السعودية: نستنكر الانتهاكات الإسرائيلية واقتحام باحة المسجد الأقصى والتوغل جنوب سورية    الجيش اللبناني يتهم الاحتلال الإسرائيلي بخرق الاتفاق والتوغل في مناطق جنوب البلاد    استبعاد ياسر الشهراني من معسكر الأخضر في الكويت للإصابة    مانشستر سيتي يواصل الترنح ويتعادل مع ضيفه إيفرتون    أسبوع أبوظبي للاستدامة: منصة عالمية لبناء مستقبل أكثر استدامة    خادم الحرمين يتلقى رسالة خطية من الرئيس الروسي    «الإحصاء»: إيرادات «غير الربحي» بلغت 54.4 مليار ريال ل 2023    مدرب قطر يُبرر الاعتماد على الشباب    المملكة رئيساً للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة «الأرابوساي»    وفد عراقي في دمشق.. وعملية عسكرية في طرطوس لملاحقة فلول الأسد    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    تدخل جراحي عاجل ينقذ مريضاً من شلل دائم في عنيزة    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    السعودية وكأس العالم    أفغانستان: 46 قتيلاً في قصف باكستاني لمخابئ مسلحين    المملكة ترحب بالعالم    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    وطن الأفراح    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    الصادرات غير النفطية للمملكة ترتفع بنسبة 12.7 % في أكتوبر    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    %91 غير مصابين بالقلق    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار غير منشور أجراه نزار مروة مع زياد الرحباني : عاصي أعجب بموسيقاي وفيروز أفادتني بحسها السليم
نشر في الحياة يوم 12 - 12 - 1998

قبيل وفاته في العام 1992 أجرى الناقد نزار مروة حواراً مع الفنان زياد الرحباني شمل بداياته الموسيقية والمراحل التي اجتازها وطوّر خلالها تجربته الرائدة. وكان الناقد الراحل يتهيأ لكتابة دراسة عن موسيقى زياد الرحباني أسوة بدراساته العميقة والعلمية التي تناول فيها ظواهر مهمّة في تاريخ الموسيقى العربية. لكن الموت الذي وافاه حال دون ان يتمّ مشروعه وظلّ الحوار طيّ النسيان بل طيّ الشريط الذي سجّل عليه. وكان مروّة ينوي ان يواصل حواره مع زياد مستوضحاً إياه حول أمور وقضايا كثيرة.
واحتفاء بالناقد الراحل قام الكاتب محمد دكروب بجمع بعض الدراسات والمقالات النقدية التي كتبها مروّة طوال سنوات في كتاب عنوانه: "في الموسيقى اللبنانية العربية والمسرح الغنائي الرحباني" ويصدر خلال أيام عن دار الفارابي. وخصّ دكروب الكتاب بمقدمة ضافية تناول فيها شخصية مروّة الناقد والباحث ومنهجه العلمي.
والحوار هو من أهم الحوارات التي أجراها الرحباني ومن أشدها جدّية وعمقاً وفيه يستعيد الرحباني بداياته ومراحله الموسيقية المتتالية في قراءة شبه شاملة. ونظراً الى أهمية الحوار ننشر بضعة أجزاء منه:
نزار مروة: ما هو، برأيك، مدى التأثير الذي مارسه الاخوان رحباني على مجمل الحركة الموسيقية الوطنية وأيضاً على تكوينك الموسيقي وتبلور خطك التأليفي؟
- زياد رحباني: هذا موضوع واسع، ولم أفكر به بشكل عميق بعد، ولهذا قد لا أكون جاهزاً للجواب عن هذا السؤال بعد، ولكن ثمة أمور رئيسية قد أستطيع البدء منها، وهي تأثير الرحابنة على الحياة الموسيقية. بالنسبة لي، أنا أفصُلُ بين ما كتبوه على صعيد الكلمة وبين ما ألَّفوه على صعيد الموسيقى. فباستطاعة الواحد أن لا يؤيد ما كتبوه، مثلاً، على صعيد المسرح وما نتج عنه من موقف اجتماعي محدد، ولكنه في الوقت نفسه قد يؤيد ويتعاطف مع تأليفاتهم الموسيقية. وأعتقد أن موقفهم الاجتماعي الذي يبدو في مسرحياتهم لم يكن القصد منه إسقاطاً على وضع سياسي معيّن، وهذا ما أكدوه لي دائماً من خلال نقاشي معهم. أما بخصوص الحيز الموسيقي من أعمالهم فأنا متأثر كثيراً بهم، وبالتأكيد.
لنبدأ من المرحلة الأولى لهذا التأثير الموسيقي!
- البداية كانت في البيت حيث كنت أعيش مع والديَّ، والوالد يعمل على تأليف معظم ألحانه الرئيسية في هذا البيت، صحيح كان، مع عمي منصور وآخرين، يعملون في مكتبهم في منطقة بدارو، حيث يختبرون بعض التوزيعات ويتناقشون حولها، وحيث يجرون فيه تمرينات للعازفين والفرقة. أما الجهد الأساسي والأفكار الأساسية فكانت تتم في البيت. ومن هنا بدأتْ التأثيرات الأولى تتفاعل من خلال سماعي للوالد عندما يكون مشغولاً، في البيت، بتأليف شيء ما. ومن هنا أيضاً بدأت أحب الموسيقى صغيراً، حيث كان عمري 4 سنوات، حينها - وكما يقول لي الوالد - كنت أعزف أشياء على البيانو، طبعاً بأصبعٍ واحدة.
مثل أي طفل يعني!...
- نعم! ولكني كنتُ أُعيد دائماً بعض الألحان التي ألّفتها من خيالي... فانتبه الوالد للأمر، وطلب مني إعادة عزفها أمامه ليدوّنها نوطة موسيقية، ولا أزال أحتفظ بنوطات لألحاني تلك بخطِّ يده، وهكذا أحسست بالتشجيع منه بأن أصير موسيقياً مثله.
ولكنه - أي الوالد - لا يستطيع منعك، فهو أساساً قد اختار هذا الطريق لنفسه، إلاّ إذا كان يريد تجنيبك مأساة إنسانية، من حيث أن هذه المهنة لا تسدُّ رمقاً!...
- نعم! قد يكون وارداً في عائلات أخرى، ولكن هو لم يكن كذلك معي، بل أصرَّ على كتابة ألحاني البسيطة، واعتبر كوني أحفظ ألحاني وأردّدها دائماً، فهذا يعني دليل موهبة أكيدة وقدرة معينة يجب تنميتها. وكان يساعدني على ربط أفكاري الموسيقية عندما يسمع أن شيئاً ما كان ناقصاً في هذه الألحان. وهكذا نشأت علاقة موسيقية بيني وبين والدي المؤلف الموسيقي. أما التأثير الثاني المهم أو المرحلة الثانية من هذا التأثير، فكان عندما بدأت بالعزف على البيانو ضمن الفرقة، وذلك فقط عندما يغيب أحد العازفين، وأهم هؤلاء العازفين على البيانو كان بوغوص جلاليان.
طبعاً هذا كان بعد دراستك العزف على البيانو، فعلى من تتلمذت؟
- طبعاً: بعد دخولي في مرحلة دراسة البيانو، وقد أتت مرحلة الدراسة هذه متأخرة، أي في التاسعة من عمري. في الفترة الأولى درست على يد ريمون جلاليان زوجة بوغوص، وهذه الفترة كانت مهمة، لأنها احتوت على تشجيع مقصود من والدي لكي أتابع دراستي الموسيقية. وقد امتدت هذه الفترة 3 سنوات أو أربع، وبعدها درست على يد بوغوص جلاليان.
كيف تجلّى هذا التشجيع في هذه الفترة؟
- تجلى في موافقته على أن أشارك في الحفلات عازفاً، أو حضوراً مراقباً، من دون أن يكون عنده الاهتمام المتزمّت بخصوص غيابي المتكرر عن المدرسة. صحيح كان يهمه أن أكون دائماً ناجحاً في المدرسة. ولكن اهتمامه بي وتشجيعه الموسيقي لي كان أقوى وأكبر. خصوصاً بعد أن تبيّن له أن أفكاري الموسيقية المبكرة والأولى تحتوي على الكثير من أفكارهم وأجوائهم الرحبانية، وقد كان هذا أيضاً مُدعاة للفخر له، مما زاد تأثّري به وارتباطي بالمشروع الذي يُعدُّه لي.
هناك عائلات تُجبر أولادها على تعلم الموسيقى، حباً بالمظاهر، فهل هذا ينطبق على علاقة والدك به، أم أن مَيْلَكَ الطبيعي لهذا هو الذي حسم الموضوع ودفع به أن يتبناه كمشروع لك.
- من دون أدنى شك: إن والدي لم يُجبرني على تعلم الموسيقى، ومن المؤكد أنه استجاب لميلي الطبيعي للموضوع. ومن المفيد أيضاً أن أذكر أمراً مهماً أخذ يحصل في فترة لاحقة، عندما بدأتُ أكتب موسيقى بشكل مُستقل عن مؤسسة الرحابنة... ولكن هاجساً ما كان عند الوالد وهو: تحريضه الدائم لي على أن أتابع في الخط الفنّي الذي بدأته مؤسسة الرحابنة.
وكان هذا يتجلى من خلال تحفظاته أو مآخذه حول بعض الأفكار التي بدأتُ بتأليفها وطبعها. وأعتقد الآن أن أفكاري الموسيقية، في تلك الفترة الأولى من بداية عملي المستقل، لم تكن ناضجة ومتبلورة بعد، حيث كنتُ في طور التجريب للكثير من المدارس التأليفية ولدرجة التخبيص أحياناً. فعندها كنت أُسْمعه بعض مقطوعاتي، كان يشعر كأنني أشرد بحو الغربي، فيبدأ بتحذيري من التطرف في إدخال التجارب الغربية بشكل غير مدروس وغير حسّاس الى موسيقانا. كان يوضح لي مشروعهم الموسيقي ويدافع عنه دائماً. ويقول لي بأن لا أفكر بأن هذا المشروع هو مجرّد فولكلور وسهل، بل هو مشروع موسيقي متعدّد الجوانب ومن الجيّد أن أتابع هذا النوع من الموسيقى، أعطيك مثلاً على ذلك: مقدمة مسرحية "صح النوم" حيث "Theme" الفكرة الموسيقية الأساسية غير مألوفة من حيث النبرة الإيقاعية وأيضاً ال"Form" القالب غير بسيط بل مركب ومتعدد، أما التنفيذ في هذه المقدمة فأسندها لمجموعة الآلات الشرقية الشعبية، وليضفي هذا طابعاً فولكلورياً، في منحى درامي.
كان هاجس والدي، إذاً، أن أحاول أنا إكمال هذه المسيرة الموسيقية والتي لم تكن قد أُستنفدت بعد. وبالفعل أعتقد أن كل النتاج الذي أنجزته بعد هذه الفترة على الصعيد الإيقاعي، أساسه هذا المسار. ومن أوائل ما أنجزت كان المقدمة الموسيقية لمسرحية "ميس الريم" أشعر أن أساسها هو الخط الرحباني، ومتأثرة بهذا الهاجس الذي تحدثت عنه عند الوالد.
وهل كان معجباً بعملك الأول هذا؟
- نعم! وأعتبرها عظيمة. مع تسجيل تحفظات مثلاً: لم يكن يميل الى استعمالي لآلة البيانو في مطلع هذه المقدمة بالشكل الذي كتبته "سنكوبيّ" Sencope أي تأخير نبرة الإيقاع.
أعتقد أن هذا الاستعمال كان تعبيراً عن تأثرك الشديد بموسيقى الجاز!
- هذا صحيح. وكان والدي يسخر من الإيقاع السنكوبي بقوله... شو هالتعصيب ضحك.... طبعاً هو أحب فكرة الموسيقى عندما سمعها وكان مع هذا الاتجاه في التأليف.
هل هذا الإتجاه ما زال ملحوظاً في موسيقاك؟
- برأيي أن هذا الاتجاه الذي بدأته في مقدمة "ميس الريم" متواجد لا شك في بعض التأليفات التي ما زلت أعمل عليها الى اليوم، على رغم أنها تبدو قد بَعُدت في الشكل، ولكن الفكرة الرئيسية ما زالت مستمرة عندي، من حيث الشكل Form للأغنية أو طريقة استعمال الآلات والتوزيع والموسيقى. وقد تابعت تأليف هذا النوع من المقدمات الموسيقية وأهمها "مقدمة 87" حيث العمل مستمر ومتطور على هذه الصيغة التي وُجدت.
ماذا تعلمت في تلك الفترة أيضاً؟
- من الإمور التي تعلمتها في تلك الفترة، هي إبراز الهوية الشرقية الوطنية للموسيقى في تأليفاتي، والتأكيد على هويتي الثقافية أينما وُجدت في العالم. من خلال التركيز على المقامات الموسيقية الشرقية والمحتوية منها على أرباع الأصوات، وإبرازها بطريقة مركبة وغير تقليدية من خلال الكتابة الهارمونية لهذه المقامات. طبعاً الرحابنة كانوا منذ بدايتهم يحاولون تجارب من هذا النوع ولكن قد يكون السوق ومتطلباتها جرفتهم بعيداً عن تنفيذها أي طباعتها للجمهور، أو قد يكونون أحسّوا بأن الأذن المحلية غير متدرّبة بعد على هكذا ألحان وأغاني. وأذكر بعض هذه التجارب ومنها: أغاني "مروج السندس" حيث الهارموني قائمة على مقام "السيكاه" بشكل جميل وكامل. طبعاً هذه الأغاني غير معروفة لأنها لم تنزل الى السوق. ومع أن الوالد كان صعباً ولا يتقبّل أي تهاون في الموسيقى، ولا يحبّذ الخلط العشوائي بين الثقافتين الشرقية والغربية، ولكنه كان يُعجب بالكثير من موسيقايَ التي كنت قد بدأت أُكوِّن شخصيتي الموسيقية من خلالها.
إن الذي تقوله مهم جداً، فالوالد كان يوحي لك دائماً وباستمرار بأن الثقافة الموسيقية الشرقية مُهمة جداً وبأنها غير مُكتشفة بعد، ويجب إكمال مشروعه الموسيقي وتجاربه في هذا المجال... ولكن كيف كان رد فعلك وقتها بخصوص هذه المسألة. وكيف استفدت من كل هذا لاحقاً؟؟
- في ذلك الوقت، لم أكن لأدرك أهمية أقواله، وكنت في داخلي أعتقد أنه يريد مني أن أكون نسخة عنه موسيقياً أي كما هو... ولكن لم تمر سنوات كثيرة لأكتشف بأنه مُحق في آرائه وتوجّهاته.
حسناً، هذا الوعي الذي دَفَعَك اليه والدك. ووعيته أخيراً، ماذا أنتج؟ وكيف تجلّى في أعمالك الموسيقية؟
- أنتج اقتناعاً تاماً بالنسبة لي، بأن أية موسيقى عالمية، لم يعد بمقدوري التعاطي معها/ تأليفاً، عزفاً وأداءً/ إلا من خلال مناخ الموسيقى الشرقية - وتجلّى هذا أولاً في طريقة عزفي على البيانو للموسيقى الغربية. حيث تمر نغمات شرقية.
أي اضافة Ornaments الزخارف الموسيقية على القطعة الموسيقية لتغيير المناخ الموسيقي؟!
- نعم! ولكن على طريقة الموسيقى الشرقية، وليس كما تُكتب في المقطوعات الغربية... وباتت تصبح عادة في طريقة أدائي الموسيقي، فتغيِّر المزاج العام للمقطوعة الغربية!
هذا الوعي الجديد بالإنتماء أكثر للموسيقى الشرقية، ماذا أنتج من أعمال موسيقية محددة، من حيث الأسلوب والتفكير الموسيقي؟
- في هذا الجو والمناخ، أنتجت معظم أعمالي الموسيقية. أستطيع أن أتحدث عن تجربتي في عمل "هدوء نسبي" إن كان تسجيلاً للعمل أو حفلات. فعلى رغم صعوبات التنفيذ والتي أثرت سلباً بلا شك على إيصال الفكرة التي أردتها من هذا العمل... فهذه التجربة بالنسبة لي لم تكن موسيقي جاز فقط أو موسيقى رحبانية فقط، بل كانت شيئاً جديداً مُبتكراً حاولت أن أوصله للناس، والظروف لم تكن لصالحنا وقتها، ولو تكثَّفت هذه التجربة وكانت لها الظروف المناسبة، لاكتشف الناس بسهولة مدى ارتباط هذه الموسيقى الجديدة، بموسيقاهم الشعبية وهويتهم الثقافية الطبيعية" وللأسف التجربة لم تكن ناجحة بكل مستوياتها، وأعتقد أن الفكرة الأساسية للعمل هي صحيحة ولكن الخلل الكبير كان لجهة المجموعة التي نفّذت أو أدّت هذا العمل، ولجهة الإمكانات التقنية أساساً.
هل هذا الخلل يعود الى ظروف المجموعة أم لقدراتهم التنفيذية؟
- الإثنين معاً... أما الفكرة فناجحة وصحيحة، والمشكلة كانت في التنفيذ... أي أن تُلعب هذه الموسيقى ليس من وجهة نظر عازف الجاز الغربي Jazzman وبطريقة متعارف عليها Standard في كل العالم الغربي، ولكن أن تُلعب بإحساس العازف الشرقي - العربي... وهذا بالضبط ما لم يحصل معنا عند التنفيذ.
هل هناك أمور وعناصر أخرى تعلمتها مع الوالد في المراحل الأولى ولم تأتِ على ذكرها بعد؟
- نعم، هناك أمر مهم جداً، وقد يكون أهم شيء تعلمته من والدي، ألا وهو كتابة جملة موسيقية بسيطة وغير معقدة ولكن كيفية الوصول الى هذه الجملة كان أمراً صعباً ومعقداً. فالوالد كان يؤمن بأن العمل التأليفي على الطاولة هو بالجهد والبحث المتواصل، وليس فقط بالوحي مع أهمية هذا طبعاً... فالوحي قد يعطيك فكرة لحنية صغيرة جداً النواة ولكن لا يعطيك اللحن بأكمله... ومن هنا فالتأليف يتم بالجهد والبحث عن احتمالات أخرى ومتنوّعة لهذا اللحن النواة...
طبعاً، هل البساطة هنا تعني أن الجملة اللحنية تحمل شخصية متميزة وجمالاً طبيعياً أم أن ثمة مفهوماً آخر للوالد؟
- أعتقد أنه كان يعني ببساطة الجملة أن تكون من دون أي افتعال ليكون الجمال طبيعياً. ولكن إكمال الفكرة البسيطة يتم بالجهد العملي، أي أنه كان ضد التركيب المصطنع في التأليف وخصوصاً في كتابة النسيج الهارموني... المهم أن تستخدم كل هذه التقنيات في اتجاه أن تظلّ داخل العفوية والبساطة.
ماذا تقصد أو كيف تفهم أنت بالجملة الموسيقية البسيطة؟ وهل أنت تشعر أن جملتك الموسيقية بسيطة؟
- لا أعرف!
فإذاً، أنت تقصد بالضبط ما كان الوالد يوحي به إليك!؟
- نعم، أقصد الموسيقى التي يكتبها أو كتبها الوالد. فعندما تنظر الى ورقة النوتة Score تلاحظ ان الكتابة سهلة جداً، فتعتقد أن الذي كتبها مؤلف مُبتدىء، ولكنك تندهش عندما تعزفها، لتكتشف أن هذه الكتابة البسيطة أو السهلة جداً من حيث كتابتها هي جميلة جداً عند سماعها خُذ مثلاً مقام نهوند على درجة "دو" أو do-minor فقد ألّفوا على هذا المقام الكثير والكثير من الأغاني والألحان، ولكن كلها مختلفة عن بعضها ولا تُشبه بعضها البعض، وهذا دليل إضافي على رُقيّ اللحن عندهم وقدرتهم على استنباط ألحان بسيطة وجميلة، هذا ومع أنهم لم يستعملوا تقنية الموسيقى ال"أتونالية" ATONALE.
أغنية "ليالي الشمال الحزينة" مثلاً على هذا المقام، لماذا برأيك هذا المقام بالذات؟
- قد يكون مردّ استعمال هذا المقام بكثرة راجع لكونه مناسباً لأصوات النساء والرجال معاً.
يعني Unisex!. ضحك...
- إذا بدك... نعم!
بالفعل ثمة إعجاز في استخدام هذه المساحة الصوتية الصغيرة، لإستناط هذا العدد الكبير من الألحان... كأغنية "حبيتك والشوق" أو "يا ملكنا"... إلخ... أعتقد أنه أصبح واضحاً لي ماذا تعني بالبساطة في اللحن.
- ولكن، في الوقت نفسه لم يكن الوالد يطيق الايقاعات والجمل المربّعة!... المتساوية...
أعتقد أن هذا صحيح، فقد جمع البساطة في اللحن ومع كسر رتابة الإيقاعات المربّعة 4/4، 8/8، 16/16، إلخ... ولكن لنعد الى السؤال الأول، فنستنتج أن الدعم والمساعدة المعنوية هي العامل الحاسم الذي أثر على بداياتك الموسيقية، وطبعاً بالإضافة الى التفاصيل التقنية... فهل ثمة أشياء تستطيع تذكرها في هذه المرحلة؟
- نعم، كان الوالد ضد العمل كثيراً على الفكرة الموسيقية.
يعني أنه ضد عصر الفكرة الموسيقية عصراً الى الدرجة القصوى؟
- نعم أعتقد ذلك... في حين هو يتكل أكثر على عفوية تطوير الفكرة في مرحلتها الثانية أي التوزيع الموسيقي، وقد يعدّل كثيراً أثناء التسجيل... فبالنسبة له كان اللحن الأساسي، الميلودي melody. هو المهم. والأهم أن تنسجم الميلودي مع الناس...
قد يكون هذا صحيحاً، من وجهة نظر أن الميلودي هي التي تدخل الى قلوب الناس أولاً، فتحبها وتحفظها.
- جائز هذا!... ولكن اللافت هو، حتى أثناء دراسته ومنصور عند أستاذهم "روبيار" كان الوالد يشذ عن تطبيق القواعد الصارمة للتوزيع الهارموني، فكان مثلاً: لا يُطيق البعد الثلاثي Third Interval ولا يحبّ استعماله أبداً. وإذا أردت أن تلاحظ هذا الشيء بوضوح فاسمع أغاني "البعلبكية" فهي مختلفة جداً، فهي من توزيعه هو لوحده، وفيها يعتمد أسلوب الPedale، أي أسلوب الباص المديد: وهي أصوات لا أكورية، ثابتة في مواقعها وممتدة عبر عدة خانات موسيقية. فهو باستعماله هذا الأسلوب يدافع عن اللحن الأساسي ومبدأ تطابق الصوت أي UNISON، وطبعاً التوزيع للآلات على أساس اللون Tembr.
الPedal المقصود به Basso Ostenato... يعني الباص العنيد والذي يتكرر بإلحاح من العمل الموسيقي.
- نعم بالضبط، يعني شيئاً يشبه الموسيقى البيزنطية... فهو يقول بعدم الإكثار من التوزيعات الهارمونية، التي هي شيء يأتي في الدرجة الثانية، وأما الأساس بالنسبة له فهو اللحن الأساسي.
أنا أعتقد أن موسيقاك اتجهت بعكس هذا!... والآن السؤال المطروح، هو مدى استفادتك موسيقياً من والدتك فيروز؟
- بشكل رئيسي عبر حسّها الموسيقي السليم الذي تملكه، وكان هذا يحصل أثناء التدريب معها على أغنية ما موضوعة بعدة صيغ، فتختار هي صيغة واحدة تناسبها، يتبيّن فيما بعد، أنها بالفعل الصيغة الأصح. عندها حس موسيقي سليم فتأتي الصيغة بشكل أحلى.
وهل كانت هي لتعدل في اللحن؟
- نعم، ودائماً هذا التعديل يكون مفيداً لي وللعمل إذْ يكون أصح، وأحلى من المطروح عليها.
وهل هذا أثّر على طريقة التلحين عندك؟
- نعم. فطريقة الأداء المتميزة عندها، وطريقة لفظ مخارج الحروف، والتي دائماً تأتي بشكل سلس، أثر عليَّ في أحيان كثيرة، مما ساهم في دفعي الى استنباط طرق جديدة في التلحين.
هل تستطيع الجزم بأن هذا خاص بفيروز فقط أم ممكن أن يكون خاصاً بأية مغنية شرقية وبالمطلق، كون الغناء الشرقي يحتوي على الكثير من الارتجال والقليل من التركيز على الكتابة الموسيقية المدوّنة؟
- طبعاً لا شك بخصوصية الغناء الشرقي، ولكن ثمة شيء مميز جداً عند فيروز بطريقة أدائها للجملة الموسيقية، يعني مثلاً: قدرتها على أن تبطىء الجملة اللحنية عند نقطة معينة حسّاسة Robato ومن دون أن يكون robato هذا حراً لدرجة الفلتان Ad. Libitum، وفي الوقت الزمني المناسب تعود السرعة الإيقاعية الأولية، بكثير من السهولة والرشاقة.
هل أستطيع القول ان استعادة عاصي من خلالك أي إكمال مسيرته الفنية، تسير عندك في الاتجاهين، الأول: من خلال تلحين الأغاني الجديدة لفيروز والثاني: من خلال إعادة توزيع موسيقى كتبها عاصي، أي من خلال التأليف الموسيقي الصرف من دون كلام ولكن انطلاقاً من موسيقى كتبها عاصي الرحباني، كموسيقى "جسر القمر"، مثلاً، التي أعدت توزيعها؟
- أعتقد أن الاتجاهين هما برأيي، اتجاه واحد ولا فرق أو فصل بينهما، لكن الألحان المغنّاة، نستطيع أن نعزفها بلا كلام، وتظل مع ذلك جميلة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.