقدر ما تمنيت تحقيق الاستقلال، والرئاسة كلفة ومسؤولية لا يتمناها العاقل، ومارست النضال في صفوف المقاومة حتى نالت جيبوتي استقلالها ووجدت نفسي رئيساً للدولة. كيف بدأت رحلتك في عالم السياسة؟ - لست ميّالاً الى الحديث. يغلب على طبعي السكوت، حتى قيل عني "ابو الهول متحرك" لطولي الفارع وبنيتي القوية وسكوتي الدائم. وكنت أميل دائماً الى التفكير العميق في القضايا الصومالية وهموم شعبها الكثيرة لوقوعنا تحت سيطرة ثلاث دول قوية ايطاليا، بريطانيا، فرنسا. وفرنسا كانت تستعمر جيبوتي وعلى رغم تنوع القوى الاستعمارية ومشاربها الثقافية المتنوعة فهي لم تؤثر في وحدة مشاعر الصومالين. وكانت الثلاثينات والاربعينات والخمسينات فترة تفجر المشاعر الوطنية في افريقيا، خصوصاً في منطقة شرق القارة. بعد الحرب العالمية الثانية ظهر بصيص من الامل للاستقلال، لان شعوب المنطقة، باستثناء اثيوبيا، كانت واقعة تحت الاستعمار، وبدأت هذه الشعوب في تأسيس المجموعات الوطنية التي تدعو الى الاستقلال. وكان اندلاع ثورة 23 يوليو المصرية في الخمسينات احد الدعائم الرئيسية لتطلعات شعوب القرن الافريقي للاستقلال وتأييد الرئيس جمال عبدالناصر العلني لاستقلال الصومال، وانتقاداته العنيفة للمستعمرين، كل ذلك شجّع القوى الوطنية التي كانت تمارس الوسائل السلمية للمطالبة بالاستقلال فبدأت تتحول الى المواجهة العنيفة ضد المستعمر، وبدأت القوى الاستعمارية ترضخ لمطالب الوطنيين. ودخلت في مفاوضات تمهيدية لدراسة مستقبل هذه المستعمرات وعلاقتها المستقبلية معها. بطبعي كنت دائماً أميل الى الاستماع واتجنّب الحديث اثناء النقاش في مجلس الشيوخ الفرنسي، الذي انتخبت عضواً فيه في بداية الستينات، واعتقد ان هذه الميزة هي التي دفعت الفرنسين لطلب الاستماع الى آرائي في القضايا التي كانت تُطرح في البرلمان. فكانت هذه بالنسبة لي الانطلاقة الرئيسية في العمل السياسي، ومن خلال المناقشات التي كانت تدور في مجلس الشيوخ الفرنسي استفدت اشياء كثيرة، وتعرفت بقادة افريقيا الذين كانوا اعضاء في مجلس الشيوخ الفرنسي ممثلين لشعوبهم، واصبحوا رؤساء بلدانهم بعد الاستقلال، فكانت التجربة بالنسبة لي تجربة مفيدة أثّرت في عملي السياسي. والممارسة الديموقراطية التي تُطبّق في فرنسا أثّرت في حياتي السياسية لاحقاً وان كانت هذه الديموقراطية الفرنسية لا تمارس في المستعمرات الفرنسية بالصورة نفسها، فقررت ان استغل هذا المنبر لصالح شعب جيبوتي بالطريقة التي يتخذها ممثلو المستعمرات الافريقية في البرلمان الفرنسي. وكيف تمكنت من توصيل صوت جيبوتي الى المستعمر الفرنسي؟ - في البداية قدمت اول مشروع الى الجمعية الوطنية يتضمن اجراء انتخابات برلمانية محلية في جيبوتي باشراف مراقبين من البرلمان الفرنسي ومشاركة اعضاء الجمعية الفرنسية من هذه المستعمرات، وهذا مخالف لما كان يجري عليه العمل في الانتخابات السابقة التي كانت تجري تحت ادارة الحاكم الفرنسي. لقي الاقتراح قبولاً من البرلمان الفرنسي، وبموجبه بدأت الانتخابات في بداية الستينات وكان بالنسبة لي اول عمل سياسي بارز اقوم به، وأقف لأول مرة متحدثاً في البرلمان الفرنسي الذي مكثت فيه طوال سنوات ثلاثة صامتاً على رغم طولي الفارع الذي كان ملفتاً للانظار. لكنني لم اشارك فيه بفعالية حتى تلك اللحظة، ودون ان اشعر وجدت نفسي امام تأييد شعبي كبير واهتمام الدوائر السياسية في الداخل والخارج. تقدمت بعد سنة باقتراح يدعو الى اقامة حكومة محلية، فقوبل باعتراض شديد خصوصاً من جانب عناصر جيبوتية محسوبة على فرنسا بادرت بانتقاد مقترحاتي ومهاجمتي شخصياً. وأتى استقلال الصومال ليمثل اكبر داعم للاستقلاليين في جيبوتي على رغم الاطماع الصومالية الواضحة في ضم جيبوتي الى الصومال الكبير، الا ان المنادين بالاستقلال وجدوا في هذا الموقف سنداً لاقامة دولتهم والانفكاك من ربقة الاستعمار. كما كانت هناك ايضاً اطماع اثيوبية لضمها، فكما ضمّ الامبراطور هيلاسيلاسي اريتريا، كان يطمع في ضمّ جيبوتي الى امبراطوريته، الامر الذي أوقعنا بين فكي اثيوبيا وفرنساوالصومال الدولة الوليدة. وكان المساند الوحيد لاستقلالنا الدول العربية وجامعتها التي كانت تدعو صراحة وعلناً الى خروج الاستعمار الفرنسي من جيبوتي، واهتمام منظمة الوحدة الافريقية كان ينصبّ في جلاء فرنسا من جيبوتي من دون تحديد موقفها ورأيها في الصراع الدائر بين الصومال واثيوبيا حول استقلالنا. ما هي الوسيلة التي مكّنتكم من تحقيق الاستقلال؟ - حدثت متغيرات اقليمية ودولية كان لها تأثير في مسار سياسة الدول الاستعمارية وافكار زعمائها الذين ادركوا صعوبة حكم مستعمراتهم بالاسلوب القديم، وخصوصاً امام المقاومة العنيفة التي قامت بها الشعوب الافريقية التي رضخت لها الدول الاستعمارية لقبول مطالب هذه المستعمرات. وتحول صراع الحرب الباردة بين الدول الكبرى في البحر الاحمر ومنطقة القرن الافريقي ليصبّ في مصلحة شعوب المنطقة الساعية الى تحقيق استقلالها، فنالت حتى نهاية الستينات ما يقارب ال70 في المئة من المستعمرات الافريقية استقلالها، وابقت على حوالي 30 في المئة من مستعمراتها الصغيرة بالتراضي مع منحها استقلالاً ذاتياً لادارة شؤونها المحلية. وبدأ الفرنسيون اسلوباً جديداً ومنهجاً خاصاً في تعاملهم مع المستعمرات الباقية. اثناء هذا الخضم من الاحداث العالمية والمحلية انشأنا حركة وطنية تحت اسم حزب "تجمع الشعب الافريقي للاستقلال" برئاستي، وكان معي احمد الدين حمزة الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس وعضوية مأمون بهدون. واقمنا لجان عمل في الاحياء الشعبية. اتيحت لي فرصة داخل الجمعية الوطنية الفرنسية لالقاء خطاب باسم المجموعة الفرنسية فكانت بالنسبة لي اكبر فرصة لنقل آرائي عبر وسائل الاعلام الفرنسية الى العالم، فسهرت الليل كله لأُعدّ هذا الخطاب وكنت أتوق الى وصول هذه الكلمة بصفة خاصة الى شعب جيبوتي لانها يمكن ان تحدد مصيره. وحين علوت المنصة لألقي كلمتي فوجئت بأني نسيت "نظارتي" مما جعلني اضطرب واصاب بارتباك وخجل في القاعة، لكنني اضطرت الى ارتجالها خصوصاً انني كنت اعرف جيداً محتوياتها التي اذهلت من استمع اليها داخل القاعة وخارجها، فقد طالبت الفرنسين بمنح جيبوتي استقلالها، والا اضطر شعبنا الى اللجوء الى الكفاح المسلح، فكانت كلمة مدوية عمّ صداها ارجاء العالم، بين مؤيد ومنتقد، الا انها وجدت تجاوباً وترحيباً واسعاً لدى الشعب الجيبوتي. عندها ادرك الفرنسيون ان لدينا تنظيماً سرياً داخل جيبوتي وانني اعلنته داخل هذه القاعة. وكان اول المعترضين على هذا الموقف الحاكم الفرنسي لجيبوتي الذي طالب بعزلي من البرلمان. وبما انني كنت اتمتع بالحصانة البرلمانية فهو لم يستطع اتخاذ اجراء ضدي. وكان التجاوب مع مطالبنا كبيراً في الاوساط الفرنسية، خصوصاً من الاحزاب المعارضة واليسارية. كما ان الرأي السائد في فرنسا كان يدعو الى عدم الدخول في عراك يجلب العداء بين فرنسا وشعوب مستعمراتها. وكانت الاحزاب الاشتراكية اكثر الفئات تأييداً لاستقلالنا وهذا التأييد لقي انتقادات مريرة من قبل فرنسا التي حركت عناصر ضدنا، وأنشأت احزاباً تدعو الى بقاء الاستعمار الفرنسي، كما تعرضت داخل فرنسا الى مضايقات، واصبح وجودي هناك لا يخدم القضية الوطنية. وكنت التقي بزعماء جيبوتي الآخرين كل شهر في ايطاليا في منزل السفير الصومالي، وفي احدى المرات اتيت الى ايطاليا لألتقي بهم ففوجئت بعدم وجود احد منهم، كما فوجئت بطلب الرئيس سياد بري حضوري الى مقديشو على متن طائرة أُعدّت لهذه المهمة. كان ذلك في عام 1973. ولم يكن امامي خيار غير ركوب الطائرة والذهاب الى مقديشو بجواز سفر صومالي. وقابلت سياد بري وعدت الى روما ثم انتقلت الى باريس من دون ان يعلم بذلك غير قلة من الافراد. كيف قابلك سياد بري؟ وما هي المهمة التي استدعاك من اجلها؟ - كنت اتساءل وانا على متن الطائرة، لكنني لم اجد لديهم رداً شافياً. واعتقد بأن من كانوا معي على متن الطائرة رجال امن لديهم أوامر بألا يتبادلوا الحديث مع الآخرين. والصورة التي كانت في ذهني عن سياد بري انه يعتبر نفسه أباً لكل الصوماليين، سواء في اثيوبيا او جيبوتي او كينيا، ومن يخالفه هذا الرأي يتعرض للاعتقال مباشرة. وهو عسكري عنيد ولديه كبرياء وعزّة نفس لدرجة الغرور. كان وصولنا الى مقديشو ليلاً، وكنت أُمنّي نفسي بالاستراحة في الوقت المتبقي من الليل وأُعدّ نفسي لمقابلته في الصباح الا ان الذي لم أتوقعه، ان يفاجئني طارق الليل في الثانية الا ربع فجراً ويطلب مني ان أقابله في هذه الساعة المتأخرة من الليل. وعلى رغم انزعاجي من هذا التوقيت الذي لم أتعود عليه، اذ اعتدت ان أنام بعد صلاة العشاء وأصحوا مبكرا لأداء صلاة الفجر، لكنني تمالكت نفسي وجاملته فتم اللقاء. اطلعني سياد بري على مشروعه لتحرير جيبوتي ووصل به الأمر الى درجة توجيه الأوامر لي لتنفيذ مشروعه. وأكثر من هذا أخبرني بأن له قوات أولها في جيبوتي وآخرها في مقديشو! ومن جملة أفكاره أنه على استعداد لتسليح كل من له القدرة على حمل السلاح من شعب جيبوتي. واستمر حديثه معي ساعتين من دون توقف. تحدث عن نضاله لإعادة الأراضي الصومالية التي تحتلها اثيوبيا، والأراضي الواقعة تحت الإدارة الكينية، ودعمه اللامحدود للثورة الاريترية، وإقامته معسكرات على طول حدود الصومال لتدريب جبهة تحرير جيبوتي الذي خصص لها مشرفين ومدربين أكفاء. وحدثني عن جبهة تحرير اريتريا وأوغادين وجبهات تحرير عدة ملأ عاصمة بلاده بمكاتبها. طلبت منه ان يستمع الى وجهة نظري بعد هذا الشرح الطويل، وقد تعمدت توجيه هذا السؤال لأتفادى المواجهة معه، لعلمي بطبيعته الحادة التي لا تقبل الرأي المخالف. ولطبيعتي التي لا تقبل إملاء الأوامر. علت وجهه ابتسامة رضا، وسمح لي بالحديث فبادرته بأننا في المنطقة نعتبر أباً لكل حركات التحرر، وهو شرف للشعب الصومالي، وطلبت منه ان يكون دعمه بالتدريب والتسليح لجبهة تحرير جيبوتي دون ان يتعداه الى مهمات أخرى لكيلا تتورط الصومال في قضايا يمكن ان ينجم عنها تفتيت جيبوتي، فتتحقق بذلك أطماع الفرنسيين، حتى لا يحدث خلل في المعادلة الجيبوتية لأنها تتكون من قبيلة عيسى ومرجعيتها الصومال، وقبيلة عفر التي لها فروع في اثيوبيا واريتريا، الى جانب عناصر أخرى. ولو تدخلت الصومال فسيتحول هؤلاء الى صف فرنسا وهذه الحقيقة كان الرئيس بري يجهلها. وكان يظن انها منطقة صومالية صرفة ولا توجد فيها أعراق غير صومالية. اقترحت عليه استضافة كل العناصر الجيبوتية بمختلف انتماءاتها العرقية، وتوسيع دائرة جبهة تحرير جيبوتي لتكون وعاءاً يستوعب كل الجيبوتيين. وقبل ان أنهي حديثي قاطعني ليعلن موافقته. وطلبت منه ان يساعدنا في الاتصال بالدول العربية، فأبدى موافقته ايضاً ووجه أوامره الى جميع سفاراته في الدول العربية لتسهيل مهمتنا. فتحولت بذلك كل السفارات الصومالية الى مكاتب لنا وانشأنا آلية للتعاون، وكان ثمرة هذا التعاون قيامنا بأول زيارة للمملكة العربية السعودية ومقابلتنا المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز الذي وجدنا فيه الأصالة العربية، ودماثة الخلق، وطبيعة النفس الممتلئة بروح الاسلام، فتلقينا منه أول عون مادي، وكان لذلك تأثير قوي في رفع معنوياتنا. بعد هذا تفرغت للعمل النضالي، وتخليت عن عضوية البرلمان الفرنسي ثم انتقلت الى القاهرة - مركز حركات التحرر العربية والافريقية - وكان أول لقاء بالرئيس الراحل أنور السادات. وكان حرصي على مقابلة هذين الزعيمين - الملك فيصل والسادات - لاقتناعي بأن مساندة دولتيهما لنا هي الدعامة الأساسية التي يمكن الاعتماد عليها في نضالنا، لأني كنت في قرارة نفسي خائفاً من طموح سياد بري الذي يمكن ان يقلب علينا ظهر المجن في حالة اختلافنا مع سياسته ولإدراكنا بتأثير هاتين الدولتين السعودية ومصر في السياسة الدولية. ومما زاد قناعاتي رسوخاً اني وجدت تمسك هاتين الدولتين باستقلال جيبوتي اكثر من الجيبوتيين أنفسهم، انطلاقاً من رؤيتهما الاستراتيجية للمنطقة التي ظهرت أهميتها بشكل واضح في حرب اكتوبر 1973، وفهمهما لهذه الاستراتيجية من منظور القومية العربية. ثم توالت علينا اتصالات التأييد من جهات عربية أخرى، في مقدمها العراق وسورية واليمن وهذه الدول تمثل مركز ثقل عربياً، وانعكس ايجابياً في أروقة الجامعة العربية التي ساندت بشكل علني استقلال الشعب العربي الجيبوتي، وهكذا اكتملت انطلاقة "جبهة تحرير جيبوتي" عسكرياً وسياسياً. وفتحت لنا أبواب العواصم العربية، وأصبح نشاطنا في 74 - 1975 سياسياً وعسكرياً متوازياً، مما مكننا من إحراج فرنسا. ثم وسعنا ضغوطنا على فرنسا ديبلوماسياً من خلال المجموعة العربية والمعسكر الشرقي الذي كان يتعاطف مع حركات التحرر في العام الثالث. وفي 1976 طلبت فرنسا بدء حوار معنا، واستمرت المفاوضات اكثر من عام بين شد وجذب، وفي بداية العام 1977 أحسسنا من خلال المفاوضات بأن فرنسا اقتنعت بحتمية استقلالنا، لكنها تريد ان تفرض علينا شروطاً صعبة، فرفضنا ان نقيد استقلالنا بشروط. وكنا في هذه المرحلة نطلع أشقاءنا في الدول العربية على وقائع المفاوضات ونحصل منهم على المشورة السياسية والقانونية لكيلا نقع في المطبات التي يحيكها لنا المفاوض الفرنسي، كما كنا نبتعد عن الجانب الصومالي أثناء المفاوضات لأننا كنا نلمس تحسساً من بعض عناصر وفدنا المفاوض من الصوماليين. كل هذه الرحلة الطويلة انتهت باستقلال جيبوتي الذي أعلن رسمياً في 26 حزيران يونيو 1977. كيف ومتى انضمت جيبوتي الى جامعة الدول العربية؟ - بعد استقلال جيبوتي مباشرة أعلنا انضمامنا الى الجامعة العربية، لأنها قناعة الشعب الجيبوتي بأسره بانتمائه العربي، وقبل ان تخفت جذوة الفرحة باستقلال البلاد لدى الشعب العربي قاطبة أعلنا ذلك حتى لا ندع مجالاً للشك في انتمائنا العربي للذين كانوا يشككون في ذلك. بعد مضي 22 عاماً من انضمام بلادك الى الجامعة العربية والحال لا تزال كما كانت سابقاً. ألم يساورك شعور بالندم من هذا الانتساب للجامعة العربية؟ - لو عادت عقارب الساعة الى ذلك الوقت لاتخذت القرار نفسه لأنها قناعتي وقناعة الشعب في جيبوتي ولم يتطرق الى نفسي في أي يوم الشك في انحيازي الى الانتماء العربي لشعب بلادي. هناك حقاً تشكيك في عروبة جيبوتيوالصومال الى درجة ان بعض القادة الصوماليين طالبوا بعد انهيار نظام سياد بري بسحب بلادهم من عضوية الجامعة العربية؟ - الشعب الجيبوتيوالصومالي تجري في عروقه الدماء العربية المتجانسة مع الشعوب العربية، وهو مرتبط بها عرقياً منذ فجر التاريخ. أصل العرب من الجزيرة العربية، وبين جيبوتي والجزيرة فاصل مائي بسيط يستطيع من يجيد السباحة ان يصل أرحامه في الجانب الشرقي. وأمراء الحرب في الصومال الذين يتموا الأطفال وتركوا النساء ثكلى ويتاجرون بالعروبة والاسلام لا غرابة في دعوتهم هذه، لأنهم سفهاء، ولا يتوقع منهم غير ذلك! ولكن في الحقيقة ان الذي شوه عروبة جيبوتيوالصومال هو الرئيس إسياس افورقي الذي ما فتئ يقلل من عروبتنا في كل مناسبة أتيحت له بطرحه عروبتنا على المزاد من خلال مقولته: "إذا كانت جيبوتيوالصومال عربية فإن اريتريا اكثر عروبة". هذا الطرح في الاعلام العربي هو الذي أضر بنا كثيراً فانتماؤنا العروبي هو انتماء روحي ووجداني وعرقي، وليس مصلحياً، ولن يتأثر بكلام من يتحدثون عن جهل وحقد. وربما تأثر بعض الناس من الظواهر السطحية للثقافة الفرنسية التي أثرت في ثقافتنا العربية، ولكن هذا ليس قاصراً علينا، اذ يوجد كثيرون مثلنا، وخير شاهد على ذلك دول المغرب العربي التي تأثرت بالثقافة الفرنسية من دون ان يشكك أحد في عروبتها، ونحن لا نقبل النقاش في عروبتنا. وإن تكن في ألسنتنا عجمة فقلوبنا عربية تنبض بالضاد، وموقفنا دوماً مناصرة القضايا العربية، ولدينا قناعة بأنه اذا اعترف الآخرون بعروبة اليمن فنحن جزء لا يتجزأ من اليمن. نريد ان نعرف شعورك في اجتماع القمة العربية وأنت لا تجيد العربية... - كيف تصدر حكمك علي بأنني لا أعرف العربية وأنا أرد على أسئلة "الوسط" بالعربية؟! صحيح أنني لا استطيع ان أجاري الخطباء السياسيين باللغة العربية، أما الحديث العادي والتفاهم مع الآخرين، فأستطيع من خلاله توصيل كل ما أريد قوله. ولا تنسى المستعمر الذي فرض علينا ثقافته، وحرمنا من تعليم اللغة العربية التي رضعناها من البيئة. والحياة اليومية العادية في بلاد متأثرة باللهجة اليمنية، ولم نشعر بعقدة من هذا النقص في أي يوم. ولم نكن نتوقع ان أحداً سيقدح في عروبتنا بهذا الأسلوب. ونحن في معاملاتنا اليومية نستطيع التفاهم باللهجة المحلية المستمدة من اللهجة اليمنية. أما الحديث في مؤتمرات القمة العربية فالدور الأكبر ينحصر في عدد محدود من الرؤساء والبقية دورهم الاستماع، ومن خبراتي بالبروتوكول والمراسم كنت أتجنب المواقف المحرجة. وكنت أنصح المرحوم سياد بري الذي كان يلقي خطابه في مؤتمرات القمة العربية باللغة الايطالية بأن يتفادى هذا الموقف بأن يقدم شرحاً مكتوباً لكلمته يوزع على الوفود، الا انه كان يصر على موقفه وكان يتعاطف معه أنور السادات بصفة خاصة، باعتباره واجهة للعرب في القرن الافريقي. هل تذكر مواقف صعبة واجهتك في مؤتمرات القمة العربية؟ - هناك قمتان عربيتان واجهتني فيها مواقف صعبة تدمي القلب. الأولى قمة بغداد 1979 عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد واتخذت القمة قراراً بمقاطعة مصر ونقل مقر الجامعة العربية الى تونس، فكان هذا القرار أصعب موقف واجهته. وكانت مرارته علي أشد وقعاً وإيلاماً باعتبار مصر من أول الدول التي ساندت نضال شعب جيبوتي، وعلى رغم معارضتي اتفاقية كامب ديفيد، الا انني كنت أرى في هذه المقاطعة أنها ضد الشعب المصري وانها لن تؤثر في الحكومة المصرية، ولذلك ألححت عبر الآخرين بضرورة احترام هذا الموقف. إلا أن رأينا لم يجد أذناً صاغية، لأننا دولة صغيرة وحديثة الاستقلال، ولأن جبهة الصمود والتصدي المتبنية للمقاطعة كانت قوية داخل الجامعة الى جانب دول "الخليج" التي كانت تساند اتجاه المقاطعة. وعلى رغم حاجتنا الى علاقة طبيعية وهادئة مع هذه المجموعة تمسكنا بموقفنا ورفضنا المقاطعة الى جانب السودان والصومال وسلطنة عمان. ولعل مرور الاحداث وتطوراتها كشف للعرب دور مصر الطليعي واهميتها للعرب، فرجعوا الى مصر ورجعت الجامعة الى مقرها - القاهرة. والموقف الثاني الصعب حصل في القمة التي تلت العدوان العراقي على الكويت، اذ كان الخبر بالنسبة لي شخصياً مؤلماً ولم أتوقعه أبداً. وأذكر للتاريخ ان العراق كان أكبر دولة عربية دعمت جيبوتي. وكانت له مشاريع عملاقة في بلادنا بملايين الدولارات في نطاق خطة خمسية. حتى الطائرة التي كنت استخدمها كانت هدية من العراق. وكانت لنا معهم اتفاقية يمولها العراق لمشروع التعريب في جيبوتي حتى العام 2000. كما ان السعودية هي صاحبة اليد البيضاء في تمويل مشاريع البنية التحتية في دولة جيبوتي. وللكويت اسهامات كبيرة في تمويل عدد من مشاريع التنمية في جيبوتي. فكان ما حصل بالنسبة الينا موقفاً حرجاً ومحرجاً، لأننا كشعب عربي لا نعض الأيادي التي ساعدتنا ولا بد من ذكر مواقفهم النبيلة الا ان ذلك لا يمكن ان يكون سبباً يحول دون اتخاذ مواقف تتفق مع مبادئنا، وعند مناقشة الموضوع انقسم العرب الى جهتين واتصلت بنا بعض الجهات لمساندة موقفها. وعلى رغم ذلك اتخذت قراراً يتماشى مع ضميري ومبادئي ضارباً عرض الحائط بالمنافع المادية الموقتة لبلادي، وتصورت وأنا أتخذ هذا القرار بأن بلادي الصغيرة احتلتها احدى الدول المجاورة فكان موقفي نابعاً عن اقتناع عميق، وإقدام العراق على احتلال الكويت، على رغم مواقف بغداد الجميلة معنا، كان نهجاً خاطئا وقفنا ضده بصلابة. ما هو موقفكم من النزاع الإريتري - الاثيوبي؟ وهل هناك احتمال لتحوله حرباً شاملة؟ - للتاريخ ولتعتبر الأجيال الآتية، انني على رغم كبر سني كنت أول وسيط بين البلدين. بدأت الوساطة باتصال هاتفي، وزرت أسمرا وأديس ابابا أربع مرات في رحلات مكوكية، طمعاً في ان يكون الحل بيدي ولأجنب البلدين ويلات الحرب. وقابلت رئيسهما وكان اعتقادي في البداية بأن ما حدث مسرحية سيئة الإخراج، يمكن بترها في مهدها. ولم يتطرق الى ذهني أبداً ان يختلف البلدان ويبلغ العداء بينهما هذا المبلغ. باعتباري رئيس منظمة "ايغاد"، قمت بجولة مكوكية بين الدولتين لأستطلع حقيقة الأمر بعد بداية الأزمة بأسبوع واحد، وذلك بعد ان مهدت لذلك باتصال هاتفي بالطرفين ووجدت ترحيباً منهما. كانت أسمرا محطتي الأولى. قابلني الرئيس افورقي مقابلة طيبة ورحب بي ترحيباً حاراً ووصفته بالأخ الكبير، وأبدى استعداده لحل الخلاف مباشرة وثنائياً، بل ذهب أبعد من ذلك فاتصل برئيس وزراء اثيوبيا ملس زيناوي هاتفياً أمامي وتخابر معه بلغة لا أفهمها، وأخبرني بأنه انهى الموضوع معه، وطلب مني ان أذهب الى أديس أبابا، وأسمع منه بنفسي. وصلت الى أديس أبابا وأخبرت زيناوي بما دار بيننا، وبأن المشكلة صارت منتهية ففاجأني بقوله ان ما تقوله ليس صحيحاً! والمشكلة لا تزال عالقة كما هي. فقلت له بأن هناك شخصاً ما يكذب! لكن زيناوي قال لي انه صادق في كل ما يقوله. ورددت عليه بأني سمعت أفورقي يخاطبك في الهاتف، فقال نعم اتصل بي وقلت له جملة واحدة، هي انسحب من المنطقة ثم يأتي الحل الثنائي. وعلى رغم حديثه الطويل معي لم أزد على هذه الكلمات شيئاً. عدت فوراً الى أسمرة وقابلت افورقي وسألته لماذا أحرجني مع زيناوي. فرد بابتسامة وقهقهة عالية، وقال: أنتم مثلنا لا تعرفون مكرهم وخداعهم. كان الحديث يدور بيننا بالعربية. قال لي: الجماعة لا يحترمون كلامهم ولا يثبتون على موقف. وبعد الانتهاء من حديثه تبينت ان حجم الخلاف بينهما كبير، وان الخلاف حين يقع بين الأصدقاء يكون مغلفاً بأسرار ومرارات كثيرة، فخرجت بنتيجة ان حجم الخلاف والملفات التي ذكرها لا صلة لها بالنزاع الحدودي، فبدأت استوعب حجم التعقيد بين أناس كنا نعتقدهم قلباً واحداً في جسدين، لكنني أدركت أنهما قارتان لا تربطهما رابطة الاّ عداؤهما للرئيس السابق منغستو هايلي مريام، فالأزمة الحدودية بينهما ما هي الا نقطة في بحر الخلاف الذي يشمل النواحي الاقتصادية والسياسية والنظرة المستقبلية لأوضاع المنطقة. ومن الطبيعي ألا يدرك المراقب عن بعد عمق الخلاف. كانت جولتي الثالثة بعد المواجهة العسكرية التي حدثت في تموز يوليو إثر القصف الجوي المتبادل، وكانت الرؤية واضحة بعدما اعرب الرئيس الاريتري عن مرارته إزاء الغارات الجوية على أسمرا، ولمست فيه لغة التهديد وروح الانتقام. أما الجانب الاثيوبي فلمست لديه احقادا وكراهية ومرارات بسبب قيام الطيران الاريتري بمهاجمة مقلي وعديقرات. فخرجت بقناعة بأن الجانبين اتفقا على ألا يتفقا! وفي ايلول 1998، أذكر أنك زرتني في جيبوتي وقلت لك ان هذا الحديث ليس قابلاً للنشر ومؤداه ان هذا الخلاف لو حُلّ سلمياً فسيكون بالنسبة لي أكبر مفاجأة! لأن أفورقي قال لي: مثل ما أتيت بهم الى السلطة سوف أذهب بهم! وطالبني بألا أبذل جهداً لحل هذه المعضلة لأنه حدد سلفاً ما يريده بتوقعه انهيار الحكومة الاثيوبية بعد فترة وجيزة ولأنه سيفتح عليهم جبهات عدة، وان خلافاً سيحدث بين الصفوة الحاكمة نتيجة التباينات العرقية والاقليمية، وهو يعتبر نفسه خبيراً في الشؤون الاثيوبية، وكان يتوقع حدوث انهيار اقتصادي، خصوصاً بعد مقاطعة اثيوبيا للموانئ الاريترية، وكان يتصور أن ميناء جيبوتي لن يستطيع تلبية حاجات اثيوبيا وان المؤسسة العسكرية الاثيوبية المنهارة ستحتاج الى سنوات لإعادة تأسيسها واللحاق بالمؤسسات العسكرية القوية وبالجيش الاريتري المعد جيداً. تحت تأثير كل هذه العوامل إما ان تلبي اثيوبيا مطالبه أو تنهار. وفي جميع الحالات كان أفورقي يعتقد بأنه سينتصر ويأخذ كل ما يريده. وقلت له: كلمة للتاريخ… ان كل ما قلته في رحم الغيب، الشيء الوحيد الذي تضمنه هو الانسحاب من المناطق المتنازع عليها وحلها بالتحكيم، وان كل التصورات التي طرحتها تحمل مخاطر مدمرة تتسبب في إراقة الدماء وإزهاق أرواح بريئة وذكرته بأن سياد بري من شدة جنونه وطغيانه وطرحه الأفكار نفسها التي تطرحها الآن وشنه غارة على اثيوبيا وضع نهايته بيده. ومنغستو الذي كان قوام جيشه نصف مليون جندي كانت فضيحته تفوق فضيحة جيشه المنهار، وذكرته لأن الذكرى تنفع. لكنه لم يعتبر وأهمل ما قلته له، وها هو الآن يدخل حرباً مجنونة الأهداف والرؤية، المنتصر فيها والخاسر سواء. ان أفورقي هو الذي أشعل هذه الحرب وسيكون أول المكتوين بنارها، وعواقبها الوخيمة تقع على الأبرياء من الشعبين. أرجو ألا يعتبر قراء "الوسط" هذا تشاؤماً مني، فمن الصعب إقامة علاقات طبيعية بين البلدين في ظل وجود النظامين، لأن نطاق الخلاف اتسعت دائرته الى درجة ان أي محاولة لعلاجه أصبحت غير ممكنة ولو استمر النظامان فسيكون الوضع لا حرب ولا سلام، بل قلق وتوتر مزمن. ما هي طبيعة علاقتكم بفرنسا وارتباطكم بالثقافة الفرنسية؟ - الثقافة الفرنسية مفروضة علينا من المستعمر، وحقيقة شربت من منابعها ولم يكن لي خيار غيرها، ولو خُيِّرت لفضلت الثقافة العربية لأنها تمثل تراثي ومستقبلي وهي لغة عقيدتي التي أتقرب بها الى خالقي، وأتعامل بها مع الناس في شؤون حياتي. أما الثقافة الفرنسية فلا تعدو ان تكون أداة اتخاطب بها مع الآخرين ولا تمس وجداني الداخلي كعربي مسلم غيور على دينه وتراثه ومعتز بتراثه الحضاري، وعلاقتنا مع فرنسا بعد الاستقلال علاقة مصلحية تراعى فيها مصلحة البلدين. ولا أنكر ان الثقافة الفرنسية هي السائدة في البلاد، وهذا ناشئ عن طول بقاء الوجود الفرنسي ومحاولته فرض ثقافته علينا، وامكاناتنا محدودة في الخلاص من هذه التبعية الثقافية، وبعد الاستقلال قمنا بمحاولات للرجوع الى الثقافة العربية مع توقعنا ان هذا سيأخذ وقتاً وجهداً كبيراً، ما لم يجد سنداً ودعماً من اخواننا العرب، وإمدادنا بالكادر المؤهل والمعدات اللازمة لتوجيه الجيل الجديد نحو الثقافة العربية. أما ما يتعلق بروابطنا السياسية مع فرنسا فلنا وجهات نظرنا المستقلة الخاصة، قد تجد تطابقاً مع السياسة الفرنسية أحياناً، وقد تسجل خلافاً معها في أحيان أخرى وهذا شيء طبيعي في سياسة دول مستقلة. ووجود مصالح لا يستتبع ان ندور في فلك سياستها بصورة عشوائية. ما هي الأمنية التي حققتها أو اخفقت في تحقيقها أثناء حكمك؟ - الأماني كثيرة والطموحات الإنسانية لا حدود لها، ولكن ان تكون واقعياً مع هذه الأماني وتتطلع الى ما لا تقدر على انجازه فهو ضرب من الخيال ومضيعة للوقت، وأنا كرئيس دولة كانت لي أمانٍ عدة أطمح في انجازها لإسعاد شعب جيبوتي الذي أولاني ثقته لأحقق له رفاهية وازدهاراً إلا ان امكانيات البلد المحدودة حالت دون تحقيق كثير من المشاريع الإنمائية والاقتصادية، ومع ذلك حققت بعضاً من هذه الأماني بمساندة شعب جيبوتي وأذكر لك، على سبيل المثال، توفير مياه الشرب في بيئة صحراوية يسود فيها الطقس الحار معظم السنة، وتوفير مجانية التعليم، ومجانية العلاج، هذه المسائل الثلاث لا أعتبرها انجازات عظيمة بالمقارنة مع ما كنت أطمح اليه، إلا أنها ضرورية وملحة في حياة كل شعب، بل هي من أولويات أي حكومة تهتم بمصالح شعبها. وأريد ان أسجل هنا إخفاقاً واجهته في تطوير خط سكك الحديد الذي يربط البلاد الذي مضى على إقامته ما يقارب القرن دون ان يلحقه التطوير، وعلى رغم جهدي الكبير لتوفير المال اللازم لتحسين أداء هذه المرافق الا ان هذه الرغبة وقفت دون تحقيقها المصاعب المالية. هل تتوقع تخلص شعب جيبوتي من إدمان "القات"؟ - القات مادة ضارة أبتليت بها شعوب القرن الافريقي تستنزف طاقاتها المالية والبشرية وشعب جيبوتي واقع تحت تأثيرها، إذ تصرف البلاد سنويا أكثر من 30 مليون دولار على حساب التنمية، وتأتي يومياً طائرة إثيوبية محملة به، وهو آفة تهدد البلاد سياسياً واقتصادياً، يقضي الشعب وقتاً كبيراً من يومه في تناوله ومضغه، وآثاره الضارة في صحة الانسان واضراره بالعمل واضحة، كما ان البلاد تقع تحت تأثير دولة اخرى، فقد حاولت منعه مرتين بقرار فوقي، ولكن للأسف حين منعت تداوله وجدت الإقبال أصبح أكثر من السابق، والغريب ان الأجهزة المعنية بمكافحته وتطبيق القوانين المتعلقة به انقلبت الى مروج سري له! والأغرب من ذلك ان الرئيس الاثيوبي السابق منغستو قال لي لا تمنع القات لأنه بترولنا الذي نصدره ويوفر لنا دخلاً كبيراً من العملة الصعبة! فالى جانب ضياع المال المهدر في شرائه هناك ضرر أكبر يلحق بالشباب عماد الأمم، في البناء والتقدم ويجعله أسير الإدمان، خاملاً، معطلاً عن العمل والإنتاج. فكان إخفاقي في تحقيق أمنية تحريمه أشد ايلاماً في نفسي ولا زلت استحضر هذا الموقف وأتطلع الى اليوم الذي يقلع فيه شعب جيبوتي بل وشعوب المنطقة عن هذه الآفة الضارة الأسبوع المقبل الحلقة الثانية