لو كان الكاتب والناقد اللبناني نزار مروة بيننا، فليس من المؤكد انه كان سيبادر ذات يوم الى جمع الدراسات والمقالات الموسيقية التي كتبها ونشرها طوال حياته، ليصدرها في كتاب. فالرجل كان مقلاً في الكتابة، غير متلهف الى النشر، يكتب لنفسه او تحت ضغط الاصدقاء فقط. ولولا الجهد الطيب الذي بذله الناقد محمد دكروب لجمع العديد من مقالات نزار مروة واصدارها في كتاب، لضاع هذا التراث النقدي المتميز الى الابد. رحل نزار مروة في العام 1992 عن عمر يناهز الستين، ولكن اياً من اصدقائه المقربين لم يكن ليعطيه مثل تلك السن. ومردّ ذلك الى ان نزار مروة هو ابن المفكر الشهيد حسين مروة الذي كان شعاره في الحياة: "ولدت رجلاً وأموت طفلاً". ثم ان حداثة نزار في تعامله مع فن الموسيقى - الذي كان يميل اليه بشكل اساسي - ومتابعته تجارب الشبان الجديدة بروح الشاب الهائم، كل هذا لعب دوراً كبيراً في مسحة الصبا التي ظلت رفيقته حتى ايامه الاخيرة. والكتاب الذي صدر، اخيراً، عن "دار الفارابي" في بيروت تحت عنوان "في الموسيقى اللبنانية العربية والمسرح الغنائي الرحباني" ما يؤكد، في مقالاته المتنوعة والمتفاوتة حجماً واهمية، الشعور بأن كاتب هذه الدراسات، له من الاطفال فضولهم ونظرتهم البريئة وعنادهم. نزار مروة لم يكن من الذين يساومون في اختياراتهم. وعلى الرغم من تتبعه الظواهر الجديدة، ومواكبته التجديدات التي طرأت على الموسيقى العربية واللبنانية طوال اكثر من اربعة عقود فقد كانت تفضيلاته قليلة، من سيد درويش الى وليد غلمية، ومن الرحبانيين الكبيرين الى مرسيل خليفة. من هنا تكاد معظم دراسات الكتاب ومقالاته تدور حول هؤلاء. اما التركيز الاكبر فهو على الرحبانيين عاصي ومنصور ومعهما فيروز، ومن هنا سمح محمد دكروب لنفسه ان يعطي الكتاب عنواناً ثانوياً هو "المسرح الغنائي الرحباني". ويعود اعجاب نزار مروة بالرحبانية الى بداية الخمسينات، حين استمع الى مغناة "راجعون" التي ظلت، حتى حقق مرسيل خليفة مغناة "احمد العربي" افضل عمل موسيقي غنائي عن القضية الفلسطينية. وفي الحالتين، كانت الناحية الفنية هي ما يهم نزار مروة اولاً، مع انه لم يغض الطرف عن النواحي الايديولوجية والسياسية والتعبوية. ومغناة "راجعون" على أية حال، ظلت منذ ظهورها تشكل المرجع في حديث نزار مروة عن فن الغناء. كتب عنها حين ظهرت، وبعد ذلك لمناسبة ثلاثين عاماً على تأليفها. وتحدث عنها مراراً خلال ندوات ومناقشات شارك فيها او ادارها. بالنسبة اليه كانت العمل الفني - الوطني بامتياز. وهو يقول عنها: "اعتبرها عملاً مهماً في حد ذاته، ومحطة مهمة سواء بالنسبة الى تاريخ الاخوين رحباني أو بالنسبة الى تاريخ الموسيقى العربية في لبنان. فهي اول عمل من هذه النوعية في لبنان، حسب علمي من حيث حجمه واتساع افقه ومضمونه الموسيقى والانساني … مغناة "راجعون" سَمَتْ فوق كل اشكال البكاء العربي العام، مثلما سمت فوق كل اشكال الحماسة المحنّطة التي كانت شائعة آنذاك، والتي لا يزال بعضها شائعاً. وهي فنياً "من الاعمال القليلة التي انجلت عن معالجة ناجحة لمسألة التعامل مع العناصر الثلاثة: الاوركسترا والصوت المفرد والمجموعة، بالمعنيين الوظيفي والجمالي". هكذا فتحت مغناة "راجعون" عيني نزار قباني على اعمال الرحابنة، وحرّكت قلمه، الكسول عادة، ليكتب عنهم كتابة الخبير المتبحر في علوم الموسيقى، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عن الكتابة عن مسرح الرحابنة، وحين نقرأ اليوم ما كتبه عن "التوازن الفني في بياع الخواتم" او الجانب الاقتحامي في ايام فخر الدين او مسألة المسرح الكلي في "هالة والملك"، او عن ردود فعل النقاد على "الشخص"… او حين نقرأ مقالته عن فيروز التي يعتبرها "ذاكرة وطن وشعب"… نكتشف ان احداً لم يكتب قبل نزار مروة او بعده عن الرحابنة بمثل ذلك الحب والعلم والدقة. ويشغل التراث الرحباني ربع الكتاب تقريباً، كما انه حاضر في الصفحات الاخرى كنقطة استناد ومرجع. ويتضمن الكتاب حواراً اجراه مروة مع توفيق الباشا حول "سيمفونية السلام" التي وضعها اواسط الخمسينات. ويختتم الناقد حواره قائلاً: "أنا شخصياً مع توفيق الباشا ومع الذين اختاروا الطريق الصعب. معهم من دون تحفظ، ومع اعادة تربية موسيقية شاملة للأذن الشائعة والذوق العام". ويغتنم نزار الفرصة ليضيف: "اننا نراهن على زمن آت تحتل فيه الموسيقى الجادة المكان اللائق في ثقافة الجمهور ووجدانه". بعد الرحابنة يأتي وليد غلمية في المكانة الثانية في سلم افضليات نزار مروة. والرجلان كانا صديقين ونزار كان من قلة من الناس تواكب اعمال غلمية حتى وهي بعد جنينية. ويكشف عن هذا الواقع، بشكل خاص، كون نزار لا يسهب ويدخل في التفاصيل والتقنيات، كعالم خبير استثنائي، الا حين يدرس اعمال وليد غلمية، السيمفونية خصوصاً في "القادسية" و"القطار الاخضر" مروراً ب "المتنبي"، العمل الذي يعتبره نزار "قفزة بالمقارنة مع القادسية" لان غلمية يقترب الى اسلوب اكثر جدلية واكثر امتداداً في التجربة الانسانية. وغلمية يوسع من حريته الهارمونية ويتخلى عن آخر آثار الكونترابونط "المدرسي" الذي يحتاج الى دراسة وتجريب صعبين، لكي يتم استخدامه ضمن المناخ الوطني. عقلية نزار الكلاسيكية وشغفه بالاعمال الكبيرة، ووقوفه من دون تحفظ الى جانب كلاسيكيات الرحابنة ووليد غلمية، لم تمنعه على أية حال من ان يقف الى جانب "الاغنية الجديدة" كنوع من الالتزام الحزبي اولاً، وكفعل اعجاب بتجارب قد لا تكون، بالنسبة اليه مكتملة، لكنه اعتبرها واعدة. من هنا نراه يكتب بحماس وربما بشيء من الابوية غير المألوفة لديه عن بدايات مرسيل خليفة وعن زياد الرحباني. ولكن حين يصدر مرسيل "احمد العربي" يتفجر حماس الناقد الدقيق، فيدير ندوة في غاية الاهمية حول الغنائية، يشرك فيها وليد غلمية ويعقوب الشدراوي ومرسيل خليفة نفسه. وهي واحدة من افضل الندوات الموسيقية التي يمكن قراءتها في اللغة العربية. تناول المشاركون، تحت ادارة نزار مروة، وبالتواطؤ الخلاق مع غلمية بعض اصعب المسائل المتعلقة بهذا النوع من التأليف الموسيقي، وعلاقته بالشعر والحدث واللغة. وفي ختام الكتاب حوار مهم أجراه مرسيل خليفة مع نزار مروة وليس العكس يوضح فيه هذا الاخير مسيرته وتراثه النقدي ويكشف عن تفضيلاته بشكل واضح. وهذا ما يجعل الناقد محمد دكروب يكتب في مقدمته المسهبة والصائبة بعنوان "نزار مروة ناقداً موسيقياً: الرؤيا الطليعية والوضوح العميق": "ان الناقد نزار مروة، الذي لم يكن يطمئن الى بقاء الثوابت ثابته، لا في مسيرة الحركة الفنية، ولا في الممارسات او المقولات النقدية التي تتجمد فلا تتغير، كانت مسيرته او رؤيته النقدية تنطلق من موقف ثابت اساسي، قد اسميه "الثابت الحركي" اعتمده نزار في معظم كتاباته النقدية الاساسية. لقد كان من اكبر واهتماماته النقدية رؤية ما يتضمنه العمل الفني الموسيقي الشعري الادبي المسرحي …الخ من عناصر الريادة والجدة والقدرة على التأسيس ولو بإشارات ولو بصورة جنينية تملك امكانية النمو. من هنا اهتمامه وبشكل تفصيلي غالباً، بتقنيات العمل، وبالتجارب والانحيازات التي توصل الى الموسيقى الكبيرة والى الرؤية الدرامية للعالم عبر تراثنا الموسيقي". ان هذا الكتاب يأتي ليذكرنا، عبر دراساته ومقالاته وحماسة كاتبه، كم ان حياتنا الموسيقية العربية تفتقد الى النقد الجاد. وتجعلنا نأسف لان نزار مروة لم يكتب كثيراً حول فن كان يحبه ويجد راحته بين ثناياه، وصداقاته بين مبدعيه… وها هو اليوم، من قبره، يبعث اليهم تحية استثنائية، جميلة، بعد رحيله الدائمة. ويأتي الكتاب ايضاً ليذكر اننا فقدنا نزار مروة، الكاتب والصديق، مبكراً، من دون ان ننتبه تماماً الى ذلك