أشياء كثيرة لدى محمد برّادة تجعل منه مثقفاً جوّالاً، لا بمعنى الرحلة في المكان، بل بمعنى التجوال الطليق في حقل الكتابة. بدأ مساره بكتاب عن محمد مندور، الناقد المصري الذي بحث عن "ميزان جديد"، ومارس النقد الأدبي محاوراً "أسئلة الرواية، اسئلة النقد"، وأضاف إليهما ترجمة لامعة ل "الخطاب الروائي" منتهياًَ إلى الرواية في "لعبة النسيان" و"الضوء الهارب". وبعد الترحال في أقاليم مختلفة من ديار الكتابة وصل الى كتابه الأخير "مثل صيف لن يتكرّر" الذي يشدّ القارئ الى سيرة ذاتية وظلال روائية في آن. "مثل صيف لن يتكرّر" رواية عن زمن جميل جاء مراوغاً وانقضى، تاركاً في الروح لوعة متجددة. تفتح السيرة الذاتية - الرواية على الزمن، فهي عن الزمن تكتب، والى الزمن تشكو هروب الكلمات. وبسبب الزمن الماكر والكلمة المراوغة، يبدأ الكتاب حزيناً والكاتب أشد حزناً، لأنه محاصر بأكثر من اغتراب: فمغترب هو عن زمن لن يعود، عن صيف مرّ عابراً واندثر، ومغترب هو عن لغة لا تلبي من أحوال القلب الأسيان إلا القليل... كما لو كانت الكلمات ظلالاً للكلمات، تمس سطح الوجع الراقد ولا تنفذ الى القرار. في روايته "البكاء على الأطلال"، يتحدث غالب هلسا بشجن عن صوت تسلل اليه في الطفولة ورحل، مخلّفاً ÷ي القلب وجعاً وفي الروح غصّة. وعن الشجن الذي تثيره الأطلال التي لا ترحل، يكتب بدوره محمد برّادة، تاركاً عناصر الرواية في الظلال ومرسلاًَ الذاكرة المتمردة في رحلة مطلقة السراح. يبدأ الأديب والناقد المغربي كتابه بالكلمات التالية: "قرأ حماد ما كتبه منذ عشرات السنوات في ورقة بيضاء". وبعد ان يظهر الزمن بسطوته المرعبة، يضيف الكاتب جملة اخرى: "توقف قليلاً ليسرح مع خواطره". ينوس الكتاب بين الزمن المنقضي والخواطر المبعثرة، اي بين ما مات وما يزال حيّاً. وهذه العلاقة المرتجفة بين "الحي" و"الميت" تطلق الذاكرة في طرق مخادعة، كما لو كانت تقصد درباً يهرب منها، او كما لو كانت لا تعثر على الطريق الا اذا هربت من صاحبها. وبسبب الدروب التي تلمحها الذاكرة وتهرب منها، يقف السارد حزيناً بعد أن أضاع اليقين، فلا الذاكرة تطمئن الى الطريق، ولا السارد يرتاح الى ذاكرته الهاربة. بل يبدأ السارد بقليل من الطمأنينة، قبل أن تنقلب عليه الكتابة، فيرضى بمكرها، ويعود الى "خواطره" مخذولاً، موزعاً على الكلمات وأقنعتها وعلى الأشياء وظلالها... وأغلب الظنّ أنه يكتب وقد رحل عنه اليقين. ويأتي الفصل الأول، وعنوانه "عتبة محطة باب الحديد"، ليغوص في قاهرة الخمسينات التي تتمدّد لاهية عن صبي مغربي جاء اليها من "الدار البيضاء يوم 13 تموز يوليو 1955". وبعد ان يحضر المكان، وذاكرته في الانسان الذي عاش فيه، ترتبك الذاكرة وتتسرّب الصور في رمال التذكر والنسيان ومسافة غامضة بينهما. ويأتي العنوان الثاني وقد تلكأ ما استطاع، ليقول "لعلّه حَدَث"، موحياً بإثبات حدثٍ ونكرانه في آن، ومجبراً السارد على تأمل احواله مرة أخرى. ولهذا يبدأ الفصل الثاني بالسطور التالية: "أعاد حماد قراءة ما كتب واستغرق في التأمل. تفاصيل كثيرة اهملها او انها غابت عنه اثناء الكتابة". وفي الواقع، فان السارد، الذي تفلت منه الذاكرة كلما استأنس بها، لم يُغفل شيئاً، بل كتب عمّا التقى به، راضياً بحكمة بيكاسو حين قال: "لا يرسم الفنان ما أراد بل ما عثر عليه وهو يحاول الرسم". وعن الرضا الذي يشوبه الخذلان يصدر عنوان الفصل الثالث "مثل صيف لن يتكرّر" الذي يؤكّد علاقة السارد الملتبسة بالذاكرة. وبعد الرضا الذي يخالطه الخذلان تتتابع العناوين واضحة ومستسلمة معاً: "الجامعة وما جاورها، امتدادات، أم فتحية، عسل الزقازيق…". يكتب برّادة عما ترسّب في قاع الذاكرة، اي عن الأشياء التي التقى بها، وتلك التي توهّم انه عثر عليها في طريقه. يكتب عن اشياء دارسة، تبقى منها شيء كالوشم او اقل. وهذا ما يقصد اليه الكاتب حين يتحدث عن "الذاكرة المضافة" التي تعيد خلق الأشياء وهي تكتب عنها، والتي تومئ، وهي تنكتب، الى الذاكرة الهاربة المتأبية على صاحبها. كل شيء لا ينعقد الا ليتلاشى، وما الحياة الا حلم، وعلى الكلمات المتناثرة ان تستدعي أحلاماً مضت وتعطيها القوام. بل ان الكتابة، وهي تحاور الميت والحي في آن، تلهث وراء "حلم الحلم"، كما كتب بروست ذات مرة . فللبطل أحلامه، وللسارد الذي لم يعد صبياً أحلامه عن تلك الفترة المنقضية، والزمن بين الطرفين مبعثر وممزق، زمن مفقود، على الكتابة ان تعثر عليه من جديد. غير انها وهي تفعل تلتقي بظلاله، بعد ان استقر في مقبرة الأزمنة الاخرى. يكتب برّادة: "ان نستعجل الساعة وان نلاحظ عقاربها، ذلك هو الموت. نحن جميعاً موتى متعجّلون". تأتي الكتابة حافلة بزمن الموت، بتلك الرائحة الصفراء التي تخترق العيون، بذلك الإيقاع الذي لوّع غالب هلسا وجرفه معه. وذاك الزمن السارح بين ماضٍ ثابت ووطيد الأركان وحاضر بالغ الهشاشة، يستدعي فكرة "القرين" التي ينبني عليها كتاب برادة. وما القرين الا الانسان نفسه الذي كانت له احوال معينة في زمن مضى وتحوّل انساناً آخر له احوال مختلفة في لحظة الكتابة. إنسان قديم يسكن الانسان المسكون بالزمن الراحل والزمن المتسرّب، كما لو كان في القرين مقبرة غامضة تعتقل اجزاء من الانسان وتترك اجزاء طليقة. وما الحزن الذي يربك الكتابة وتتنفس الكتابة به الا صدى لهذا القرين، الذي يعلن الانسان كياناً هجيناً، يتعايش فيه الحي والميت في آن، ويتوسل الكتابة أداة لمواجهة الموت، كما قال مرة جمال الغيطاني. الزمن المفقود والزمن المستعاد، المكان الموجود والمكان المشتهى، الذاكرة الهاربة والذاكرة الحاضرة… كل هذه الثنائيات التي تخترق "مثل صيف لن يتكرر"، تجعل الثنائية حاكمة لكتاب برّادة وقاعدة له. ولذلك يعشش الحنين بين سطور الرواية: حنين الى القاهرة التي كانت مليئة بالوعود، وحنين الى زمن الخمسينات حيث يأتي "العدوان الثلاثي" ويظل عبدالناصر واقفاً، وحنين الى مدارج جامعية تتقاطع فيها اصوات طه حسين وسهير القلماوي وشوقي ضيف وغيرهم... وحنين إلى ذاكرة الصبي يتأمل عباس العقاد في منامته الأليفة وتعليقاته الساخرة... وحنين الى ذلك "القرين"، اي الى الصبي الذي كانه الكاتب الذي لم يعد صبياً. كل شيء يولد ويرحل، بل ترحل منه اشياء بالتدريج قبل الزوال الكلّي. ولا يعود داخل اطار اللوحة سوى الفراغ، ويعود الانسان إلى الغبار. وحدها الذاكرة تقاوم العدم، وحده الحنين يحاصره النسيان. ينطوي كتاب برّادة على سيرة ذاتية لانسان اسمه حماد. جاء من الدار البيضاء ودرس في القاهرة وعشقها، فعاد اليها عودة متناوبة، يقرأ فيها ملامح المدينة المتغيرة التي اكتسحها تحول ثقيل، ويقرأ في المدينة التي ما عادت كما كانت، أحواله الذاتية التي حالت وتبدّلت وتغيّرت، كما شاء لها الزمن... كأن برّادة، وقد غمرته اشواقه الى ازمنة متعددة، لا يكتب سيرة الطالب المغربي الا ليكتب فيها سير اخرى: مدينة يخترقها النيل، وزمن سياسي أشعل رغبات فاضلة ترمّدت قبل الأوان، وزمن ثقافي انصت الى ما تبقى من صوت طه حسين، واشعار عامية جميلة كتبها رجل سمين له رائحة العسل يدعى صلاح جاهين... غير ان برّادة، وهو يحاور قرينه ويسائله، يدخل فضاء الرواية من دون ضوضاء وصخب. فهو ينسب السيرة الذاتية الى شخص آخر، ويكتفي بصيغة الغائب. يترك البطولة لل "هو"، أي الشخص الثالث الذي يوكل الحديث عن نفسه الى آخر. وهناك في الرواية عناصر حكائية متعددة تجعل السيرة عامرة بأصوات كثيرة. اضافة الى ذلك النثر الجميل الذي يضع الكتابة في مواجهة النسيان، والكلمات في مواجهة الموت. "مثل صيف لن يتكرّر" نص دافئ وجميل وحزين، يساوي جماله اللغوي جمال البشر الذين يكتب عنهم. كتاب يحاور هشاشة الانسان بكثافة اللغة، ويحاور اللغة المحدودة بعواطف الانسان. كتاب جمع فيه برّادة شخصياته المختلفة. فالناقد يقرأ الروايات والروائيين، والروائي يمزج روايته بسيرة الذات المؤرقة بالزمن. وها هي الذات الكاتبة تحاور العلاقات جميعاً