أثناء زيارتي بيروت الشهر الماضي قال لي قريبي، وهو من رجال الأعمال، انه يمارس عمله منذ 30 سنة وله علاقات تجارية في انحاء العالم - فرنسا وروسيا والولايات المتحدة ودول الخليج وهولندا وغيرها. وأضاف: "عرفت كثيرين في انحاء العالم، لكن لم أجد صداقات حقيقية مع زملاء الا في هولندا. نحن متشابهون تماما". وعندما فكّرت في ما قاله أدركت انه محق. فنحن، اللبنانيين، نشارك الهولنديين الكثير من الصفات. فكلا الشعبين يجول البحار للاتصال ببقية العالم، وكلاهما يعمل في التجارة منذ قرون، مستوردا البضائع من هذا الطرف بهدف تصديرها الى طرف ثالث. كما نفاخر، مثل الهولنديين، بتقاليدنا في التسامح والتعايش بين الأديان. هنا ينتهي الشبه وتحضر الفوارق الكبيرة. فنحن متوسطيون وليست لدينا صناعة تُذكر أو تأثير بروتستانتي على معتقداتنا وسلوكنا. ولم تكن لدينا يوما مستعمرات. ونحن، كبلد، أصغر حتى من هولندا. كما ان مواطننا ليس بالفرد ذي الاستقلال الكامل بصفته هذه، وهي حال المواطن الهولندي. مع ذلك فان قريبي وأنا نرتاح لصحبة كثيرين من الهولنديين الذين نلتقيهم في سياق عملنا المهني - وهو ما يثير استغرابي، لأن تعليمي كان فرنسياً. وطالما رددت في المدرسة المقولات عن "أجدادنا الغاليين"، ولا تزال معرفتي بتاريخ فرنسا أوسع بكثير من تاريخ بريطانيا، رغم انني لم اقم في فرنسا أكثر من سنتين، فيما اقيم في بريطانيا منذ أكثر من عشرين سنة. وعرفت خلال المراهقة الكثير عن مونتين وجان جاك روسو وفولتير، لكن لم أسمع باسم غروتيوس ولم أقرأ سطرا واحدا من سبينوزا. ولم تبدأ علاقتي بهولندا الا في نهاية تلك المرحلة عندما قرأت مذكرات آن فرانك، ثم زيارتي أمستردام في أوائل عشريناتي، تلك المدينة الجميلة الحافلة بكل ما هو محرم بالنسبة لخلفيتي. "الخلفية"! انه في نظري تعبير أنيق، أكثر كشفا وجاذبية من "الهوية". ذلك أن الأخيرة لا تفترض شكلا جوهريا صافيا فحسب، بل لا تبرز الى المقدمة كهوس مُلحّ الاّ عند المشاكل، أو في أحيان كثيرة للانذار بها. أما الخلفية فهي تعني قاعدة ما، قد تكون متينة لكنها تبقى "خلفية"، قابلة للاستعادة أو الاغفال، وليست هاجسا لجوجا مثل نحلة جائعة. فبامكانك مغادرة خلفيتك. انها تربة تُزرع فيها عوالم حقيقية ومختلفة، أو يمكن زرعها. خلفيتك ليست بالضرورة جذورك. الجَزرة جذر. لكننا لسنا جَزرا، بل نحن بشر قد نحمل هذه الخلفية أو تلك. مفهوم الهوية أكثر تعقيدا بالنسبة لي. انه تعبير انعكاسي، بمعنى انه لا يتناول ذاته مباشرة بل من خلال المناقضة مع الآخر. وفي أوروبا، ومن ضمنها هولندا كما يبدو، تعود قضية الهوية الآن الى جدول الأعمال. وهو أمر يدعو الى التوقف. وكما لاحظ المؤرخ البريطاني الشرق أوروبي الأصل اريك هوبزباوم فان كلمة "هوية" لم تبرز كموضوع مستقل في "موسوعة العلوم الاجتماعية" لسنة 1968، بل ذُكرت مرة واحدة هناك فقط من خلال ربطها بأريك اريكسون وبمعنى الهوية السيكولوجية. أما الآن فلا أجرؤ حتى على تخيل عدد المرات التي يظهر فيها تعبير الهوية في أي انسكلوبيديا حالية للعلوم الاجتماعية. وقد تلهّيت أمس بالبحث في "بنك الكتب" عن عدد الكتب التي يحتوي عنوانها على كلمة "هوية" فوجدت ان عدد المنشور منها في بريطانيا والولايات المتحدة وحدهما يكاد أن يصل الى خمسة آلاف كتاب، وان السنة الماضية وحدها شهدت نشر 571 كتابا جديدا تحتوي عناوينها على كلمة هوية. وقد استعملتُ الكلمة في عنوان كتاب شاركت في إعداده عن الهوية الذكورية في الشرق الأوسط، بالرغم من محاذرتي الشراك الكثيرة التي ينطوي عليها فكر الهوية اعترف بأن دافع الاستعمال كان الرغبة في ترويج الكتاب، وليس ما يغري القارىء اليوم أكثر من كلمة "هوية"!. وبالعودة الى الهويتين اللبنانية والهولندية: قرأت في صحيفة "لوموند" الفرنسية قبل أسابيع عن استطلاع لرأي الهولنديين في امكان اصدار تذاكر هوية لهم. وكشف الاستطلاع عن ذهول الغالبية الساحقة منهم عندما علموا ان الدول المجاورة تعمل بهذا النظام منذ زمن طويل. أما تبعاً للخلفية التي صدرت عنها، فاعتبرت دوما أن تذكرة الهوية أمر ضروري للبرهنة على مواطنتي أو تابعيتي الاعتباران اللذان أصبحا شيئا واحدا لسوء الحظ. وعندما قضيت سنتين في فرنسا بترخيص للاقامة، حرصت دوما على حمل أوراقي الثبوتية أينما ذهبت، لأن قوات الأمن قد توقفني في الشارع أو محطة المترو لطلب تذكرة الهوية وهي تفعل ذلك في شكل روتيني والأفضل ابرازها فورا اذا لم أرد قضاء الليلة في مركز الشرطة. ويشكل استعمال "الهوية" بمعنى "تذكرة الهوية" مدخلا جيدا لاستكشاف الموضوع الذي جمعنا هنا اليوم. الهوية الوطنية! ترخيص يسمح لنا أن نكون - ماذا؟ مواطنين؟ فلان ابن السيد فلان ابن السيدة فلانة. وفي بلدي، لبنان، عندما أدخل الحداثيون نظام تذاكر الهوية أدرجوا فيها أيضا اسم الجد، وأيضا، وهو جدير بالانتباه: الانتماء الطائفي. أي أن الهوية تحمل في طياتها هويتين أو ثلاث هويات. ولعل هذا هو سبب عدم ثقتي بتعبير "الهوية" بالمفرد، وأيضا سبب سعادتي عندما صرت مواطنة بريطانية وشعرت للمرة الأولى بأنني شخصية مستقلة، ومواطنة لها ان تتجول في مدينتها دون الحاجة الى أن تحمل في حقيبتها أي اثبات لهوية موروثة. والواقع ان تذاكر الهوية في لبنان كانت أيضا قاتلة. فقد كانت الميليشات تقتل الذين تبين تذاكر هويتهم انتماءهم الى المجموعة الدينية التي يعتبرونها معادية. لكن تقرير "لوموند" الذي أشرت اليه يكشف عن الكثير. فالهولنديون الذين أنس اليهم قريبي، بكل انفتاحهم على العالم، قد يبدون انعزاليين احيانا. واسمحوا لي بتعداد التصورات السائدة عن الهولنديين: "قوانينهم هي الأكثر تسامحا في العالم مع المخدرات والجنس و"الموت الرحيم". انهم يدعون الأخلاقية، وهم أيضا بسطاء وروّاد ومغامرون ويركزون على أنفسهم ومبتكرون ومجتمعهم متعدد الثقافات وهم تجار حاذقون لكن بصدق وصراحة - واخيرا وليس آخرا، انهم يمشون بين صفوف لا نهاية لها من أزهار الزنبق، وطبعا تحت واحدة من تلك المطاحن الهوائية الجميلة"! انها صفات أو هويات متباينة، وهي مثل كل الكليشيهات لا تخلو من بعض الحقيقة. لكن ما مدى عمق تلك الحقائق في سياق سريع التغير كهذا؟ الى أي حد يمكنها توصيف مجتمع ضمن أوروبا المتغيرة، في عالم متعولم وحقبة من موجات الهجرة، لكن ليس الى المستعمرات، هذه المرة، بل من تلك المستعمرات نفسها؟ وكان الفيلسوف أشعيا برلين اعتبر المجتمع البريطاني نموذجا للتعدية الثقافية الناجحة، مصرا على أن الشرط اللازم لمحافظة مجتمع ما على صفاته الايجابية، فيما يبقى مسالما، هو وجود منظومة مسيطرة من الثقافة والقيم في قلب المجتمع، مع جاليات وثقافات اخرى مهاجرة افتراضا لها المحافظة على هويتها ما دامت تعترف بأولوية الثقافة المسيطرة. وقد يبدو هذا للوهلة الأولى صحيحا لحد ما. لكنه رأي يقوم على افتراض "جوهر" ثابت، أي ان ثقافة الانكليز البيض تبدو فيه كمّاً موحدا دون تضارب أو تنافس بين مكوّناته. كما انه يقوم على الاعتقاد بأن هذا الجوهر منغلق تماما على ذاته بعيدا عن التأثيرات المحيطة به، وأن الهوية بهذا المعنى ليست تمفصلا متغيرا، وان تقاليدها لا تخضع لاعادة ابتكار مستمرة. إن الحنين واحد من أهم روافد الأدب، لكنه لا يركّب الحاضر ولا يطلب منه ذلك. ويمكن للهولنديين أن يقدموا الى العالم الكثير من العناصر الايجابية والنماذج الاجتماعية الصالحة للاقتداء، وقد فعلوا ذلك على الصعيد الثقافي. وقد أسعدتني رؤية هذا التوجه الرائع عندما عملت مع مؤسسة الأمير كلاوس. ويشكّل توجه الكثير من المنظمات الهولندية التجسيد الأفضل لشكوى هيلا هاسه في "غريب الى الأبد" أو أيريغ عندما كتبت: "... وأيريغ ... لا حاجة بي للاعتراف انني لا أفهمه. انني اعرفه مثلما أعرف تيلاغا هيديونغ - ذلك السطح المشع لبحيرة في فوهة بركان لا أستطيع سبر أعماقها". هل فات الأوان؟ ربما بدا كلامي مفككا بعض الشيء. لكنني أحاول من خلال هذه العناصر والأمثلة المتفرقة تحديد العلاقة بين أوروبا والشرق الأوسط كما أراهما اليوم. ان لنا تاريخا مشتركا طويلا لم يكن دوما سعيدا. وكان هناك زمن اعتبرنا الغربيين فيه "برابرة" واستمرينا على حالنا دون ان ندرك أن أوروبا كانت تتطور وتتركنا خلفها. وسأقتبس هذه الفقرة المعبرة من أمين المعلوف في كتابه "الصليبيون من منظور العرب"، متحدثا عن الوضع بعد هزيمة الصليبيين الذين اعتبر العرب أنهم متأخرون حضاريا: "رفض العرب فتح مجتمعاتهم أمام أفكار من الغرب. وكان هذا على الأرجح النتيجة الأكثر كارثية للعدوان الذي كانوا ضحيته... فقد تعلم الفرنجة العربية، فيما تجاهل سكان البلاد، عدا بعض المسيحيين منهم، لغات الغربيين". والعبرة من القصة، كما يقول لافونتين: لا تعتقد أبدا أنك تعرف أكثر، أو أن ليس هناك ما يمكن ان تتعلمه من الآخرين. لكن لنعد الى الهولنديين وخلفيتي اللبنانية. مساحة لبنان لا تزيد على ثلث مساحة هولندا، لكن هويتنا متعددة ومعقدة: عرب؟ متوسطيون؟ فينيقيون كما يقول البعض؟ نصف غربيين؟ مسلمون؟ نعم، حتى في ذلك البلد الذي لا نستطيع التجول فيه دون تذكرة الهوية هناك في اعماقنا الكثير من الهويات. اننا مثل الكل في عالم اليوم لا نستطيع البقاء جزرا معزولة. وعندما قررنا في تلك البيئة الاقليمية المتغيرة، اثر فشلنا في ادامة مؤسساتنا الديموقراطية والتسامح بين الفئات، الوقوع في هوية انكفائية معينة هوية طائفية في هذه الحال، سقطنا في الفوضى والحرب الأهلية والبربرية. الهولنديون لا يواجهون هذا النوع من الخطر. فهم، بالتعاون مع بيئتهم الاقليمية، حصّنوا أنفسهم ضده إثر أهوال الحرب العالمية الثانية. أكثر من هذا، كان السبب كما عبّر عنه أدريان فان دير شتاي أن "هولندا تبدو بلدا منفتحا ثقافيا ويخلو من الهوية. وقد يكون هذا بدوره هويتهم الأبرز". واعتقد ان فان دير شتاي يقصد ان الهولنديين يخلون من الهويات الانكفائية الانعزالية. وأملي أن هذه الميزة تعني قابلية الهولنديين للاستمرار في التغير ضمن أوروبا متغيرة وعالم متغير، مقدمة لنا وللفنون المزيد من الاندماج والابداع - وأيضا، ولم لا، الكثير الكثير من زهر الزنبق!