قبل فترة أسست مجموعة من السينمائيين والمعنيين بفنون التصوير في بيروت مشروعاً اطلقت عليه اسم "المؤسسة العربية للصورة". والهدف من المشروع هو، كما يقول السينمائي أكرم زعتري، أحد المؤسسين: "جمع أعمال المصورين الذين مارسوا مهنة التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر حتى الستينات من القرن الحالي، بغية الحفاظ على مجموعات الصور ذات الأهمية، والتعريف بها، وجعلها في متناول الباحثين في هذا المجال". وكان من بين المصورين الذين "اكتشفت" المؤسسة أعمالهم فان ليو وهو الاسم المستعار لليفون بويادجيان، الأرمني المصري الذي حقق طوال تاريخه الفني أعمالاً رصدت جزءاً كبيراً من الذاكرة المصرية. وتشكل أعمال بويادجيان فان ليو اليوم جزءاً من المعرض الذي افتتح، أخيراً، في مدينة آرل الفرنسية، ثم انتقل إلى مدينة مرسيليا، وجزءاً من كتاب أصدرته المنشورات الفرنسية "آكت - سود" بعنوان "وجوه مصر: ألبان، ارمان وفان ليو". وفي النص الآتي، يتحدث أكرم زعتري، عن لقائه فان ليو في القاهرة قبل فترة. نجح ليفون بويادجيان في أن يزرع في مخيلتي مشهداً لطفل في السابعة من عمره، طويل الشعر، يجري في حديقة المدرسة ممسكاً ليفة، بينما يطارده بقية الأطفال من دون ان ينجح أحد في الامساك به. لا أعرف مدى دقة هذا الوصف ولا مدى التشويش الذي ناب المشهد منذ حصوله في الزقازيق سنة 1927 الى حين روايته لي اليوم. لكن ليفون روى لي المشهد بكل تفاصيله كأنه مشهد سينمائي كدت أسمع ضوضاء الحركة فيه ولهاث الطفل. كان ذلك قبل سبعين عاماً، لم يعد بعدها ليفون إلى تلك المدينة المصرية الهادئة، بل انتقل للعيش في القاهرة مع أهله سنة 1930، والتحق بمدارسها إلى أن دخل الجامعة الاميركية سنة 1940، وعرف لاحقاً باسم فان ليو، كما عرف بأنه أفضل مصوري القاهرة. ذهبت الى فان ليو اليوم مع كاميرا فيديو، وهو من امضى خمسين عاماً في العمل على تصحيح السالب وجلاء الصور بشكل متقن. فقارن التصوير بمهنة الخياطة، ليس للمجهود الذي يتطلبه كل منهما بل لأن كلتيهما مهنة في سبيلها الى الزوال. ربما استفزه الفيديو الملون لأنه احد اسباب تراجع الطلب على الصورة الفوتوغرافية بالابيض والاسود. قال ان الخياطة تتراجع امام الثياب الجاهزة بكل المقاييس، وأضاف ان ثمة فارقاً يميز التصوير، هو ان البذلة يبطل "طرازها" اما الصورة فلا تبطل. وبالفعل اذا افترضنا انه من وظيفة الصورة ان تدعو المرء إلى النظر، فنحن نجد انها تحتفظ بقدرتها هذه فترة طويلة، هي على الاقل فترة حياة صاحب الصورة. ولإثبات قوله، أشار فان ليو الى صورته وهو في السابعة من عمره في الزقازيق، صورها صديق لوالده اسمه فرجبيديان. يبدو ليفون الصغير في الصورة متنكراً في زي ملاك خلال تمثيل ولادة المسيح، بينما يبدو أخوه متنكراً في زي راع. أشار الى الصورة وقال: "لولا الصورة، لما كنت على يقين من مظهري في هذه السن المبكرة، ولا من هذا الموقف". مفاهيم سينمائية طوّر فان ليو في صوره لاحقاً فكرة التنكر المعروفة في صور بداية القرن وأدخل اليها مفاهيم سينمائية. صوّر اكثر من اربعمائة صورة ذاتية بين 1942 و1946، أي خلال فترة عمله داخل منزل العائلة. اشترى بعد ذلك "استديو مترو" وحوّله الى استديو "فان ليو". يبدو في صوره متنكراً في ادوار مستوحاة من افلام هوليوود. يقول: "كنت اقتني مجلات وصوراً لممثلي هوليوود وأدرس فيها بعض نواحي الاضاءة والديكور والملابس" ويضيف: "الصورة الذاتية مختلفة، بطريقة صنعها، عن الصور الاخرى التي أصوّرها للزبائن. كنت انظر في المرآة وأفعل ما يحلو لي. أضبط الاضاءة وأصور نفسي على سجيتي. بينما لا أملك هذه الحرية مع الزبون. في صوري الذاتية أفعل أشياء غير اعتيادية كالاضاءة مثلاً، او التعابير. على سبيل المثال، لدي صور أبدو فيها أقرع. كنت شاباً ومستعداً لأشياء كثيرة لا أفعلها اليوم. وأردت ان أبرهن ان تغيير ملامح الوجه ممكن عن طريق رسم الاضاءة وتعابير الوجه". يسبغ فان ليو أهمية كبيرة على اتقان المشهد، أي تهيئة المكان، اضاءته، اختيار الزاوية التي تؤخذ منها اللقطة، وصولاً الى درس تعابير الوجه لاقتناص اللحظة المناسبة، كأنه يصور مشهداً سينمائياً. حتى انه استعمل تقنية المشهد المزدوج في الصورة الواحدة. ثم يأتي العمل في المختبر لجلاء الصورة كما يقول "مئة بالمئة". لذا، لا يقبل فان ليو ان يساعده احد حتى ولو كان مصوراً ممتازاً. ويتميز عن غيره في كونه حرفياً بطبعه. يأبى إلا أن يتمم بنفسه مراحل صناعة الصورة كلها، بينما تحوّل غيره من مصوري القاهرة المعروفين في تلك المرحلة خصوصاً أرمان وألبان وأرشاغ، الى مؤسسات يعمل فيها عدد كبير من المساعدين المتخصصين، في الاضاءة، والتكبير، والرتوش. يجلس فان ليو امامي على كرسيه المجاور للنافذة المطلة على شارع فؤاد، في المشغل المخصص للرتوش. ينظر الى محل الملبوسات الجاهزة المقابل، ويقول: "أصبح عنده سيارة كبيرة بيضاء. لو قدّر لي ان اعود بالزمن الى الوراء، لما اخترت التصوير مهنة". يسكت ثم يضيف: "... مع أنني أحب عملي، لكن المصور لا يغتني. إذا كان التاجر ذكياً، أمكنه الوصول الى المال خلال سنتين، لكن أنظر، أمضيت خمسين عاماً في المختبر، ماذا حصدت؟ قيمة ضئيلة جداً. لا شيء". طوال فترة عمله كمصور، لم يسعَ فان ليو الى الكسب المادي ولا الى التقرب من رجال السلطة في مصر. وهو من القلائل الذين لم يسعوا للحصول على لقب "مصور الملك" أو "مصور الرئيس" كما كان الحال، مثلاً، بالنسبة الى رياض شحاتة، او أرشاك، المقرّبين من العائلة المالكة في الثلاثينات والاربعينات. كان هذا الامتياز فخراً للمصوّر يدوّنه على دمغة الاستديو، مثلاً "رياض شحاتة، مصوّر جلالة الملك"، بحيث يستغله للدعاية لنفسه. يفتخر المصورون كذلك بتصوير الفنانين النجوم الذين صوّر فان ليو عدداً كبيراً منهم، امثال فريد الأطرش، داليدا، شادي عبدالسلام، ميرفت أمين وطه حسين. ومع انهم أتوا اليه من دون ان يسعى هو الى تصويرهم، لم يطلق فان ليو على نفسه لقب مصوّر النجوم، مع ان بعضهم يخطئ بتسميته هكذا. تفادى فان ليو التقرب من ذوي السلطة واختار العيش والعمل بعيداً عن الاضواء. وتسمية كهذه تحد من قراءة اعماله وتحصرها في اطار نوع فوتوغرافي معين. يقول فان ليو: "إذا جعلت المال هدفاً لك في مهنة التصوير، يجب ان تنسى الفن. وأنا اخترت الفن. معظم الصور التي عرضتها في المعارض، صوّرتها من دون مقابل، للمزاج". ومزاج المصوّر هو الذي حثه على البحث عن اشكال وأطر جديدة . المتمرد المنضبط عمل فان ليو كمعظم المصورين المحترفين في تلك المرحلة، داخل الاستديو. وبالتالي نجد ان معظم اعماله صوّر بالتكليف، أي انه تم بتكليف من زبائنه. لكن ذلك لم يمنعه من تصويرهم في مشاهد اضافية من اجل "مزاجه" كما يقول، ومن دون أي أجر اضافي. لذا يكرس لكل صورة الوقت اللازم لاتقانها، ويتعامل مع كل زاوية بشكل مستقل عن التعامل مع الاخرى. يعدّل الاضاءة في كل مشهد خلافاً لما كان دارجاً لدى معلمه أرتينيان في "استوديو فينوس". وفي بعض الحالات، يطلب من احد اصدقائه المثول امامه لتجريب مشهد ما يريد تحقيقه. تمرّد فان ليو على السائد في صناعة الصورة الفوتوغرافية في مصر، وهزأ من قيم الطبقة الوسطى في محاولة لإثبات صحة رؤيته للتصوير. يرى ان الشرقيين لا يعرفون الفرق بين صورة الباسبور والصورة الفنية، وهم لا يملكون الشجاعة الكافية لدفع المال قبل الاطلاع على النتيجة. ضمن النظام السائد لدى المصورين المحترفين، لا يدفع الزبون اجرة "اخذ الصورة"، بل اجرة تكبيرها. وبالتالي يكسب المصور فعلياً من الصور المكبرة كأن العناية بالمشهد تحصيل حاصل. يقول فان ليو: "يطلب الزبون في الشرق صوراً من مقاس: 6×9 ويقول: "إذا أعجبتني أكبرها" ويعطيك خمسين قرشاً او جنيهاً واحداً. وعند وفاة احدهم، يهرع اهله مصطحبين صورة صغيرة يطلبون نسخاً عنها لتكبيرها، وغالباً ما تكون مدموغة بأختام شتى. ولكن عندما يأتي زبون، ويضع خمسين او مئة جنيه على الطاولة يعرف انه بين يدي مصور عظيم، يضمن تحفاً". يأسف فان ليو للتغيرات التي حصلت في القاهرة منذ ثورة 1952. كانت البداية في حجز اسهم شركة الترابة والسكك الحديد البلجيكية التي ورثها عن والده، فسعى لدى معارفه الى ان نجح في استرجاع جزء من ثمنها. ثم يتوقف لتعداد هزائم المصريين ضد اسرائيل ويتساءل: "هل شنّ عبدالناصر حربه على اسرائيل، ام علينا جميعاً". لدى مغادرة الجاليات اليونانية والايطالية واليهودية خسر فان ليو عدداً كبيراً من زبائنه، ومع قيام النزعة الاصولية بدأ بحرق صور العري التي صوّرها في الماضي، خوفاً من زمن اقل تسامحاً. ولكن الصور ايضاً تشيخ وتزول مع الوقت. الاسباب كثيرة وأولها ضعف المثبت المستعمل في المختبر. بعض نيغاتيف صور فان ليو تأثر بفعل الحر لأنه لم يكن مصنوعاً اصلاً للبلاد الحارة. ولكن ما جدوى حفظه اذا كان المصريون يحبون اللون: "عندما اكتشفوا الالوان نسوا ان الابيض والاسود هو اساس المهنة. يرون ان الفن في اللون، وهذا خطأ. تسعون في المئة منهم مهتم بالالوان لا بالمصور، ولا بالصورة". مع ذلك لم يترك فان ليو مصر كما فعل اخوه أنجيلو، لأنه فضّل عدم الانفصال عن الاستوديو الذي اسسه واعتاد العمل فيه". يعود فان ليو بالذاكرة الى طفولته في الزقازيق. يتذكر اللغات التي كان يسمعها من حوله: الأرمنية اولاً في البيت، التركية للغناء وتبادل الاحاديث خلال زيارات الاقارب، اليونانية مع محلات البقالة، والانكليزية مع زملاء والده في شركة الترام. يعود بالذاكرة الى الاحاديث التي كان ينقلها الآتون من تركيا عن اخبار المجازر الحاصلة ضد الارمن هناك، ولكنه كان طفلاً ولم تكن تخيفه. يقول "لن ترجع تلك الايام، حتى عندما جئت الى القاهرة، والتحقت بالمدرسة الاميركية، لم اكن املك ولو خمسة قروش، ولكني كنت سعيداً جداً. الآن أملك كل شيء الا السعادة". لم تنصفه مصر كما يرى. ويتمنى لو هاجر الى كندا كما فعل المصور الأرمني الاصل يوسف كارش، لربما ذاع صيته في العالم مثله. ولكن فان ليو لا يعرف انه استطاع ان يفعل ما لم يفعله كارش. اولاً قدّم لمصر وثيقة عن اكثر من نصف قرن من حياتها. وثانياً، اثبت انه في بقعة ما من العالم العربي الغني بتعدديته، توصل المصور الفوتوغرافي الى ان يكون كاتباً ومفكراً وأن تكون له شخصية ولغة فوتوغرافية خاصتان به، هو وحده. تمرّد فان ليو، ولو بانضباط على قيم عدة لإثبات ذلك حتى ولو كان ذلك على حسابه. يروي كيف اضطر الى حرق نيغاتيف لامرأة عندما اراد زوجها الحصول عليه حفاظاً على عرضه. ولمّا كان النيغاتيف من حق الاستديو، كما هو مدوّن في الايصال، فضّل فان ليو حرقه امام عيني الزبون. يستعيد فان ليو امامي تذكار اول تمرد له وهو في السابعة في مدرسته في الزقازيق، يومذاك اشترى له والده صندلاً، وكان هو يريد حذاء. قرر يومها ان يتصنع الذهاب الى المدرسة، فقضى النهار بطوله مختبئاً في ظلام الطابق السفلي الى ان انضم الى الطلاب ساعة الانصراف. ولم يعلم احد بغيابه. يقولها ويضحك