مع صدور العدد الخامس من "بانيبال" تكون هذه المجلّة التي اختارت الخوض في رهان صعب، هو تقديم الأدب العربي إلى قرّاء الانكليزيّة، قد أتمّت عامها الثاني. وهذا المشروع الذي حيّاه كتّاب عالميّون بينهم بول أوستر ووليم تريفور، عرّف خلال عمره القصير بعدد من التجارب والأسماء المهمّة، ولفت الانظار برهانه على الأمانة والموضوعيّة والتنوّع، وبتجاوزه النظرة السياحيّة الاختزاليّة إلى الثقافة العربيّة. وفي هذه المناسبة تتحدّث رئيسة تحرير "بانيبال" عن منهجها وخلفيّاتها الفكريّة والجماليّة، وتشرح أهدافها وتطلّعاتها والتحديات التي تواجهها. نتحدث دائماً عن ضرورة التعريف بالثقافة العربية في الغرب وفي العالم. غير أن الجهود التي بذلت لتحقيق تلك الغاية قليلة جداً، بل شبه منعدمة في بعض الحالات. ولو أن المعنيين من مبدعين ومثقّفين وأصحاب قرار لعبوا دورهم في هذا المجال، وجنّدوا الطاقات والامكانات اللازمة، لكسب العرب معركتهم الحضاريّة ولتخلّصوا نهائيّاً من تلك النظرة السلبية إلى ثقافتهم وتاريخهم. وغالباً ما ساهم أصدقاء للثقافة العربيّة في سدّ الفراغ الذي تركناه على الساحة العالميّة، والتعويض عن التقصير في تقديم ثقافتنا للعالم. وضمن هؤلاء تندرج بلا شك مارغريت أوبانك التي عشقت العرب وأدبهم منذ شبابها. فالمثقّفة البريطانيّة تشرف منذ عامين على مشروع طموح، طالما حلم به المثقون العرب، إذ تصدر مجلّة أدبية رصينة، تقدم التجارب الابداعيّة العربيّة في لغة شكسبير. وهذه المجلّة التي تحمل اسم آخر الملوك الآشوريين "بانيبال"، تحتفل هذه الأيّام بالذكرى الثانية لتأسيسها، وتصدر عدداً خامساً يحمل غلافه لوحة للفنّان المغربي محمد القاسمي. يتضمّن العدد، إضافة الى قصائد بدر شاكر السياب وأنسي الحاج ونزار قباني، ملفاً خاصاً عن الأدب المغربي الحديث. والنصوص المترجمة ضمن هذا الملفّ تحمل توقيع محمد بنيس وحسن نجمي ومصطفى نيسابوري ومحمد زفزاف ومحمد شكري وادريس الخوري وأحمد بوزفور ومحمد عز الدين التازي وعبد المجيد بن جلون وعبد الكريم طبال ومبارك وساط وادريس الملياني ووفاء العمراني. ومن الجيل الجديد هناك عبد الاله الصالحي وجلال حكماوي وعبد الدين حمروش ومحمود عبد الغني واحمد بركات الذي توفي في ريعان الشباب. وفي العدد فصل من رواية الياس خوري "باب الشمس". تنشر "بانيبال" نصوصاً شعرية ونثرية، وقصصاً قصيرة وفصولاً من روايات، تساعد قراء اللغة الانكليزية على الاقتراب من الأدب العربي الحديث بمجمل تياراته وتلاوينه وتضاريسه. ويشارك مارغريت أوبانك في مشروعها الشاعر والكاتب العراقي صموئيل شمعون الذي استطاع ان يربط الصلة بين المجلة وأهم الأسماء العربية في الشعر والنثر والنقد. وقد نجحت "بانيبال" في اعطاء صورة أمينة وشاملة عن المشهد الأدبي العربي على تنوّعه واختلاف أصواته وحساسيّاته. وبالرغم من الصعوبات المادية التي تواجهها المجلة، فان اسرة تحريرها عازمة على مواصلة اصدارها، معتبرة ان الصعوبات تحرّضها على تجاوز الواقع العقيم ومدّ جسور الحوار والتواصل. ومارغريت أوبانك، ابنة كينيث باوندز أوبانك احد مديري صحيفة "الاوبزرفر" البريطانية السابقين، درست الأدب الانكليزي والفلسفة في جامعة ليدز وعلم اللغات في جامعة لندن. وقبل ان تصبح محاضرة جامعية، عملت في مجال التحرير والطباعة. قصدناها للاطلاع على خلفيات المشروع، فكان هذا الحوار بعد "نوبل" محفوظ كيف كانت بدايات المشروع؟ - كنت أفكر في المشروع منذ سنوات عدة، وتحديدا منذ العام 1992، عندما تمكنت من تنظيم مهرجان خاص بالثقافة العراقية بعد ان دمر هذا البلد الذي يعتبر مهد حضارات وثقافات مختلفة كان لها دور كبير في اثراء الحضارة الغربية، فأرجعته الحرب الى القرون الوسطى. وشيئا فشيئا راحت نظرتي إلى الأدب العربي تتعمق، كلّما اكتشفت تجارب قطر جديد. وقد لاحظت ان هذا الأدب ليس معروفا في بريطانيا، إلا من خلال كتّاب يعدّون على اصابع اليد. بعد منح جائزة "نوبل" لنجيب محفوظ في العام 1988، بدأت أعمال أدبيّة عربيّة تنقل الى الانكليزية. غير ان الهوة بين الشرق والغرب ظلت عميقة بسبب الحروب والمشاكل السياسية والاقتصادية والدينية وغير ذلك من العوامل التي تفرق أكثر مما تجمع وتوحد. وربما لهذا السبب كان العرب وما زالوا يحضرون في ذهن الغربيين عبر انماط مسطحة للغاية، تسبب النفور اكثر مما تسبب التقارب والتحاب. وقد فكرت، والألفية الجديدة تقترب بانه من المفيد، اذا أردنا ان نقضي على هذه النظرة الفوقيّة إلى العرب، ان نبرز الأدب الذي يكتبونه حالياً. كيف بدأ اهتمامك بالأدب؟ وما علاقتك تحديداً بالأدب العربي؟ - كان والدي صحافياً في جريدة "الاوبزرفر"، وكان يعشق قراءة الشعر والادب الكلاسيكي. ومنذ طفولتي، كنت محاطة بالكتب والآثار الادبية والشعرية. كل مساء، كان والدي يقرأ لنا قبل النوم، روايات تشارلز ديكنز، خصوصاً روايته الشهيرة "ديفيد كوبرفيلد". الكتاب والشعراء الذين كنت أحبّهم، شجعوني على قراءة الادب والشعر الانكليزي الكلاسيكي. فيما بعد عندما اصبحت تلميذة ثم طالبة في قسم الادب والفلسفة في جامعة ليدز، وانصب اهتمامي على الادب والشعر الثوري، خصوصاً شعر تيد هيوز، هذا الشاعر القادم هو ايضا من يوركشير. لقد هزّت قصائده كياني، شأنها في ذلك شأن قصائد رفيقه توني هاريسون القادم من يوركشير. بعد الجامعة، تعرفت على العديد من العرب في لندن، ولم يكن باستطاعتي ان افهم سبب صعوبة العثور على أعمال ادبية عربية مترجمة الى الانكليزية. وكنت على يقين بانه يوجد في البلدان العربية شعراء وكتاب يستحقّون الاهتمام كما في أميركا اللاتينية واوروبا الشرقية واليابان والصين والهند... فقررت اصدار مجلة تسدّ هذا النقص. كسر طوق الجليد بعد عامين على دخول هذه التجربة، كيف يتراءى لك المشهد العام للأدب العربي؟ - انه مشهد ثري ومتنوع ومعبّر عن الواقع الغني والمتعدد والشائك. ليس مشهدا موحداً، بل متنوع ومناقض كلياً للصورة المستهلكة التي يملكها الغرب عن العالم العربي... هناك أدب جديد في العالم العربي اليوم، ولا بد من اخذه في الاعتبار. هناك طبعاً حضور لا شكّ فيه للأدب العربي الكلاسيكي الذي اكتشفته في مكتبات الجامعة. لكنّنا نركّز أيضاً على الأدب الجديد الذي يكتب اليوم. الكتّاب الذين نقدمهم في "بانيبال"، يعيشون في العالم العربي وخارجه، وبعضهم اختار العيش في المنفى أو أرغم عليه : رجال ونساء منهم من هو معروف، ومنهم من لا يتعدّى انتشاره دائرة ضيّقة من القرّاء. وبالنسبة إلي أنا المختصة في اللغة، الكلمة هي دائماً في المقام الاول. أما الكتابة فتأتي بعد ذلك. معظم الكتّاب الذين تنشر لهم "بانيبال" يكتبون بالعربية التي هي لغتهم الأم، لكن هناك كتاب عرب يكتبون بالانكليزية والفرنسية. ويمكن القول إن مجلتنا تقدم لقارئ الانكليزيّة صورة عامة وحقيقية عن المشهد الادبي في العالم العربي، بمختلف تضاريسه وتلوناته وتياراته. ما هي ردود فعل الكتّاب والقراء الغربيين؟ - كنت متأكدة من ان المجلة ستنال اعجاب جزء أساسي من النخبة الأدبيّة والثقافيّة. لكن هاجسنا الأساسي اليوم هو مراعاة الأمانة: كيف ننقل النصوص من العربية الى الانكليزية من دون أن نخونها؟ الأمر مع النصوص النثرية أقل خطورة من الشعر. وصلتنا ردود فعل كثيرة، وتلقيت عشرات الرسائل التي تشيد بالمجلة. الكاتب الاميركي بول أوستر اعتبر المجلة جهداً عظيماً يجب المحافظة عليه. وكذلك الأمر مع الكاتب الايرلندي وليم تريفور. وفي مهرجان الشعر العالمي الأخير، التقيت شعراء كباراً ابدوا اعجابهم بالمجلة، وبعضهم فاز بجائزة نوبل او البوكر او البوليتزر مثل جيسواف ميوش وديريك ولكوت ومايكل اونداتشه وسنودغراس وغالواي... وعلينا ان لا ننسى ان معظم الكتّاب والشعراء والنقاد العرب ساندوا المجلة ووقفوا الى جانبها. هل ما ينتجه العرب أهل للانتماء إلى الأدب العالمي؟ - إن "بانيبال" منبر يبلور الاتجاهات، ويقدّم جميع الألوان. وآمل ان يتوصل القراء إلى الاطلاع على التلوينات الجديدة في الادب العربي، وان ينفذوا الى الصور المتعددة والمختلفة للحياة التي يصورها الادباء العرب في كتاباتهم. ببساطة اقول ان رغبتنا هي أن نفتح نافذة هنا وباباً هناك، في البيت الكبير للأدب العربي... وكسر طوق الجليد لاكتشاف النتاج الجيّد الذي لا يزال الكثير منه مخفياً ومجهولاً. ان هذا الادب هو برأيي متنوع وواسع الآفاق، من حيث الموضوع والاسلوب واللغة، تماما كما هو الحال بالنسبة إلى الأدب الغربي والادب العالمي بصفة عامة. ويمكن للأدب العربي الحديث، بلا ادنى ريب، ان يقدم للعالم صورة مشوّقة وعميقة ومتعددة عن العالم العربي، بمختلف شعوبه واقلياته وثقافاته. فالكتاب والشعراء كانوا على امتداد التاريخ البشري، ضمير شعوبهم، بل ضمير العالم. في عالم اليوم، الذي يسيطر عليه الكمبيوتر والانترنيت والاقمار الصناعية، استطاع الكتّاب اللبنانيون الذين ينتسبون الى جيل السبعينات والثمانينات ان يعبروا عن مأساة الانسان الفرد في الحرب، وعن آثار تلك الحرب التي غيّرت العقليات والسلوك والنفسيات والغرائز والهويات، وحتى الصداقات والاحلام والاماني والطموحات. وفي هذا السياق نشرنا مقاطع من روايات لكتاب من امثال مي غصوب والياس خوري وحسن داوود ورشيد الضعيف وايمان حميدان يونس... كي لا يموت المشروع هل بامكان القارئ الغربي أن يحيط بتلك الاوضاع السياسية والثقافية المعقدة، من خلال ما تنشرونه من أدب وشعر؟ - نتحدث في الغرب عن العالم العربي كأنّه بلد واحد، ذو تركيبة ثقافيّة ودينيّة متجانسة، وذو نظام سياسي واحد. وهناك من يشكّ سلفاً بوجود أدب عربي يوازي في قيمته التعبيرية والانسانية آداب الأمم الأخرى. هذا الموقف ازاء الثقافة العربية في مجملها، من مخلّفات الفكر الاستشراقي الذي اكتشف الناس الآن خواءه وتخلفه وعنصريته. لكنّني واثقة من أن تطوّر الوعي الغربي بشكل لافت سيكون له تأثير على طريقة التعاطي مع العالم العربي، فكراً وابداعاً وسياسةً واجتماعاً، كما حدث بالنسبة إلى منطقة البحر الكاريبي. ما هي الصعوبات التي تواجهونها حالياً؟ - البدايات دائماً صعبة، نواجه مثلاً مشاكل على مستوى التوزيع. تحتاج الى وقت طويل حتى يمكنك ان تؤسس علاقة متينة مع القارئ. نحن نحتاج الى دعاية كبيرة، بالفعل نشرنا العديد من الاعلانات في المجلات الادبية الانكليزية، ويمكن القول اننا استعدنا 30 في المئة من قيمة الاعلانات عن طريق الاشتراكات التي جلبتها لنا تلك الاعلانات، وهذا شيء ممتاز كبداية. هناك أيضاً الصعوبات المادية: من الصعب على اية مجلة أدبية ان تواصل الصدور اعتمادا على الاشتراكات فقط. ولا بد من اصدار أعداد كثيرة قبل ان يقتنع الممولون بأن المجلة قادرة على فرض نفسها على جميع المستويات. لكننا نطلب مساعدات حتى لا يموت المشروع، إذ ليست هناك وراءنا جامعات او مؤسسات. وآمل ان يتغير الوضع نحو الافضل. كل يوم يهتف لنا الاصدقاء من جميع انحاء العالم ليقولوا لنا: "لا تتوقفوا رجاء!"، وهذا ما يشجعنا على المواصلة. نواجه أيضاً صعوبة في ترويج الادب العربي المكتوب باللغة الانكليزية... ولا بد من اعداد معرض للكتاب العربي في لندن، وربما ايضا في برلين، لتجاوز تلك المشاكل. وعلى البلدان العربية ان تهتم بهذا الموضوع اذا ما ارادت فعلا التعريف بأدبها. وهناك أيضاً مسألة الترجمة: إذ ليس من السهل العثور على مترجمين جيدين، لا يتقاضون مكافأة! ومع ذلك استطيع القول إن هذه الصعوبات تتحول الى تحديات تبعث فينا القدرة على مواصلة العمل. والجدير بالذكر، ان "بانيبال" كانت أحد شركاء "معهد العالم العربي" في الاحتفال بالأدب المغربي خلال معرض الكتاب العربي - الاوروبي الذي أقيم أخيراً في باريس. ماذا عن المستقبل؟ - عندما انظر الى الاعداد الخمسة التي انجزناها، اشعر برضى كبير. نشرنا اكثر من عشرة حوارات مع مبدعين بارزين بينهم أدونيس، غازي القصيبي، عبد الرحمن منيف، ايتيل عدنان، سركون بولص، كوستا غافراس... كما نشرنا مئات القصائد وعشرات القصص القصيرة لشعراء وكتّاب 90 في المئة منهم تنقل اعمالهم الى اللغة الانكليزية للمرة الأولى. أما بالنسبة إلى المستقبل، فما زال لدينا الكثير من الأفكار والمشاريع. نأمل ان نعد ملتقيات وندوات ادبية حول ترجمة الادب العربي الى اللغة الانكليزية واللغات الاوروبية الاخرى، وندوات حول الشعر العربي والانكليزي. ولا بد من الاشارة الى اننا بدأنا نتلقى الدعوات لحضور المؤتمرات التي تناقش مسائل اللغات والترجمة، مثلما أخذت علاقتنا تترسخ بالناشرين ليس في لندن فحسب، بل في اوروبا وأميركا. طموحنا كبير كما ترى، وأملنا أن ننجز شيئاً منه