لم تُبد الصديقة الهولندية اهتماماً بسؤالي: أين تقع "محكمة العدل الدولية"؟ مدّت يدها في احد الاتجاهات وقالت: هكذا، ثم مضت في حديث آخر. فالأسماء والدلالات الكبرى لا تحرّك شيئاً كثيراً في الهولنديين الذين التقيت. وهم كلما ذكروا مدينة الهيغ، العاصمة الادارية والمدينة الثالثة بعد امستردام وروتردام، قالوا انهم يكرهونها لمحافظتها وأخلاقها القديمة. وحتى حين يتحدثون عن كبار فناني هولندا كفان غوغ ورامبرانت وفيرمير وبروغل، يتحدثون عنهم كأنهم نجوم "بوب" معاصرون. فهنا، في هولندا، ثمة ميل الى انشاء الفة شخصية مع التاريخ والرموز المحيطة. ومن يسير في الهيغ المحافظة التي تخترقها ساحات وديعة، لا يفوته انها مدينة خفية وغير ثقيلة الوطأة بالمجد. القصر الملكي في هذه المدينة، حيث تقضي الأسرة بعض الصيف، مبني داخل حي سكني تلاصقه جدران بيوت ومكاتب اخرى. ومن لا يعرف ان هذا هو القصر يخال انه بيت لموسر أرستوقراطي مولع بالقرب من الناس. 2 سألت الصديقة: هل لاسكندنافيا تأثير عليكم؟ استغربت ابنة امستردام سؤالي: "اسكندنافيا؟ لا، لا. نحن حين نبغي الخروج من العزلة والصقيع نتجه جنوباً، ولا نفكّر في الشمال الأكثر عزلة وصقيعاً. اننا نتأثر ببريطانيا وبلجيكا وفرنسا، والتسمية الجديدة للهولنديين انهم "متوسطيو الشمال الأوروبي". فهذه هي "البلاد المنخفضة" التي كتب الياس كانيتي ذات مرة ان الخندق "رمزها الجماعي". لقد خاف الهولنديون، بحسب كانيتي، علوّ البحر وما قد يفد اليهم عن طريقه. فإذا كان رمز الانكليز السفينة التي بها اقتحموا بحراً منخفضاً عنهم، فالخندق هو ما حفره الهولنديون في مواجهة بحر انخفضوا عنه. الآن، هذا كله تاريخ سحيق. فبعد استثناء الاندونيسيين بصفتهم من قدامى المهاجرين، يبلغ عدد المسلمين من ابناء الهجرات الجديدة 600 الف شخص من اصل 16 مليون هولندي. وإذا كان المغرب مصدر الهجرة النامية فإن امرين حريان بالتسجيل: ان العنصرية لم تصبح قوة ملحوظة بعد تبعاً لتقليد التسامح الشهير في هولندا، ولكن ايضاً لأن مجموع المهاجرين لا يزيدون الآن عن 6 في المئة من السكان فيما المتوسط الأوروبي يتراوح بين 8 و9 في المئة. والشيء الثاني ان المسلمين يجمع بينهم وبين الأحزاب الكاثوليكية المحافظة تعاطف مصدره الايمان والمطالبة بحقوق الأديان ومعتنقيها. 3 سألت استاذ التاريخ والفلسفة عن سر "التسامح الهولندي" وضعف تقاليد التطرف في هذا البلد، فقدم مطالعة في التاريخ. قال: ابحث عن ايراسموس أولاً - ايراسموس الروتردامي الذي عاش في النصف الثاني من القرن ال15 والثلث الأول من القرن ال16. فهذا الانساني والسكولائي المبكر، كان راهباً وناقداً مراً للحياة الديرية. عاش حياة زمنية وبشّر بالاصلاح، لكنه عارض الدوغمائية الاصلاحية للوثر متمسكاً بمبدأ "الارادة الانسانية الحرة". وفي سلسلة أهاجٍ شهيرة كتبها، اعتبر نقص المؤسسات الانسانية وقصورها "ضرورة"، ورأى من الجنون اطاحتها انتصاراً لفكرة مهما بدت لأصحابها صائبة. فايراسموس اصلاحي الا انه تمسك باستمرار السلطة البابوية. اصلاحيته ظلت هادئة وقليلة المعتقدية تتسع للجميع، بحيث انتقده المتعجلون في رغبة التغيير. وإبان حياته تحولت هولندا ارضاً للجوء الكالفينيين ممن لاذوا بمستنقعاتها هرباً من اضطهاد محاكم التفتيش الكاثوليكي الاسبانية. هؤلاء اعلنوا من هناك تمردهم على سلطة الامبراطور الكاثوليكي المتعصب فيليب الثاني فشقّوا اوروبا وكنيستها. بيد ان خصوصية هولندا كانت انها لم تعرف الحروب الدينية مع انها بين اوائل الذين تعلموا عبرة "التسامح" من هذه الحروب. لقد نما فيها الثقل البروتستانتي بفعل الهجرة اليها كما بفعل التزايد التلقائي. وشيئاً فشيئاً غدت ملكية البلاد بروتستانتية، اما الكاثوليك اليوم فلا يعدون اكثر من ثلث السكان الهولنديين. واختلف تاريخ الهولنديين عن تاريخ انكلترا التي شاطرتهم الانطلاقة الصناعية. فوجود الفحم الحجري في الجزيرة الانكليزية ما جعلها سبّاقة، فيما نقص الموارد ما جعل هولندا كذلك. هكذا شرعت تتغلب على عقدة الماء فتطلب الخلاص في الهجرة الى خارجها، والتعلم من ذاك الخارج والمتاجرة معه. وفي القرن ال17 تجسدت "الروح الهولندية" في سبينوزا الذي عاش هناك بين 1632 و1671. فقد كان عالمياً مبكراً في ثقافته واللغات التي اجادها. وما لبثت اليهودية المتزمتة يومذاك ان طردته من صفوفها، واشتهرت عبارة طرده حيث "مُنع ولُعن وفُرض عليه الحرم". وفي ما تبقى من حياته انتمى سبينوزا الى "طائفة المتعلمين الأوروبيين" وحدهم. 4 لقد أُجبر الهولنديون على ان يتاجروا وينتجوا. أصبحوا، حقاً، شعباً من المهاجرين الذين يتعلمون من جوارهم. وفعلاً تحس في الهيغ كما في امستردام، كيف ان صغر البلد وموقعه الجغرافي يتحولان امتيازاً حين يتعاطى سكانه مع جوارهم بلا عُقد، وباستعداد مفتوح لقبول الآخر. فمعرفة الانكليزية هنا غير مسبوقة الا بالبلدان الناطقة بها. والشيء نفسه يمكن قوله عن الألمانية. "بهذا وحده يمكننا ان نعيش وننافس" كما أردفت الصديقة. 5 انها أمستردام. عروس الشمال الأوروبي التي خلّدتها اغنية جاك بريل الشهيرة. مدينة زهرة التوليب والدراجات. مدينة الأقنية المائية التي بُنيت من حولها الحاضرة بعدما وصلت بينها الجسور المتوازية والمتقاطعة. في امستردام شيء من مائية البندقية وشيء من مقاهي باريس مشوبة بفرح حي كاسترو في سان فرانسيسكو. فهي، بامتياز، عاصمة الجسد والافتخار الايروسي. حياتها الليلية لا تقارَن الا بمثيلاتها في المدن الكبرى. وهي، في هذا، رقيقة رقة الجمع بين الماء وبين طبيعة خضراء ملوّنة بالورد، من دون ان ننسى الزجاج الذي "يخفّف" المدن ويكثر استخدامه في مبانيها. فعاصمة هولندا لا تعتمد، الا في القليل من مبانيها، على التزيين الباروكي الذي نراه في مدن ارستوقراطية كبراغ وفيينا. حجر القرميد، كما في لندن، يجعل عمارتها على قدر من العادية المحببة التي تطرد العظمة من مدينة تكره العظمة. متحف رايخس الذي يضم احدى اكبر المجموعات الفنية في العالم، لا يختلف في هذا التواضع عن "موريس هاوس"، المتحف الصغير والحميم في الهيغ. وقصر ساحة دام الملكي لا يحرسه احد، كما لا يحول حائل بينه وبين السياح والأطفال والحمام الذي يغزو الساحة. 6 سألت الصديقة الهولندية: أليس لديكم ما تأكلونه غير الوجبات الفرنسية والايطالية في المطاعم، او همبرغر ماكدونالد وبيرغر كينغ؟ أما من طبق هولندي خاص؟ قالت ان الهولنديين يأكلون اللحم والخضار والبطاطا، ويوم الجمعة يستبدلون اللحم بالسمك. وأضافت ان تحضيرهم لمآكلهم سيء، فما من شعب ينافس البريطانيين على رداءة مطبخهم كالهولنديين. كنا نتحدث فيما تهب علينا روائح الفلافل والشاورما التي تهيمن على زوايا بعض الشوارع الرئيسية في امستردام، حتى ليخيّل ان ثمة حرب فلافل دائرة بين مطاعم مصرية صغرى تؤكد كلها ان لحمها حلال، وبين سلسلة مطاعم "ماعوز" الاسرائيلية للفلافل. والواقع ان جواب الصديقة لم يرض فضولي، فدعتني الى وجبة هولندية: سمك الهارينغ النيء، مملّحاً ومحاطاً بشرحات من البصل. والسمك النيء هذا ليس خفياً او مموهاً كحال مثيله السمك الياباني. طول واحدته قرابة 10 سنتمترات، تمسك بها من طرفها وتقضمها حتى الطرف الآخر. وهذا ما فعلته باستعراضية فرضها عليّ وجود "متفرجين" هولنديين ومنافس بريطاني كان سريعاً في القضم. ومع ان الطعم يشبه السردين، احسست انني، لو لم اخضع لهذا الامتحان، لما امتلكت شجاعة القيام بذلك. وفي النهاية اقتنعت بأن الفضول قد لا يكون دائماً مفيداً لصاحبه