كيف نقرأ اليوم، وبعد أربعين عاماً، هزيمة حزيران يونيو؟ وهل هي هزيمة محدّدة الزمان 5 حزيران 1967 أم أنّها هزيمة غريبة، تنتقل من يوم إلى آخر ومن عقد إلى سنة تالية، وهل هي هزيمة جيوش، بدت عالية الصوت كثيرة الوعود ذات مرّة، أمّ أنّها هزيمة أمّة؟ ربما تكون الرواية العربية، التي تقرأ سيولة الزمن في وجوه البشر وأرواحهم، هي المجال الأكثر ملاءمة لمقاربة هذه الأسئلة، ذلك أنّ المؤرّخين، إن وجدوا، يكتفون بمتابعة وقائع"ستة أيام"من دون أن يستطيعوا، في معظم الأحوال، أن يقولوا ما يجب قوله. على خلاف المؤرخ، الذي يثبّت الواقعة في زمن ضيّق محدود، ترى البصيرة الروائية، التي تشتق المستقبل من الحاضر، الهزيمة المقبلة قبل وقوعها، ذلك أنّها تضع جانباً عدد الدبابات والطائرات وتلاوين الألقاب العسكرية الباهظة، وتذهب مباشرة إلى الوضع الإنساني، الذي يسبق القرارات العسكرية. ولعلّ البدء من الإنسان العادي، الذي أُفقه من طبيعة معيشه اليومي، هو الذي منع عن الرواية العربية دهشة الهزيمة التاريخية المقبلة، لأنّها أدركت مسبقاً أنّ السجناء لا يحاربون وأنّ العقل البلاغي الموروث ينتصر في الكلام وينهزم أمام العدو. ولهذا تأمّل غسان كنفاني في"رجال في الشمس"، التي سبقت الهزيمة بست سنوات، أبطاله الفلسطينيين ورمى بهم إلى المزبلة، معلناً أنّ الفلسطينيين من العرب وأن العرب من الفلسطينيين، وأنّ الطرفين يخلطان بين الأوهام والأحلام. وفي العام ذاته، أبصر حليم بركات في روايته"ستة أيام"الهزيمة المنتظرة لبلدة مغتبطة مطمئنة، تستولد النصر من الرغبة والعدو من البلاغة التقليدية، إلى أن يأتي العدو ويحوّل البلدة المأفونة إلى رماد. من الغريب أنّ عمل كنفاني كما رواية عالم الاجتماع بركات الذي يختبر المجتمع قبل أن يكتب عنه، قد صدرا في فترة تاريخية عربية واعدة، محتشدة بالشعارات القومية وحديث التحرّر واليقظة 1961. كان صنع الله ابراهيم في"تلك الرائحة"قد أشار إلى أطياف الهزيمة المقبلة مرتين: مرة أولى وهو يرسم"امبراطورية المخابرات"، التي تسكن داخل الإنسان وخارجه، ومرة ثانية وهو يشير إلى الجنود المصريين العائدين من اليمن 1964، الذين تنظر إليهم"الأرواح المقيّدة"بلا مبالاة كاملة. أمّا نجيب محفوظ، الذي لا يميل إلى تعابير النصر والهزيمة، فقد أبصر الهزيمة في روايته"ثرثرة فوق النيل"حيث"جيل القدر"بلغة السوري مطاع صفدي مشغول بالحشيش وتزوير الوقائع، تاركاً للطوفان حريّة الوصول حين يريد. رأت الروايات السابقة الهزيمة، مرتكنة إلى"المعرفة الأدبية"، المنقطعة عن خطاب سعيد يمجّد السلطان ولا يعترف بالواقع. وما إنّ جاءت الهزيمة، التي وصلت قبل وصولها، حتّى تأملها الروائيون بمنطق روائي، يسجل الواقع المهزوم ويستنكره بأدوات روائية، ترفض الأشكال الأدبية السلطوية وتفتّش عن أشكال جديدة. أعطى إميل حبيبي"سداسية الأيام الستة"واصفاً الحدث المأسوي في ست لوحات مستقلة، ظاهرياً، يوحدها الإيقاع واللغة وصوت الراوي الساخر، الذي يصيّر السخرية المريرة إلى نقد حارق مرير. سخر الروائي من مآل فلسطين، التي"وحّدها"الاحتلال لا الجيوش العربية، معيّناً ذاته صوتاً حرّاً طليقاً، على مبعدة من"الصوت الجماعي"، الذي هو صوت واحد سلطوي، ومن لغة الخشب التي تصف الأشياء قبل أن تعرفها. ولعلّ هذا التجديد الروائي، الذي يبدأ من الذات الحرّة لا من عادات الكتابة، هو ما حمله على استئناف موضوع الهزيمة في"الوقائع الغريبة لأبي سعيد النحس المتشائل"، حيث على المهزوم أن يقر بهزيمته، كي يكون قادراً على استئناف المعركة. تجلّى جديد إميل حبيبي في أمرين: تأكيد الصوت المفرد الحر في مواجهة الأصوات المتماثلة، وتأكيد الشكل الروائي مرآة لوقائع الحياة، التي ترفض الأحادية والتماثل والتكلّس. وبسبب ذلك أعطى الروائي خطاباً معلّقاً في الهواء، ينفتح على الاحتمال وينفر من اليقين، بعيداً من رواية غسان كنفاني"أم سعد"، التي ردّت على الهزيمة بيقين النصر، منتهية إلى رواية تقليدية، على رغم خطابها الثوري الظاهري . سجّل حليم بركات، وقد تحققت رؤيته ملامح هزيمة حزيران في روايته"عودة الطائر إلى البحر"، مجتهداً كعادته في أمرين: الاعتراف بعلم الاجتماع مقدّمة ضرورية لقراءة شروط المهزومين، الذين يمنعهم وعيهم التقليدي من إدراك سببية الهزيمة، واللجوء إلى الرمز والأسطورة واللغة الشعرية لتوسيع المعنى وإخصاب مجال التأويل. ولهذا يلجأ إلى"أسطورة الهولندي الطائر"، الذي يحمل لعنة مكينة في انتظار لحظة الصفح والغفران. توفيق يوسف عوّاد، اللبناني الذي كان رائداً في رواية"الرغيف"1936 تأمّل بدوره آثار هزيمة حزيران في المجتمع اللبناني، في رواية"توقّعت الحرب الأهلية"، عنوانها"طواحين بيروت". عالج الروائي مشاكل عدة، تحدّد تماسك المجتمع وتقوّضه، مثل الطائفية والفرق بين المدينة والريف وأزمة التعليم والهوّة الواسعة بين الفكر والممارسة، ملتمساً أدوات فنيّة متعددة، مثل الرسائل والوثائق وعنصر التداعي ولغة متعددة المستويات... انتهى عواد إلى نص مركّب يوحي ولا يؤكد، قارئاً آثار حزيران في المجتمع اللبناني وحال المجتمع العربي في مجتمع محلي مملوء بالعطب. وعلى خلاف عواد، الذي خلق مشهداً روائياً متعدّد المراجع، كثّف عبدالرحمن منيف، في"حين تركنا الجسر"، منظوره في شخص مفرد مغترب، يعرف الهزيمة وأسبابها، ويدرك عجزه عن تغيير ما يجب تغييره. أنتج الروائي المعنى من دلالة المكان والزمان، حيث المكان موحل والزمن شتائي زمهريري، والمغترب يدور مع خيبته في مونولوغ شاسع، معبّراً عن"المفرد المقوّض الذي هجره الله"، بلغة جورج لوكاتش الشاب. وإذا كان إميل حبيبي قد جعل من الشكل الساخر شرحاً للواقع وتعليقاً عليه، فاتحاً للرواية العربية أفقاً جديداً، فقد طبّق منيف تقنية المونولوغ الداخلي في شكل فني خصيب غير مسبوق. الفرد المغترب هو الباحث عن الحقيقة في مجتمع يقيني يساوي بين الجماعة والحقيقة. لا غرابة أن تأتي رواية حزيران بالمفرد، الذي لا يأتلف مع الجماعة المهزومة التي تجهل أنّها هزمت، وبالمفرد المغترب الذي يبحث عن شيء مرغوب لن يعثر عليه. في هذه الحدود كتب السوري حيدر حيدر روايته"الزمن الموحش"التي وضع فيها"ملحقاً"عن هزيمة حزيران، متوسّلاً"نثراً شعرياً"يفتتح بقصيدة متشائمة عنوانها"مراسيم دفن". أراد الروائي باللغة التي اختارها أن يوسع أصداء الهزيمة، موزّعاً غضبه الشديد على شخصيات ممزّقة حائرة، تمارس الرفض الذاتي كما تريد، ويسوقها الواقع المهزوم إلى حيث يريد. بينما أنتج غالب هلسا، في روايته"البكاء على الأطلال"، مغترباً أقرب إلى الصمت، يرى ما يريد أن يرى ويترك لحزنه الداخلي قولاً لا تترجمه الكلمات. كان في مغترب هلسا التعبير الأكثر تكاملاً عن انسحاق الإنسان في واقع قوامه تفاصيل صغيرة، تختزل الإنسان، الرهيب في اغترابه، إلى تفصيل صغير. ربما كانت التفاصيل اليومية الباهتة، التي تختلس من المغترب رغبة الحياة، هي التي تقيم صلة بين رواية هلسا وروايات أخرى حدثت عن مثقف مهزوم قاده اغترابه اليومي إلى الموت. سيصبح هذا المغترب المهزوم، لاحقاً، ضيفاً دائماً لدى الرواية العربية، تستضيفه رضوى عاشور في"أطياف"، ويعطيه بهاء طاهر براحاً شاسعاً محمّلاً بالأسى في روايته"الحب في المنفى"، ويحوّل محمد البساطي إلى أمثولة كاوية في"أصوات الليل". ربما تكون الرواية هي الجنس الكتابي العربي الوحيد الذي أدرك الأبعاد الحقيقية لهزيمة حزيران، التي أخرجت المجتمع العربي من القرن العشرين وقذفت به، مسبقاً، إلى خارج القرن الواحد والعشرين. وبسبب هذا كان لها حضورها الطاغي المتناتج، في شكل مباشر أو غير مباشر، في الإنتاج الروائي الواسع، الذي تلا الهزيمة . فهي حاضرة في رواية محمود الورداني، الذي يعطف هزيمة حزيران على هزيمة أحمد عرابي، في نهاية القرن التاسع عشر، ويسوق الهزيمتين ذاهباً إلى زمن مهزوم بعيد. وهي ماثلة في رواية يوسف القعيد"أخبار عزبة المنسي"، وفي أعماله الأخرى مثل"الحرب في بر مصر"و"يحدث في مصر الآن". ولها موقع واسع في ذاكرة الفلسطينيين كما جاءت في عمل متعدد الطبقات لإبراهيم نصر الله عنوانه"طيور الحذر"استكمله في رواية"زيتون الشوارع"... وفي الحالات كلها كانت الهزيمة موضوعاً لكل الروائيين العرب: الأردني تيسير سبول في عمل عنوانه"أنت منذ اليوم"، آثر صاحبه لاحقاً الانتحار، والأردني الآخر إلياس فركوح، الذي يمزج بين الهزيمة والسيرة الذاتية، منذ روايته الأولى"قامات الزبد"إلى روايته الأخيرة"أرض اليمبوس"، والكويتي إسماعيل فهد إسماعيل، الذي أفرد لها مجموعة من الروايات أكثرها تميّزاً"المستنقعات المضيئة"، والسوري نبيل سليمان في عمل مزيج من المتخيّل والتوثيق عنوانه"جرماتي"، والسوري الآخر المقيم في باريس خليل النعيمي في رواية"مديح الهرب"، والعراقي عبدالرحمن الربيعي في روايته"الوشم". ومن المغرب خناثة بنونة"في النار والاختيار"وكذلك محمد برّادة في عمله الجميل:"مثل صيف لن يتكرر". انطوت كل هذه الأعمال على عنصرين: إحساس الروائيين العرب بالكارثة التي ضربت الأمّة العربية، والتزامهم"قومية الرواية العربية"، إن صح القول، التي تؤكّد الأدب عنصراً أساسياً مسيطراً في الوعي القومي، بعد أن سلكت السلطات الحاكمة دروباً مختلفة، وحولت القومية إلى إيديولوجيا فارغة متعددة الاستعمالات. إذا كان الكثير من الروايات قد تأمل الهزيمة في زمنها الضيّق المجزوء، فقد أراد بعض الروائيين أن يتأمل الهزيمة النموذجية في شروطها النموذجية، كما لو كان يدرس مفهوم الهزيمة، من حيث هو، ويقوم بتطبيقه على حالة معيّنة. تجلّى هذا السعي في عمل جمال الغيطاني"الزيني بركات"، الذي قرأ هزيمة حزيران في زمن ماضٍ مهزوم، وقرأ في الزمنين كل الأزمنة المهزومة. وهو أيضاً ما حاولته رضوى عاشور في رواية"غرناطة"، حيث الحاضر يحاور الماضي والفرد المغترب يحاور ما بينهما. شيء قريب من مسرحية سعد الله ونوس"منمنمات تاريخية"، التي ساءلت الإنسان المتداعي الذي ينجز هزيمته الذاتية قبل الذهاب إلى المعركة. لم تكن قراءة هزيمة حزيران إلاّ تأمّل ما أفضى إليها، بدءاً من استبداد مكين كتب عنه صنع الله إبراهيم في"نجمة أغسطس"وإلياس خوري في"يالو"وصولاً إلى غبطة الوعي المتخلّف، كما وصفه عبدالحكيم قاسم في عمله"المهدي"، وكما رصده بهاء طاهر، بكثير من الصبر والجهد والمثابرة في"واحة الغروب". الرواية ذاكرة أخرى، ترسم الواقع وتأوّله وترفضه، وترفض فيه الوعي الزائف المسيطر، الذي لا يحافظ على الذاكرة إلاّ إذا بدّدها. والمبدّد الأكيد هو العقل الحر، الذي ترهقه سلطة العادات ورقابة المجتمع وتقوّضه، إن أراد الصمود، أجهزة الدولة التي تكتسح الفضاء الاجتماعي كله. في عالم عربي يمسح النهي الاجتماعي القاطع فيه ما يريد، وتأتي الرقابة السلطوية على مسح ما تبقّى، يظل للرواية شرف التذكير بالوقائع التي تستجلب الهزائم وتكاثرها، أي تظل الرواية فعلاً إبداعياً مقاوماً ومغترباً، يعترف بإنسان محدّد الصفات، له الحق في الحياة.