عدم معرفة الغرب بالأدب العربي، هو الاحساس الذي يسيطر على العربي هنا في الغرب. فالقارئ الغربي النهم والمحب للإطلاع يقع ضحية "السوق" الذي يتحكم فيه الناشر مثلما تتحكم فيه بورصة البن والبترول: سياسة في الأساس ثم ربح، في الاساس أيضاً! وبين وقت وآخر يبزغ ضوء خافت يريد ان ينير ما حوله. غالباً ما يكون بالجهود الذاتية. وخطورة الجهود الذاتية انها، قد تسقط عند تعرضها لهبة ريح باردة، او بتعبير أدق لأزمة مالية. في هذه الأيام وبعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر ايلول، سيطر على سوق الكتاب الغربي اهتمام محموم، لا يخلو من غرض، بتسليط الضوء على "الشرق" فظهرت كتب وكتابات للمستشرقين والأكاديميين معظمها تبحث في الدين والسوسيولوجيا الخ. لذا يلتفت الواحد إلى بصيص الضوء الخافت يريد ان يحوطه بالعناية وان "يسلط عليه اضواء كاشفة" لئلا يذبل مثل أضواء سبقته ويختفي. اسلط الضوء هنا على شخصية تبدو من بعيد بسيطة وهادئة، لكن ما أن تقترب منها حتى، تشعر بدفقات من حيوية عارمة وذكاء متوقد واصرار عجيب. الحيوية الاصرار، انتجا للعالم الغربي مجلة متخصصة في الأدب العربي، لم يسمع بها البعض في العالم العربي ويتجاهلها البعض الآخر! المجلة هي "بانيبال" والشخصية التي أوجدتها هي السيدة الانكليزية مارغريت اوبانك، ابنة صحافي انكليزي كان مديراً لتحرير صحيفة "الاوبزرفر" سنوات عدة هو كينيث باوند اوبانك. ومارغريت من مقاطعة يوركشاير التي اعطت للادب البريطاني الشاعر تيد هيوز ومن قبله الاخوات برونتي وآخرين. ولست ابالغ ولا أجامل ان وصفت مجلة "بانيبال" المتخصصة بترجمة الادب العربي الى الانكليزية، بأنها اصبحت مرجعاً مهماً وأساسياً لمعرفة الادب العربي لمن يريد التعرف على هذا الادب او الاستمتاع بقراءة ابداعات الكتاب والشعراء العرب. "ناضلت" هذه المجلة بصبر عجيب، واستمرت في الصدور بانتظام منذ العدد الاول الذي صدر في شباط فبراير 1998 وحتى العدد الاخير. خلال زياراتي الى لندن، تعرفّت الى مارغريت اوبانك، محررة وناشرة مجلة "بانيبال" وإلى زوجها صموئيل شمعون العراقي الآشوري ووجها لي الدعوة لزيارة منزلهما، حيث ذهبت اكثر من مرة والتقيت هنالك بسعدي يوسف وامجد ناصر وسمير اليوسف وسيف الرحبي وحصلت "دردشات" طويلة بيننا حول الادب العربي و"بانيبال" وقضايا الترجمة. هنا حوار مع الناشرة حول المجلة والقضايا المتعلقة بها. كيف جاءت فكرة تأسيس هذه المجلة، هل هي نتاج عشق للأدب العربي أم ماذا؟ - كنت دوماً مهووسة بالادب، وايضاً بالنشاط السياسي اليساري. ففي مرحلة الجامعة كنت اعمل مع الحركات التروتسكية. كنت استيقظ في الخامسة فجراً لكي اوزع جريدة الحزب الذي انتمي اليه. عملت في هذا سنوات طويلة. انتمائي السياسي الفكري المتحرر اتاح لي الاطلاع على ثقافات الشعوب الاخرى، وحدث انني تعرفت إلى الكثير من الشباب العرب وصادقتهم. انا اعرف كتابات ادوارد سعيد منذ ربع قرن تقريباً. وقرأت الكثير من ترجمات الشعر العربي لكمال بلاطة وعيسى بلاطة، وقرأت "مدن الملح" لعبدالرحمن منيف وكتب وليد الخالدي وغسان كنفاني، قبل ذلك قرأت اشعاراً لبدر شاكر السياب وأعمالاً لطه حسين وروايات لنجيب محفوظ وقصصاً ليوسف ادريس. كيف خطر ببالك تأسيس مجلة متخصصة بترجمة العربي؟ - في الحقيقة فكرت في ذلك طويلاً. كنت كثيراً ما أسأل نفسي: لماذا لا تتوافر ترجمات انكليزية لهذا الادب. كنت اسمع باسماء كثيرة وابحث في المكتبات من دون جدوى. وعندما تعرفت إلى زوجي الكاتب العراقي صموئيل شمعون في منتصف التسعينات، اكتشفت انه يرتبط بعلاقات صداقة قوية مع معظم الكتاب والشعراء العرب، وفكرنا في استغلال هذا الامر لتأسيس المجلة. وفعلاً بدأنا اتصالاتنا. بدأنا بصديقنا الشاعر الاردني امجد ناصر، الذي عرفنا إلى الشاعر والمترجم الليبي الاميركي خالد مطاوع، وعندما علمت ان الشاعر العراقي سركون بولص موجود في المانيا، سافرت الى هناك واجريت حواراً مطولاً معه، وكذلك طلبت منه ان يترجم لنا... كان هذا في نهاية العام 1997. كيف تم الاستمرار؟ اقصد المجلة تحتاج الى المال. الطباعة والبريد والمراسلات والدعاية؟ - تم الصرف على المجلة من أموالي الخاصة وكان صموئيل يدفع نصف المبلغ الذي يحصل عليه من عمله الصحافي. ارجو ألا ابدو هنا، في صدد الشكوى او التبجح. استغللنا كل بطاقاتنا المصرفية، وعندما جابهنا صعوبات الاستمرار، اخذنا من المصرف قروضاً شخصية. حسناً، لقد تورطنا، ولكنها ورطة جميلة، فيها الكثير من المتعة. لم نأخذ قرضاً لقضاء عطلة صيفية، بل لترجمة ابداعات ادبية لكتاب وشعراء رائعين، وانت لا تعرف مقدار الفخر الذي احس به وانا اقوم بهذا العمل. ولا ننسى ابداً وقوف المترجمين معنا. ما هو حجم الاشتراكات عندكم؟ ألم تتلقوا دعماً من جهة ما؟ - الاشتراكات تغطي ثلث تكلفة المجلة. ومنذ ان اطلقنا موقعنا على الانترنت تسير الامور نحو الافضل. اننا نتلقى دعماً بسيطاً من مجلس الثقافة والفنون البريطاني، ومن مجلس الفنون لمدينة لندن. ولذلك بدأنا في اعدادنا الاخيرة بدفع مكافئات للمترجمين. يمكن القول بكل وضوح، اننا في البدء كنا نضع مالنا الخاص في المجلة مئة في المئة، بينما نقوم الآن بتغطية 60 في المئة من تكاليف المجلة من الدعم والاشتراكات. في خطتنا المقبلة نأمل في زيادة الاشتراكات لجعل المجلة تصرف على نفسها، كما يقولون. في السنة المقبلة تدخل المجلة عامها السادس، هل حققتم بعض اهداف المجلة؟ حدثيني عن الاصداء التي لاقتها "بانيبال"، هل أشعرت الآخرين بتواجدها؟ - اولاً الغاية الاساسية من صدور المجلة، كانت لنقل نتاجات الكتاب والشعراء العرب الى لغة اخرى، لكي يطلع عليها القارئ الغربي. في هذا الصدد تمكنا من ترجمة مئات النصوص النثرية والشعرية، لاكثر من 100 كاتب وشاعر عربي. 90 في المئة ممن ترجمنا لهم، كانت المرة الاولى التي تنقل نصوصهم الى الانكليزية. سدت المجلة فراغاً كبيراً. بشهادة الكثيرين من الاكاديميين الغربيين والمترجمين العرب، فإن مجلة بانيبال ومنذ صدورها احدثت تغييراً كبيراً في معرفة الادب العربي لدى القراء غير الناطقين بالعربية. وليس ادل على ذلك من ان الكثير من المجلات في اميركا واوروبا تنقل موادها عن مجلة "بانيبال" في ما يخص الادب العربي. ومن انجازات "بانيبال" المهرجان الشعري الذي نقيمه في آذار مارس كل سنة في مناسبة اليوم العالمي للشعر، وبالتعاون مع اليونيسكو. نحيي أمسية شعرية يحضرها شعراء عرب وعالميون، وهذه التجربة اثمرت عن الكثير من الصداقات بين الشعراء العرب والغربيين، وايضاً فتحت الطريق للشعراء العرب للتواجد في مهرجانات عالمية. هل تلفت مجلة بانيبال انظار الناشرين في لندن؟ - اعتقد ذلك. اصبحت "بانيبال" معروفة جداً في الوسط الادبي في بريطانيا. اننا نرسل المجلة للكثير من دور النشر. مثلاً، كتاب الروائي والرسام المغربي ماحي بينبين "كانيبال" الذي صدر بالفرنسية، قمنا بترجمة فصول منه، في ما بعد قامت دار نشر "غرانتا" باختيار الكتاب، الذي سوف يصدر في آذار مارس المقبل بترجمة لولو نورمان، التي ترجمت ل"بانيبال" اولاً. والان هناك دار نشر اميركية تريد منا ان نعمل مختارات قصصية من فلسطين والعراق. هناك اشياء كثيرة قامت بها بانيبال لا استطيع ان احصيها على عجلة ولا اظن ان هذا مناسب لذلك. ما هي الخريطة التي غطتها ترجمات بانيبال من الادب العربي؟ - نشرنا تقريباً لكتاب وشعراء من كل البلدان العربية. لا توجد عندنا أي معايير ايديولوجية في اختيار النصوص وترجمتها. المعيار الاول والاخير هو قوة النص والمتعة التي يقدمها للقارئ. حتى الان عملنا اربع ملفات خاصة: ملف عن الادب المغربي، ملف عن الادب الجزائري، ملف عن الادب الاردني، وفي العدد الاخير هناك 130 صفحة مخصصة للادب الفلسطيني الحديث، واعتقد ان هذا الملف سيحظى باهتمام كبير. هل انت راضية عما قدمته المجلة حتى الآن؟ - نعم اشعر بنوع من الرضى. ونحن في صدد تغيير بعض استراتيجيتنا. مثلاً، اعتمدنا في البدء ترجمة قصص قصيرة او مقاطع من روايات وقصائد وقدمنا مراجعات كتب وحوارات مع شعراء وروائيين. الآن وجدنا ان هناك مسألة اخرى وهي مهمة للغاية واقصد القيام كتابة تحقيقات ثقافية حية عن الوضع الادبي والثقافي في العالم العربي. وسنركز على مراجعة روايات ومجموعات قصصية صادرة بالعربية ونأمل من خلال ذلك لفت انظار الناشرين الى ابداعات العربية الجديدة. وسنقوم بنشر بورتريهات للمبدعين العرب. واسمح لي ان اقول هنا، انني سمعت من الكثيرين، ان وضع الادب العربي في الخريطة الادبية العالمية، قبل صدور "بانيبال" اصبح شيئاً آخر تماماً بعد صدور "بانيبال". هذا استنتاج صحيح ومفرح لنا جميعاً.