تستذكر الموسيقى العربية اليوم، ناقدها اللبناني الراحل نزار مروة، كما تستذكر حالات موسيقية مضيئة تأليفياً وجمالياً وسياسياً في أعمال سيد درويش والمسرح الغنائي الرحباني وغيرهما ممن أمدوا التجربة السماعية النغمية بما يحاكي غليان مرحلة التحرر من الاستعمار وصعود الأفكار القومية وبدايات تشكل سؤال الهوية الوطنية في العالم العربي. وفيما يجتمع بعض ممن عاصروا نزار مروّة وأحبوه وقدّروا سعة معرفته وحزم موقفه من الحركة التأليفية الموسيقية الخامسة مساء اليوم، في قاعة «أسمبلي هول» في الجامعة الأميركية في بيروت بدعوة من برنامج أنيس مقدسي للآداب وبرنامج زكي ناصيف للموسيقى، فإن أشدّ ما تستذكره الموسيقى العربية هو واقع الصمم النقدي بالمجمل حيال تجربة سماعية حافلة بالضجيج الاستهلاكي غير المبدع. كما تقف الموسيقى إزاء إشكاليتها الفعلية في مناسبة كهذه متمثلة في إهمال رجالها ونسائها، وهن قلة نادرة خرجت إلى الضوء على صعيد التأليف بأي حال، لأمثال مروّة الذين حاولوا في صميم عملهم أن يفتحوا النقاش بالدرجة الأولى حول ثلاثية علائقية مترابطة تقوم بين الإبداع التأليفي الموسيقي والتراث الغنائي العربي والحراك النقدي. منذ أمسك نزار مروة، ابن السنوات العشر، «مغيّطة» وطلب من أخيه الأصغر أن يشدها بعيداً عنه ليضرب عليها كالوتر ويختبر العلاقة بين المسافة والصوت، تكوّن السمّيع الناقد العارف والمحبّ للموسيقى وكبر ليصبح ناقداً موسيقياً، كان ولا يزال، من القلة النادرة التي بحثت وتبحث في القالب والأسلوب والتعبير والتاريخ والدلالة في الموسيقى العربية. وتعلق منذ تلك اللحظة أيضاً، بأصوات الغراموفون الذي كان يستعيره مع الأسطوانات من بيت الجيران والأصدقاء ليستمع إلى موتسارت وباخ وشوبان. كتب مروّة انطلاقاً من خمسينات القرن الماضي، وبشكل متقطع حتى وفاته عام 1992، مجموعة لا بأس بها من المقالات تضمنت تصوراً مطّلعاً وشغوفاً لإمكان فهم دور الموسيقى في الحركة الثقافية العامة وتحديداً في فترات التحولات. وأثار فيها الإشكالية المعاصرة والراهنة اليوم في التعامل مع التراث كحلبة صراع بين «سلفيين» موسيقيين ومجددين متطرفين. فمن ناحية، لا يختلف سلفيو الموسيقى عن غيرهم من السلفيات في الدعوة إلى استعادة ماضٍ افتراضي نقي وخالٍ من التناقضات الهوياتية، على رغم قلة المصادر المتوافرة منه وعلى رغم ما يثير ذلك من دلالات. فيما يجد المجدّدون في انفتاح الأفق وسعة الاحتمالات المترافقة في المعنى مع مفهوم «التحرر» آنذاك طموحاً جامحاً لتطليق الإرث والحكم على الموسيقى العربية على قاعدة «تخلفها» عن أنماط من التأليف الموسيقي كمثال التأليف السمفوني. ويجد المطلعون والمشتغلون بالموسيقى في هذه الإشكالية امتداداً شديد الحضور في الواقع الراهن ينطبق في كل المجالات وتتلقفه الموسيقى كغيرها من مساحات الإبداع، باستثناء بعض التجارب الفريدة لدى الشباب والتي تفتقد بشدة إلى من يرشد «السميعة» إليها. وكان مروّة تولى هذه المهمة في زمانه بقسوة شديدة الديبلوماسية وفق قاعدة كررها في كثير من كتاباته وهي التحيز للتجارب الجديدة وتشجيعها في حركتها المواكبة لمرحلة التحولات الضخمة اجتماعياً وسياسياً في العالم العربي، والإشارة إلى مكامن الخلل تأليفياً ونظرياً في الوقت عينه ومن دون مواربة. على سبيل المثال، قد يذكر العديد ممن كتب عنهم مروّة وارتبطوا معه بصداقات عميقة أنه «زعّلهم» أكثر مما أرضاهم في أقواله وكتاباته. وإن كان مروّة انطلق في مجال الكتابة في النقد الموسيقي بسبب علاقته المبكرة مع الموسيقى الرحبانية بدءاً من عام 1952 واستشرافه فيها فصلاً فريداً من التجديد، ولا سيما في تجارب الأخوين رحباني المسرحية. إلا أنه لم يتردد في إبراز مكان الخلل البنيوي في بعض أعمالهم المسرحية الغنائية، كما لم يتحرّج من القول بأن الحرب الأهلية اللبنانية أنهت الظاهرة الرحبانية في شكلها الذي اتخذته في الستينات ولا سيما بوفاة عاصي الرحباني آنذاك وأفول الشكل الشراكي المؤسساتي في إنتاجهم. كما لم يتردد مروّة من انتقاد أعمال وليد غلمية الذي بدا أشد ميلاً لفصل الموسيقى العربية عن الكلمة الشعرية، أو زكي ناصيف الذي لم يحظ بإمكان التفرغ للعمل الموسيقي والبحثي ما انعكس في مراوحته مكانه على مدى العقود التي عمل فيها تأليفاً. بذلك، دعا مروّة الناقد الذي تعلم الموسيقى بنفسه وبفضل بعض الدروس النظرية في الجامعة الأميركية في بيروت حيث تخرج مجازاً في الرياضيات، إلى الإمعان في تشجيع الموسيقيين العرب على التأليف من دون إيقاع الظلم بالأشكال الموسيقية والفكر الموسيقي الموروثين أو الخروج بتعميمات عن موت هذه الموروثات أو عدم جدواها، بل عبر استنباط تأليفات تطورية للأشكال الموسيقية التقليدية كالبشارف والسماعيات وغيرها. ولم يكن نزار مروة أرفق بنفسه وبمهنته كناقد موسيقي حين صرّح بإشكاليات الكتابة عن الموسيقى بلغة خالية من المقارنات والأمثلة اللغوية الموسيقية أي النوطة، ما يعكس الرغبة والشغف غير المنجزين في إيصال الموسيقى ببعدها الفكري لا السماعي فحسب إلى الجميع. كما أنه وجد نفسه في تلك الهوّة من عدم التمتع بالشعبية لكونه يكتب في الموسيقى لجمهور ضيق من المتخصصين، فيما همومه ممتدة باتساع مفهوم الثقافة بالنسبة إلى شعب من الشعوب. وليلة رحيله في 18 نيسان (أبريل) 1992، وقفت ابنته ووقفت معها كل الموسيقى العربية ترثي نفسها على من أحبها كل هذا الحب ومضى.