سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أخلص لذاته على الدوام وأعاد الاعتبار إلى الشكل في المعادلة الابداعية . قاسم حداد : الأدب ليس خادماً عند الجماهير وأطالب بحقي في اعلان اليأس من هذا العالم
يقف قاسم حداد على حدة بين رفاق جيله، على خريطة الشعر الخليجي والعربي، ولعلّ صوته هو بين الأكثر جسارةً وقدرة على الادهاش، منذ صدور مجموعته الأولى "البشارة" مطلع السبعينات. وبعد ربع قرن من التجريب والابحار عكس التيار، والابداع عند الحدود الفاصلة بين الأنواع التعبيريّة، دائماً على حافة الجرح الراعف، يؤكّد صاحب "الجواشن" أن "الشاعر قادر على اختزال العالم في النص". وها هو الشاعر البحريني الذي خاض تجربة سياسيّة صاخبة، يرفع الذاتيّة لواء في الأدب، ويذكّر أن "أهمية التعبير الفني والأدبي تكمن في خصوصية شكل التعبير وليس مضمونه أو موضوعه". فعلى النصّ، في المصاف الأخير، أن "يليق بالحبيبة"، وعلى المبدع أن يذوق لذة الترنح "من دون ان تقع الريشة عن رأسه". وفي هذا الحديث عشيّة صدور ديوانيه الجديدين "علاج المسافة" و"الأزرق المستحيل"، يؤكّد قاسم حدّاد: "لا يد تستطيع ايقاف المبدع الذي يريد ان يبتدع حريته". شارك قاسم حداد أخيراً في الاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد الشاعر الأردني مصطفى وهبي التل الملقب ب "عرار" إلى جانب عدد من الشعراء العرب والأردنيين، والقى عدداً من قصائده في المناسبة. والشاعر البحريني الذي يعتبر صاحب تجربة متميزة في قصيدة النثر العربية، شغوف بتطعيم تجربته بالتشكيل حيناً وبالموسيقى والغناء حيناً آخر. وهو في كل الأحوال، يبقى مخلصاً لنصه الذي ما أنفك يطالبه بأن يكون جميلاً وجديراً بالحبيبة. "الوسط" التقت صاحب "يمشي مخفوراً بالوعول" في عمان وأجرت معه الحديث الآتي: منذ كتابك الأول "البشارة" كان هناك سعي حثيث للتعبير الجماعي عن حساسية التجربة الانسانية. أنت منذ البدايات مدرك لحدود الكتابة. من أين انبثق لديك هذا الوعي؟ - لا أحد يستطيع الزعم أنه كان مدركاً للأشياء منذ اللحظة الأولى، يتعلم الانسان بفعل الحياة والكتابة. "التعبير الجماعي" لا يأتي بقرار ولا يذهب بقرار، إذا سمحت لي ببعض التعديل في مصطلح "التعبير الجماعي" سأعتبر انك تعني التعبير عن الروح الجماعية، لئلا يختلط قولك بالدلالة الفنية لمصطلح التعبير الجماعي. أميل الى الاعتقاد بأن ثمة حساسية مبكرة فرضتها على تجربتي طبيعة الدور الحياتي الذي انهمكت به منذ بداياتي، خصوصاً علاقتي بالعمل النضالي المباشر الذي كان متطلباً بالنسبة لشخص وضعته الظروف في مهمات قيادية تكاد تكون أكثر تطلباً من استعداداته الذاتية. أضف الى ذلك أنني كنت متورطاً في الولع بالكتابة بصورة تجعلني أضعها في مقدمة اهتماماتي الحياتية، وغالباً قبل مشاغلي السياسية. فرادة التجربة الابداعيّة وجدت نفسك في حالة تمزّق؟ - أكثر من ذلك. إذا تذكّرت طبيعة التربية الفكرية التي تنبع عن مفهوم الالتزام في التنظيرات الحزبية اليسارية، والنظرة السائدة إلى وظائفية الأدب والخضوع للجماهير في هذا السياق، يمكن أن تتصوّر كيف وجدت نفسي في مواجهة النقائض كلها دفعة واحدة: أضغط على نفسي لكي أكون مخلصاً لدوري النضالي على حساب طبيعتي الأدبية، وكان الشعر وقتذاك قد استحوذ على كياني. هكذا رحت أشعر بخطر تدمير الشاعر في أعماقي، فتأسست لدي حساسية العلاقة الملتبسة بيني وبين التنظيم الذي أساهم في قيادته. ولكن الصراع كان أكثر اتساعاً، إذ وجدت نفسي في مواجهة سياق فكري حديدي لا يرى في الأدب أكثر من اداة. وهذا التابع عليه ان يتلقى التوجيهات ليس من الحزب فحسب، بل أن يكون خادماً وأعني الكلمة حرفياً للجماهير. من هناك بدأت أضع الحدود الواضحة بين الشاعر في القصيدة وبين الانسان في النضال السياسي. وأخذت الهوّة تتسع بيني وبين المنطق الحزبي، وكلّما ازدادت اتساعاً كنت أشعر بالاطمئنان لسلامة موقفي. وجاءت الأحداث والتحولات لتؤكّد صحّة احساسي بفرادة التجربة الابداعيّة، وخروجها عن كل الأطر الايديولوجيّة. وها هم المناضلون القدماء يتحوّلون عن قناعاتهم القديمة، بل ان هناك بين الذين حاربوا مواقفي من استقلالية الأدب بشدّة آنذاك، من بات الآن يبالغ في الدفاع عن تلك المواقف بحماسة ملتبسة. من ذلك الدرس اعتقد بأن على المرء أن يتعلم الاخلاص لذاته بالدرجة الأولى وأن يدافع عن حريّة التعبير عن تلك الذات، وباقي الأشياء تأتي تلقائياً وبغير افتعال أو أوهام. فالانسان لا يعيش وحده في هذا الكون... والشاعر تحديداً، بوصفه صاحب تجربة في الحياة، سيكون قادراً على اختزال العالم في النص. منذ البدايات أيضاً يسكنك هاجس التعبير والشكل الفنّي. كأنّك تدرك ان "المعاني مطروحة في الطريق"، وأن الفنان الحقيقي هو من يحسن التعبير عنها عبر التقاط الجوهري فيها... - أهمية التعبير الفني والأدبي تكمن في خصوصية شكل التعبير لا مضمونه أو موضوعه. ويخيّل إليك أن قطاعاً شاسعاً من المثقفين العرب احتاج لقدر كبير من التضحيات، بالوقت والطاقات والمواهب الحقيقية أحياناً، قبل مجرّد الاكتراث بهذه الحقيقة. وبعد اكتشاف هذه الحقيقة الجوهرية، سيكون عليهم تعويض الخسائز الفادحة التي سببتها النظرة القاصرة والدونية إلى موقع الشكل من النص، أو من المعادلة الابداعيّة... شخصياً استحوذت عليّ شهوة الشكل مبكراً. ومنذ كتابي الثاني اكتشفت سرّ اللذة التي تمنحها لحظة الكتابة، التي هي لحظة حريّة أساساً. كلّ مرّة يستسلم الكاتب لمخيلته، ويرتمي في أحضان مغامرة جماليّة ووجوديّة وروحيّة غير مضمونة العواقب. لقد تعلمت درساً لا أزال مخلصاً له، وهو أن أكتب النص كما لو أنني اكتشف الحب للمرّة الأولى. وهذا يستدعي أن أكون بكراً مثل النص، وحرّاً مثل الكتابة. فلا بدّ من أن نكون، النصّ وأنا، جديرين بالحبيبة. بهذا المعنى، كيف يمكننا أن نكتب نصاً لا يقترح شكلاً جديداً وجميلاً للحياة؟ والشاعر، بهذا المعنى، أجمل الكائنات، وكذلك يتوجب أن يكون نصه الجديد. خضت تجربة سياسية صاخبة حملت لك الكثير من الألم، ما البصمات التي تركتها على مسيرتك الابداعية؟ هل كان لنصّك أن يتفجّر بمنأى عنها؟ - لا أكاد أجزم بقدرتي على تمييز التخوم بين تجربتي السياسية وتجربتي الابداعية. ان الحياة تنهض من كل هذه المكونات. أكثر من هذا، لدي ميل عميق الى اعتبار مراحل تجربتي السياسية والحياتية الأكثر وجعاً ومعاناة، أهم وأجمل مراحل حياتي على الاطلاق... بل انها المرحلة التي "جوهرت" نظرتي وأحاسيسي وأدواتي، وأعادت صياغة كياني الانساني بصورة أكثر عمقاً. ولولا اجتيازي تلك المرحلة الكثيفة من العذاب والعذوبة، لما بلغت ربّما حالة النضج الروحي والفكري التي أعتقد أنني بلغتها اليوم. لست إلا واحداً بين آلاف عاشوا تلك التجربة، وسيكون على كل شخص أن يبتكر طريقته الخاصة في الصعود مع النيازك الباهرة، بحثاً عن الأسرار الجميلة التي تعطي للحياة مذاقها ومعناها. وحبذا لو كان بامكاني استعارة أجساد أخرى لتحقيق ما تبقى لي من أحلام تستعصي على الوصف. حوار بين روحين شريدتين في "الجواشن" انصهرت تجربتان مختلفتان : أنت في الشعر وأمين صالح في القصة. وكانت التجربة لافتة ومثيرة. هل من اليسر أن تتآخى اشكال الكتابة الى حد التماهي؟ - لسنا، أمين وأنا، صديقين طارئين، وليست علاقتنا عابرة. لقد عشنا معاً أجمل التجارب، في الحياة والكتابة. منذ لحظة الجنون، شعرنا أن قانون الحرية هو الذي يضيئ لنا الطريق. لقد قام بيننا حوار عميق بين روحين شريدتين قادرتين على الانعتاق من كل أشكال السلطات. ولم نتوقف عند التخوم المتعارف عليها في حقلي الشعر والقصة، وهذا ما جعلنا نشعر، في لحظة فالتة، بأن ثمة طريقاً تغرينا لأن ندخل التجربة المفتوحة، ومن دون أي تردد وجدنا النص يتقدم بنا في ما يشبه البهجة العامرة : شخص قادم من تفلت القصيدة على شكلها، وشخص قادم من تألق لغة السرد في شعرية طاغية. كلانا كان قد أفلت لتوّه من تجربة العسف العام والمعاناة الذاتية. لم نكن نخرج من الحياة لندخل الكتابة، بل كنا نصوغ ما نحلم به وما تقترحه علينا المخيلة في سبيل التحصن ضد سلطات الواقع، ومحاولة استعادة حقّنا المصادر في اعلان اليأس من هذا العالم، على طريقتنا. تجربة "الجواشن" أكثر من تآخي بين شكلين من اشكال الكتابة. إنّها صرخة بصوتين للتأكيد أنّه لا يد تستطيع ايقاف المبدع الذي يريد ان يبتدع حريته. وتلك التجربة لم تزل تغري بمزيد من الايغال، في اتجاه الأفق الذي أشارت إليه، فنحن لا نزال نحدق في ذلك الأفق بشغف العاشق الذي يخشى أن يفلت منه طيف الحبيب. نصّ أكثر جسارة هل يمكن اعتبار خروجك على التفعيلة منذ "قلب الحب" و"شظايا" وسواهما، جزءاً من قلق البحث عن آفاق مختلفة للتعبير؟ - أظن ان ذلك الخروج كان نتيجة لتجارب مختلفة من البحث التعبيري. لم يكن هناك قرار مسبق، كل ما في الأمر أنني اتبع مشاعري لحظة الكتابة. العواطف أكثر صدقاً من العقل. عندما يتعلق الأمر بالتعبير. وبالنسبة إلي، لا تنفي الأشكال بعضها البعض، بل تربطها علاقة تكامل. هناك ضرب من تبادل الأنخاب، واختبار قدرة القوارير على منح الشخص لذة الترنح من دون ان تقع الريشة من على رأسه. لم أعد أقف اليوم عند حدود مصطلحات مثل التفعيلة والشعر والنثر، فكل ما عرفناه من تجارب خلال العقود الماضية، كان كفيلاً بجعل النص أكثر جسارة، وأكثر قدرة على الذهاب إلى الحفل بما يحلو له من القمصان، وبعنق أكثر حرية من الريح. اما القلق فهو كيفيّة قيام الآخرين بتصنيفك. كتبت من خارج الأوزان الشعريّة، لكنّ نصّك لم يقطع مع الموسيقى. هل استعضت عن القالب الخارجي بإيقاع داخلي؟ وإلى أي مدى أنت راض عن مسعاك ؟ - أجدني مضطرّاً إلى الاعتراف بأنني لا أكاد أشعر بالحياة، وأتمتّع بأبسط تفاصيلها، من دون ان يكون ميزاني في ذلك الموسيقى. لدي احساس بأن ثمة موسيقى تحكم الكون. وكلما تسنى لنا اكتشاف أسرار هذا القانون، صارت متعتنا في الحياة أكثر قدرة على التجسّد. كأننا نعوم في فضاء شاسع ورحب من الموسيقى، وعلى كل شخص في مجاله ان يتعرف إلى قانونه الخاص، ويصوغ وجوده كمشروع ابداعي. وعلى الشاعر، تحديداً، أن يكون أكثر رهافة من الآخرين، وأكثر قدرة على تلمّس الايقاع، والتقاط جوهر الكائنات والكلمات والأشياء. لكن الموسيقى في الكتابة، هي أكثر رحابة من البحور والأوزان، وهي ذات جموح يجعلها تتمرّد على الحدود المقننة في شتى العصور. أنت محاط منذ الطفولة بتجليات الايقاع، من الطقوس الحسينية الى العمل في الحدادة والبناء وصناعة السفن وسواها... - إن اكتشاف سر الموسيقى في حياتنا، كما ذكرت قبل قليل، من شأنه ان يغني السلوك الانساني في شتى حقول الحياة. وفي اعتقادي أن الشخص الذي يتميز بالحساسية الموسيقية بوصفها شاحذة للطبيعة البشرية، هو حكماً على اتصال بالجمال الروحي، وقد يكون أقدر من غيره على تحويل علاقته بأشياء الحياة والكون إلى مرتبة من الشفافية والرقي والشعرية. طفولتي كانت غنية بكل ما يدور حول النغم والايقاع، ولعلّ هذا ما يفسّر لديّ النزوع الحر إلى موسقة كل ما تمسه الكتابة. وإذا كنت أفشل احياناً في التعبير عن ذلك في النص، فربما حاولت تعويض ذلك في الحياة، حيث تتلاشى المسافة بين الشخص والنص. الخروج على الفراهيدي هل هذا ما كنت تقصده حين قلت يوماً إنّك خرجت على درس الخليل بن أحمد، لكي تكون "مخلصاً لدرس الشعر"؟ - الخليل بن احمد لم يخلق موسيقى الشعر العربي، انه وضع لها القوانين فحسب. لم يكن إمرؤ القيس وطرفة بن العبد وسواهما يدركون ما يفعلون، على المستوى التقني. الخليل بن احمد انسان مثلنا، لا أعرف ماذا يلزمنا بتقديس قوانينه. ويقال انه أمسك مفكرة أوزان الشعر في سوق الصفارين أو الحدادين، وبعضهم زعم انه كان يعمل هناك. وإذا جاز لنا المشاكسة، نسأل: ألا يحق لأي شاعر، في أي زمان أو مكان, أن يقترح ما يبدعه من أشكال وقوالب، بمعزل عن مفهوم الشعر ومصطلحاته المستقرة؟ كل شاعر يفرز قانوناً خاصاً بلغته ونصّه وحساسيته وتجربته، ويعيش زخم الايقاعات على طريقته، حين يعبّر عن رؤيته الفنية. والشاعر، إذ يقترح خروجاً جديداً على الايقاع، يفعل ذلك اخلاصاً للشعر، من دون أن يعني ذلك التقليل من انجازات الفراهيدي. تقاطعت تجربتك الشعرية مع تجارب تعبيرية في الرسم والموسيقى والغناء والمسرح. ما الذي دفعك إلى تلك المغامرة؟ - أحسب ان في مثل هذه التجارب ذهاباً مضاعفاً نحو تجاوز التخوم القائمة بين مختلف أشكال التعبير. ومن جهة أخرى تشكّل تلك التجارب امتحاناً لخبرتنا على تحقيق الحوار الابداعي بين مختلف الأدوات والآليات والرؤى التعبيريّة. أظن انني مولع بهذه المغامرات، وأشعر بمتعة وشغف في الاصغاء إلى المبدعين الآخرين وهم يتقاطعون عند لحظة معيّنة في نزوعهم إلى اكتشاف اشكال جديدة تنشأ من التقاء التجارب. حين حضت تلك المحاولات لم أكن أقصد أن أثبت شيئاً، أو أبرهن على شيء، كنت فقط اكتشف الأشياء التي تحدث معي ومع الآخرين. شظايا الكائن تتناثر في شعرك، وكأنّنا بك لا تحاول لملمتها .هل دأب القصيدة أن ترصد الخراب؟ هل هذه وظيفة الشاعر؟ - ليس ثمة وظيفة أقوم بها لحظة الكتابة، لقد برأت من هذا الوهم باكراً. ولا انصح أحداً بالتورط في مثل هذه الوظائفية. كل ما في الأمر أنني أعشق رؤىة ما لا تراه المرايا. كما لو أنني أحلم بالجلوس في المستقبل والنظر الى الحاضر وهو يتحول ويتبلور، بحيث نكاد لا نتميّز الجسد من انعكاساته وتحولاته. كأنني العرّاف الاغريقي الأعمى يرى خراباً وشيكاً، لا بدّ من وصفه بفضيحة تليق به، لكن ذلك سيكلّفه ثمناً باهظاً! قصيدة النثر التي تكتبها، يرى بعض النقاد انها مستقبل الشعر العربي... - هل يقولون هذا حقاً؟ بعضهم فقط! - أنا لا أقول هذا. في مثل هذا القول نوع من المصادرة على صيرورة الأشياء، ونوع من الخضوع لمفهوم الموضة أو المبتكرات الاستهلاكية العابرة للقارات. إن أفق الشعر هو ما يغري الشاعر، وليس ما تقتضيه الموضة! ثمة من يريد بيعنا أي شيء، في هذه السوق الوحشية التي تسودها شريعة الغاب. فهل يعيش الشاعر تحت ضغط الشهوة الاستهلاكيّة؟ في "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة"، كتبت أن "الذين يبيعوننا الشعر بالوزن، يبيعوننا للهواء". وكنت حينذاك بالكاد أتجاسر على الخروج على الوزن، من دون أن أفكر في قصيدة النثر أو مستقبل الشعر العربي. كنت أحاول التعبير عن ذاتي فقط... وما زال هذا همّي الوحيد. وأظن ان التعبير عن الذات أهم من أي شيء آخر الفَقْد شُغِفْتُ بك بما يكفي لتحرير مدينة كاملة محتلاً بك مثل عاصفةٍ في الرواقِ جسدٌ يَخُبُّ في الحديد بطُرق تَنْحتُ اطرافي ما من ليلٍ الا وكَنَستُ كوابيسهُ بأهدابي وما من شهوةٍ الا واختلجَ بها الدمُ. ذهبتُ اليك اليك وأنت في مخدع الليل في خديعة النهارِ اليك وانت في بهجة الجسد مأخوذاً بحديدة العَسف. كلما وضعتُ عليك عضواً لئلا تُصيبك الوَحشةُ انتابتني النِّصالُ، النصالُ كلها. وها جسدي يكادُ ان يذهبَ مشغوفاً بك وانت في الفقد. قصيدة من ديوانه "قبر قاسم" نومٌ صغير في قصيدة طويلة في النص الصغير الذي كتبه "هوراس" نهاية المئة الاخيرة قبل الميلاد بعنوان "فن الشعر" لن تستطيع الجزم، في ضوء التخوم النقدية الرائجة في زماننا، ما اذا كان هذا النص رسالة شخصية او نقداً ادبياً ام هو موعظة حميمة الى اصدقاء ام هو نص ادبي يشرف على القصيدة الشعرية. وربما جاز لكل منا ان يرى في ذلك النص تلك الاحتمالات معاً، واذا حدث هذا فإنه لن يزيد او يقلل من ادبية هذا النص في الاصل. هو ضربٌ من الكلام على الشعر بلغة الشعر. ففي النص من الحميمية ما يجعله قادراً على مخاطبة القلب، فما ان يبادرك "هوراس" منذ الكلمة الاولى بقوله "يا اصدقائي" حتى تشعر بأن ثمة روح خاص ينوي البوح لك بالحميم من الاشياء، وعندما تسمع قوله الافتتاحي عن الضحك الذي يمكن ان يثيره رسّامٌ وضع رأس آدمي على عنق جواد، فتتعرف على البساطة والشخصية التي سوف يتسم بها مناخ النص. فهذا شخص يطلب الحرية للشعراء والرسامين معاً، منطلقاً من تجارب السابقين من مؤلفي الدراما والنقاد والاغريق، خصوصاً ارسطو في كتابه "فن الشعر"، ذلك عندما يتكلم "هوراس" عن الملامح المتصلة بفن الدراما. ولعلنا نجد في الشذرات القليلة التي نختارها هنا، من مقالة "هوراس"، افقاً لا يزال يطال القضايا الجوهرية التي يصادفها المرء في مجال التجارب الشعرية والمسرحية المعاصرة. ليس لأن الشعرية هي الجذر الاصيل لفن المسرح فحسب، ولكن ايضاً لأن الكتابة الراهنة هي الآن تعمل على التلاقي الحميم بين اشكال التعبر الادبي في مساحة قابلة للمزيد من الاجتهادات الابداعية، وهي تظل ايضاً متصلة بالروح الشعري العميق الذي لا تخلو منه الكتابة الادبية المعاصرة في سعيها لأن تكون جديدة. من كتابه "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر"