عندما اعلن قائد "جيش لبنان الجنوبي" المتعامل مع اسرائيل اللواء أنطوان لحد قراره الانسحاب من جزين وعدد من القرى المحيطة بها، ووافق المسؤولون الاسرائيليون على هذا القرار بعد تفهمهم الظروف التي دفعت الى اتخاذه، شعر اللبنانيون بكثير من القلق لا بل الخوف. فهم من جهة تذكروا المحاولات الاسرائيلية المستمرة خصوصاً اثناء عهد حكومة بنيامين نتانياهو المتطرفة لفك التلازم بين المسارين التفاوضيين اللبناني والسوري، وتذكروا تحديداً ان مشروع "جزين أولاً" الذي طرح اكثر من مرة كان احد ابرز الوسائل لإنجاح هذه المحاولات، وخشوا ان يكون هذا القرار محاولة جديدة من هذا النوع، لأن التجاوب معها وان في صورة غير مباشرة من شأنه زعزعة الاستقرار الداخلي السياسي اولاً والامني ثانياً لأنهما هشان اساساً ولأن استتبابهما لم يحققه وعي اللبنانيين وموافقتهم على الدور الفاعل لسورية لا بل وجودها السياسي والعسكري في لبنان. ولأن ايضاً لا شيء يمنع تزعزعهما في حال ازاحت سورية مظلتها عن لبنان. ولأن اخيراً لا شيء يمنع سورية من رفع هذه المظلة لتأكدها ان فصل المسارين يؤذيها على نحو مباشر، لا بل ان الهدف الاول منه هو إلحاق الضرر بها الامر الذي يطلق يديها من اجل المحافظة على مصالحها ومنع اسرائيل من النجاح في مخططاتها. أحداث 83 و85 وخشي اللبنانيون من جهة ثانية ان يفلت "الملق" بعد الانسحاب من جزين ومحيطها وان يتكرر فيها ما جرى في مناطق لبنانية اخرى انسحبت منها اسرائيل في الماضي وابرزها اثنتان: منطقة الجبل العام 1983 وشرق صيدا العام 1985، وانعكاسات ذلك على العافية التي استعادها لبنان وان بجهد سوري مباشر ورعاية عربية ودولية، لكن عندما نفذ "جيش لبنان الجنوبي" قراره الانسحاب من جزين من دون ان يؤدي ذلك الى مضاعفات امنية او الى تدهور امني واقليمي بسبب الموقفين الرسميين الحازمين اللبناني والسوري وبسبب وعي قيادات المقاومة للاحتلال الاسرائيلي على تنوعها وفي مقدمها "حزب الله"، وبسبب تأكيد الولاياتالمتحدة عدم توقع اسرائيل اي مقابل للانسحاب وضغطها الكبير على الاخيرة لجعل هذه الخطوة عاملاً مساعداً لاستئناف المفاوضات على المسارين اللبناني والسوري، تبدد الخوف وخف القلق. لكن يبدو ان قدر اللبنانيين عموماً هو ان يبقى الخوف مسيطراً عليهم وان يبقى القلق طاغياً على مشاعرهم، اذ ما كادت "فرحتهم تصل الى قرعتهم"، كما يقال، حتى حصل الحادث الاجرامي المؤسف في صيدا الذي اودى بحياة اربعة قضاة كانوا ينجزون عملهم على "القوس" وأوقع عدداً من الجرحى. وأعاد ذلك الخوف الى نفوسهم ليس بسبب بشاعته فحسب بل ايضاً لعدم وجود مبررات ظاهرة له وخشية ان يكون مقدمة لزعزعة الاستقرار، ولغياب المعطيات التي تدل على مرتكبيه او على الجهات التي خططت له. وهذا الامر افسح في المجال امام التكهنات والتحليلات المتعلقة بهوية الفاعلين وبدوافعهم واهدافهم. السوابق والعواطف لا تزال السلطات اللبنانية الرسمية تقوم بتحقيقاتها لجلاء الغموض المحيط بهذه الجريمة البشعة. بمعاونة الاجهزة الامنية السورية الموجودة في لبنان، لكنها لم تصل بعد الى نتيجة نهائية او على الاقل الى استنتاجات، علماً ان المعلومات المتسربة، تشير الى امساك المحققين بخيوط من شأنها المساعدة في جلاء الحقيقة. الا ان ذلك لا يمنع اللبنانيين من تحليل الجريمة البشعة في محاولة منهم لفهم دوافعها ومعرفة مرتكبيها والمخططين لها. وهم يستندون في تحليلاتهم الى جملة امور، منها السوابق ومنها العواطف ومنها المواقف السياسية، لذلك فإنهم يصلون الى استنتاجات متنوعة وأحياناً متعارضة لا بل متناقضة. ولا بأس من الكلام عن هذه الاستنتاجات لأن الرأي العام اللبناني او بالاحرى الآراء العامة اللبنانية تتداولها اعلامياً وشعبياً وسياسياً، ولأنها تشكل الى حد ما دائرة تقع داخلها كل الفئات او الجهات التي يمكن ان تكون لها مصلحة معينة في جريمة عاصمة الجنوب. وأبرز الاستنتاجات التحليلية الآتي: 1 - يلقي بعض الجهات السياسية والحزبية المعادية ل"القوات اللبنانية" من زمان و"للرحم" الذي طلعت منه اي حزب الكتائب القديم باعتبار ان "كتائب" ما بعد الحرب وتحديداً في الاعوام القليلة الماضية لا تمت له بصلة كبيرة عملياً، رغم الكلام العلني. ويلقي هذا البعض مسؤولية حادث صيدا على "القوات"، ويبرر موقفه بما يعتقده هذا التنظيم المنحل بقرار من مجلس الوزراء قبل سنوات انه تعرض له على يد السلطة السياسية وكذلك على يد القضاء الذي نفذ آراءها وتوجيهاتها ولا يزال يتعرض له، خصوصاً ان قائده ينتظر قريباً جداً صدور الحكم عليه في قضية اغتيال رئيس الحكومة السابق رشيد كرامي. ولا يعتقد البعض نفسه هذا ان "القوات" قادرة على تنفيذ جريمة في حجم ما شهده قصر العدل في صيدا، لذلك يحصر اتهامه بعناصر "القوات" في الخارج، وهم من المحترفين الذين لهم علاقات قوية مع جهات كثيرة في لبنان وخارجه قادرة بما لها من عملاء على الاقدام على عمل بشع من هذا النوع. 2 - يلقي بعض المحللين السياسيين مسؤولية جريمة صيدا على التيارات الاسلامية الاصولية السنّية اللبنانية التي تشكل "الجماعة الاسلامية" عمودها الفقري. ويبرر موقفه بالاحكام التي اصدرها القضاء في حق عدد من المنتمين الى هذه التيارات بعد تحميلهم مسؤولية عدد من الاعمال الجرمية. ويبرره ايضاً بحوادث مماثلة حصلت في الماضي وتحديداً بعد الحرب في مناطق لبنانية معينة وكادت ان تشعل فتنة لولا حزم السلطة ومن ورائها سورية، ولولا اعتماد القيادات الاصولية السنّية مواقف تدعو الى التهدئة وتلافي المواجهة. وهذه التيارات موجودة في لبنان وفاعلة خصوصاً في المدن الساحلية الكبيرة، وصيدا احداها. 3 - يلقي محللون آخرون مسؤولية جريمة صيدا على الفلسطينيين، خصوصاً على الاسلاميين الاصوليين منهم ويبررون ذلك باعتبار الدولة عدداً من هؤلاء خارجين على القانون وبقيامها بملاحقتهم استناداً الى احكام قضائية عدة. وأبرز هؤلاء "أبو محجن" المتهم بالتخطيط لأكثر من عملية والذي نجح في الفرار من يد العدالة والذي يقيم على الارجح في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين حيث لا وجود عسكرياً للدولة اللبنانية لاعتبارات اقليمية معينة. ويبرر هذا البعض موقفه ايضاً بسلسلة الاعتداءات التي حصلت في صيدا ومنطقتها خلال العامين المنصرمين، وبسهولة الانطلاق من المخيم لتنفيذ العمليات الاجرامية وبسهولة العودة اليه طلباً للحماية او هرباً من قوى السلطة، وتالياً يتحول هذا المخيم الى ملجأ آمن ولو الى حين لكثيرين من الخارجين على القانون. ولا يستبعد كثيرون وجود علاقة ما بين الاصولية السنّية الفلسطينية والاصولية السنّية اللبنانية، خصوصاً في الجنوب نظراً الى تلاقي المصالح على اكثر من صعيد. 4 - لا يستبعد آخرون ان تكون لجريمة صيدا علاقة بأمور غير سياسية ينظر فيها القضاء وقد يظهر التوسع في النظر فيها جهات كبيرة ورؤوساً كبيرة لها مصلحة في ارهاب القضاء والسلطة السياسية. ومن هذه الامور تزييف العملات او ربما الاتجار بالمخدرات. هل يعني ذلك ان اسرائيل "بريئة"؟ قطعاً لا، يجيب المحللون السياسيون لان مصلحتها واضحة في زعزعة الاستقرار في لبنان او في الضغط عليه لفك التلازم بين المسارين اللبناني والسوري او لضرب المقاومة او وقفها على الاقل. لكن اسرائيل تستطيع ان تنفذ جريمة صيدا مباشرة وبواسطة محترفين من عندها وقد تستطيع تحقيق غاياتها بدفع جهات لبنانية او فلسطينية او بالاحرى اشخاصاً لبنانيين او فلسطينيين لتنفيذ الجرائم المطلوبة. ماذا يستنتج من هذه التحليلات ومن التسريبات عن التحقيقات؟ الاستنتاج المبدئي الذي يخلص اليه كثيرون يرجح ان يكون مرتكبو جريمة صيدا دخلوا مخيم عين الحلوة الفلسطيني طلباً للحماية مستفيدين من عدم وجود "الدولة" داخله لاعتبارات معروفة. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا وانطلاقاً من هذا الاستنتاج هو: هل تدخل الدولة مخيم عين الحلوة عسكرياً للقبض على المجرمين المحتملين المسؤولين عن مجزرة صيدا او عن آخرين مسؤولين عن جرائم اخرى؟! والجواب ليس سهلاً لان الاسباب التي دفعت السلطة اللبنانية والسورية في الماضي الى التريث في دخول مخيم عين الحلوة لا تزال قائمة، وأبرزها اثنان: الاول الحرص على القدرة على استعمال الفلسطينيين في مقاومة اسرائيل في حال قررت الانسحاب من لبنان والبقاء في الجولان السوري، وأدى ذلك الى اتخاذ المقاومة اللبنانية وعمودها الفقري "حزب الله" قراراً بوقف العمل العسكري بعد تحرير الارض، لكن من دون "تحمل المسؤولية المباشرة عن ذلك". وهذا الامر يوفره بقاء الفلسطينيين في عين الحلوة خارج السيطرة الرسمية للبنان وتالياً لسورية. والثاني الوصول من جراء دخول المخيم الى نتائج تصب في النهاية في خانة توطين الفلسطينيين خصوصاً بعد الضجة الدولية التي قد تثار ضده بتغذية من السلطة الوطنية الفلسطينية واسرائيل في آن واحد والتي لا بد ان تتركز على وضعهم المزري وعلى ضرورة تحسين ظروف عيشهم وتمكنهم من العمل وتالياً من الاستقرار في البلد. كما ان الاسباب الحالية التي تحول دون اتخاذ قرار بدخول مخيم عين الحلوة الفلسطيني مهمة بدورها، وأبرزها عدم رغبة سورية ومعها لبنان في اعطاء السلطة الوطنية الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات حجة للنيل منها او لإحراجها، خصوصاً انه منزعج كثيراً منها لرفضها انعقاد قمة دول الطوق الخماسي التي اقترحها عرفات ووافقت عليها مصر وسعت الى تسويتها لا سيما في دمشق. طبعاً يبقى هناك حل آخر يقضي بالضغط على المخيم وباستعمال القنوات الممكنة لتسليم المتهمين بجريمة صيدا او بغيرها. لكن لا احد يضمن نجاحه لأن التجارب السابقة على هذا الصعيد لم تكن مشجعة أبو محجن ولأن وسيلة الضغط الفاعل الوحيدة هي العمل العسكري الذي لا يبدو ان ظروفه متوافرة الا اذا طرأت تطورات جعلته الحل الوحيد الممكن. هل تستطيع الدولة "تنويم" جريمة صيدا مثلما فعلت بقضية "أبو محجن" وغيره؟ ليس ذلك سهلاً. فهذه الجريمة ضربت المناعة النفسية عند اللبنانيين وجعلتهم يعودون الى الاقتناع بأن ما يعيشونه من استقرار لا يزال هشاً وقد يكون موقتاً. كما انها ستدفع كثيرين الى اجراء حسابات كثيرة قبل التنقل داخل مناطق معينة في لبنان او بين مناطق معينة، وذلك مؤذ جداً. وهذه الجريمة شكلت ضربة للعهد الجديد ولدولة القانون والمؤسسات التي يحاول الرئيس لحود اقامتها. وعدم فك رموزها او على الاقل عدم القيام بعمل يزيل آثارها النفسية والمعنوية والسياسية لا بد ان يؤثر على حلم اللبنانيين الذي اطلقه لحود. كما انه قد يسهل حصول جرائم اخرى غيرها، وليس للبنان مصلحة في ذلك